كادت العملية السياسية في خضم الصراعات والأحداث التي جرت، على وشك الانهيار، فالتكتلات السياسية التي تشكلت منذ عام ٢٠٠٣ تأسست على مشروع يعزز الفئوية والطائفية، وافتقرت البرامج السياسية إلى المصداقية والتطبيق مماسبب عزلة واضحة في الانتخابات الأخيرة، وعزوف جماهيري واسع، ولازالت المؤشرات تعطي انطباعات سلبية على حدوث تهالك تدريجي لتلك العملية، نوعية التكتلات، والظروف العامة، والفساد والوضع الأمني السابق-والاقتصادي والتدخلات الخارجية، كلها كانت تحولات خطيرة على المشهد السياسي، وانعكاسات حقيقية لتصدع العملية السياسية.
تشكل تحالف سائرون إبان التظاهرات السابقة وما تمخض عنها من تشكيل ذلك التحالف المتكون من ( التيار الصدري بزعامة رجل الدين السيد مقتدى الصدر، والمدنيين، والشيوعيين) ولو جاز التعبير أسميناه التحالف ( الإسلامي، المدني).
جاء ذلك التحالف نتيجةً لظروف موضوعية بالغة الدقة والأهمية بل مفصلية، لذلك تم رفع شعار الانقاذ وهو ( الإصلاح) كي يتم إعادة صياغة الأوضاع وتصحيح المسارات. وترميم التصدعات الخطيرة في العملية السياسية التي أدت الى تقزيم الديموقراطية،واستشراء الفساد، وتحجيم دور الهوية الوطنية. هذا أدى إلى تكريس الإثنية ( المذهبية، والسياسية) فلاعجب أن تتأرجح قوى التوازن في تلك العملية، ولا غرابة أن تتصدع التوازنات الهشة بين الكتل السياسية، لأن البناء صار اثنياً سياسياً ومذهبياً ومن ثم ” طائفياً”.
أدى هذا المخاض إلى تولد عزلة حقيقية بين الواقع المعاش لدى الجماهير، وبين تلك التحالفات والتكوينات، وانعكست آثار تلك العزلة على الواقع الخدمي والعمراني.
سائرون كسر تلك التأرجحات وأحدث توازناً عملياً لفك خناق تلك الأزمة المتولد عنها تنافر ثقافي وتشتت للهوية.
(( الأحزاب السياسية تضطلع بدور فعال فيما يتصل بالثقافة السياسية السائدة في المجتمع إذ يمكن أن تسهم في تكوين ثقافة سياسية موحدة وجامعة لأبناء البلد… المصدر١ ))
استطاعت سائرون أن تكسر تلك الرتابة وتقفز علىٰ المسلمات الوضعية وتحاول جاهدةً في تطبيع تلك الثقافة الموحدة.فالدور الذي تقوم به هو ؛إعادة إنتاج الهوية الوطنية وتفعيلها لترسيخها كهوية اصيلة جامعة موحدة لكل فئات الشعب،[ مع الاحتفاظ بكل تأكيد بالثوابت القيمية والدينية لأنها جزء من تلك الهوية الوطنية].
فعمد ذلك التحالف من خلال تلكَ الأولية على محاولة تفتيت “الإثنية المبتكرة” والتي تشكلت كهوية فرعية على حساب الأصل، نتيجةً للتكتلات الطائفية والهوياتية والتي أفضت إلى “الإثنية المسيسة” والتي تكاد أن تكون الآن جوهراً لاعرضاً في “منظومة الوعي الجمعي”.
(( متى ما رسمت الإثنية المسيسة حدودها الاجتماعية، تصبح العملية غير قابلة لإلغاء،ومن ثم التعامل معها والاعتراف بوجودها تمهيداً لإيجاد الحلول المعقولة لتعايشها في الواقع، إذ يرى “بروبيكر” أننا ينبغي أن لانسأل بشكل مباشر ما الإثنية المسيسة؟ وإنما ينبغي بالأحرى أن نسأل كيف يتأسس الانتماء لإثنية، بوصفه شكلاً سياسياً وثقافياً- في قالب- فيما بين الدول أو داخل دولة؟…. المصدر٢)).
من المشخص الآن وعلى أقل تقدير {لغاية هذه اللحظة}، أن هذا التحالف تخطى حدود المألوف وعمدَ على كسر الهويات الفرعية والإثنية المسيسة قبل تأصلها بصورةٍ جذرية، ليحمل هوية بنكهة الوطن الواحد والانحياز للعمق الجماهيري في توظيف تلك الرؤى وتطبيقها علىٰ أرض الواقع بمشروعٍ إصلاحي يختلف جذرياً عن ادبيات المدرسة السياسية الكلاسيكية ذات الطابع الإثني والطائفي.
ومن المتوقع أن هذا التحالف سيعاني في مسيرته مختلف أنواع التحديات والتربص والتسقيط، لأن مشروعه ليس اصلاحياً فحسب وإنما في ديناميته الحركية سيؤدي إلى كسر التكتلات آلتي امتازت في إدامة ذاتها وزخمها بالآليات القديمة، فالفئات المتشابهة الآن تتفاجئ بفئة جديدة ” مختلفة” غير معهودة تحمل هدفاً موضوعياً ودلالات منطقية مهمة حتى لو لم يكن هذا التحالف ابدي وبقى ضمن حدود المرحلة لكنه تجسيد حقيقي لإنتقالة وطريقة تفكير جديدة ضمن العمل السياسي.
ظن الخصوم أن الخاصرة الرخوة لسائرون هم المدنيون بشكل عام والشيوعيون بشكلٍ خاص، مراهنون علىٰ مجموعةٍ من التقاطاعات في الادبيات الايدولوجية لدى المتحالفين، والتي أسسوا بنيانهم عليها، وإعتماداً علىٰ مؤشر مفاده ( أن هذه التقاطعات هي الجوهر في العمل السياسي).
لكن فرضيتهم هذه لم تكن صحيحة ولن تكون، فالعمل السياسي لايتضمن في صبغته التقاطعات الجوهرية تلك. لأن رافد الهوية الوطنية، ومسار التصحيح السياسي كفيل في تعزيز ذوبان الاختلافات الايدولوجية وازالة التقاطعات وفقاً للمصالح السياسية والوطنية، وتركها جانباً لاطائل من النقاش فيها أو الخوض في شكلياتها فثمة أمر جامع فوق كل تلك المسميات.
التقاطعات تنتعش متى ماكانت الهويات الفرعية مترسخة والفئوية والمصالح الشخصية ذات سيادة أعلى..! اذ ستتصدر المشهد بشكلٍ او بآخر، وقد تأخذ اشكالاً أكثر خطورةً في تطبيع خطاب الكراهية والتطرف… الخ وهذا ما ذكرنها سابقاً ومن نتائجه ” الإثنية السياسية”.
جائت ازمة التصريح مفتعلة وواضحة الدلالة بمايخص الكلام الذي صدر من بيروت، وكلام اخر جرى الحديث فيه منذ قرابة الثمان سنوات، للنائبة هيفاء الامين عن تحالف سائرون/ الحزب الشيوعي.
وذلك من خلال اجتزاء الكلام واخراجه من سياقه المضموني وإدخاله في تأويلات عرضية ولغوية بعيدة عن الأصل في الطرح الموضوعي، بينما نجد أن هناك تصريحات أكثر قوةً وأكثر تاثيراً من مسؤولين اخرين وشخصيات مهمة، لم تتصدر المشهد بهذه الطريقة ولم تحصل كل تلك الضجة الإعلامية…!
ببساطة رأى الخصوم أنها افضل طريقة في محاولة أضعاف هذا التحالف من خلال توظيف ذلك النص المجتزئ وشن حملة إعلامية وإدامة زخم الحملة لأطول امد، لتأليب الرأي العام وإحراج التيار الصدري،من خلال إعادة انعاش التقاطعات الايدولوجية ورفع شعارات قديمة لمراجع شيعة افتوا بتكفير الشيوعية! تزامنت هذه الحملة بإصدار أخبار مزيفة وملفقة على مواقع إلكترونية تتضمن تصريحات لأحد نواب سائرون عن التيار الصدري “المهندس صادق السليطي” جرى ذلك محاولةً منهم لإرباك المشهد لأعضاء تحالف سائرون، ومعرفة ميزان القوة التي يتمتع بها أعضاء التحالف ودرجة الانسجام،من خلال خنق الخيارات المتاحة وجعل الآخرين في معادلة مرمى التصريح الكلامي لا أكثر انتظاراً منهم لأجتزاء تصريحات أخرى قد تنفعهم في التوظيف.
نفسياً ايضاً، فإن المجسات تتحرك بالضد من أركان التحالف لإيجاد شرخ واختراق نفسي انطباعي داخل المتحالفين انفسهم في سائرون من الجهتين( الإسلامي، والمدني… الخ) لإحداث تباعد أما مرحلي أو مستقبلي مع إستمرار الضغط علىٰ وتر التقاطعات والمضي قدماً في إنتاج أكثر وسائل الإحراج تاثيراً، لتفكيك القوة التي تقض مضاجع الكثير من الخصوم.
ما اتضح أن المدني أو الشيوعي ليس الخاصرة الرخوة في سائرون، فإن مجريات الأمور بالواقع تؤكد أن ليس هناك فرقٌ بالمسميات، فالكل منسجمٌ مع مبدأ واحد سواءً كان ( صدرياً، مدنياً، شيوعياً، ليبرالياً…. الخ) لأن مدار التوافق الذي حصل هذه المرة لم يكن توافقاً هوياتياً ولا ايدولوجياً حتى. بل (عمقاً وطنياً اصلاحياً) جاء نتيجةً لشعور الأطراف المتفقة بخطورة المرحلة واهميتها ( داخلياً، وخارجياً). أدى ذلك إلى تخلخل واضح وارباك في ميزان القوى الأخرى.
أتصور أن هذا التوجه الحاصل، ليس بهذه الهشاشة التي يتوقعها البعض، لأن المشترك الأهم حاضر في أدبيات هذا التحالف وهو مشترك الهوية الجامعة، ممايجعل ديمومته راسخة وقوته السياسية متأصلة.
أمام سائرون الكثير من المطبات، فمسيرة الإصلاح وتفكيك المضامين القديمة، ومحاربة الفساد والمطالبة بحقوق المرأة وتعزيز الدور الوطني وغيرها من الأجندات العالقة سيتطلب وقتاً وجهداً طويلاً، وليس من السهل اختصاره بدورة برلمانية واحدة، والمعول عليه توسيع القاعدة وإشراك النخب المثقفة والشارع في مدارات ذلك الإنتاج الإصلاحي، والاستمرار معنوياً وفكرياً في ادامة زخم الإصلاحات و أحداث قفزات نوعية وملموسة بالواقع، وضخ مزيداً من المفاهيم التي تُجذر الهوية الوطنية.
ولمس ثمار الإصلاح على أرض الواقع “بالتدريج السريع” من خلال سن القوانين، والتشريعات، والمراقبة، وإستمرار قربهم من نبض الشارع والملاصقة الدائمة لهموم المواطن، والمساعدة والمساهمة في توفير الخدمات وترميم وبناء البُنى التحتية، كل ذلك سيوفر في المستقبل القريب إنجاح الأمل المنشود بدولةٍ عصريةٍ متقدمة وتحقيق الرفاهية لأبناء الوطن.
المصادر
١- شيعة العراق بعد ٢٠٠٣ الرؤى والمسارات/ إعداد وتحرير د. مؤيد آل صوينت، د. علاء حميد
٢- المصدر نفسه
٣- ديفيد ماك كرون علم إجتماع القويمة.