وأنا اتصفح كتاب تشارلز دارون “اصل الانواع” ووصفه لقواعد صراع البقاء وانتخاب الاصلح في تاريخ الطبيعة، رحت اقارن بين قواعد عمل الطبيعة، وقواعد عمل السياسة في الشرق الاوسط، وفشل محاولات الاصلاح الكثيرة. محور نظرية النشوء والارتقاء لصاحبنا، يقوم على ان الطبيعة دقيقة جداً في اختيار الاحسن. ومترجمو عصر النهضة العربي الاوائل، كانوا يستخدمون مفردة “انتخاب الاحسن”. والانتخاب الذي تقوم به الطبيعة، يفترض انقراض صور الحياة الاقل امكانية والادنى ملاءمة للظروف، وبقاء الاصلح الاقدر على التطور. وقبل ان اسأل نفسي: اذن مابالنا ننتخب احياناً نطيحة ومتردية لأخطر المناصب، فإن دارون (وكأي عدو للعملية السياسية) اخذ يوضح ان الطبيعة لا تكون “حرة” دوماً في اختيارها، بل هناك “تدخلات خارجية” تستدعي بقاء الاغبى وانقراض الاذكى. نعم، ان دارون يسمي هذا الاستثناء ب”الانتخاب عبر التدخل الخارجي”،
ومثاله على هذا، انقراض فصيلة كلاب ذكية وسريعة، وبقاء فصائل اقل ذكاء وأبطأ في الجري، ويعزو ذلك مثلا الى اقبال الهنود في آلاسكا القديمة على تربية النوع الغبي، مفضلين بنيته القوية المفيدة في جر العربات، على الذكاء والسرعة التي انقرضت في كثير من الاحيان او لم تتكاثر وظلت نادرة.ان التدخلات الخارجية في قوانين دارون، تلعب دوراً خطيرا، وتؤدي الى تقديم الاغبى، على الاذكى. لكن الاثارة لا تتوقف. فمن قواعد دارون الاخرى، اختفاء بعض اعضاء الحيوان نتيجة قلة استخدامها. فالأصل ان كل من له جناحان يمكنه الطيران. لكن بعض الطيور اعتادت تناول الديدان وطأطأة الرأس فنسيت اجنحتها، مثل الدجاج الذي نسي الطيران. وهذا ما أرعبني اكثر وجعلني اخشى ان الانشغال بالعاطفة والانفعالات في بلداننا، يؤدي الى ضمور العقل والتعقل والاعتدال الذي نسينا استخدامه، لا سمح الله. اذ في باب آخر يقول دارون ان الدماغ لدى جنين القرد يشبه دماغ الكلب البالغ (الاغبى). ودماغ جنين الانسان في شهره السابع، نسخة مشابهة لدماغ قرد عمره عشر سنوات. ولعله يفترض في وصف سلسلة الارتقاء ان بعض القرود كانت تستخدم عقولها بكثرة فتطورت وأصبحت انسانا. ولكن ماذا سيحصل لو انقلبت الآية، وتركنا استخدام العقل بضعة قرون؟ هل تعني يا شيخ التطور ان عقولنا يمكن ان ترجع صغيرة حمقاء مثل قرد عمره سنتان، كالدجاجة التي انشغلت بالديدان فتصاغرت اجنحتها المهملة وعجزت عن الطيران؟
الله يستر، لكنني لا أشعر بالقنوط، فالعظماء يدخرون حكمتهم القصوى لخواتم كتبهم. وفي آخر صفحات “اصل الانواع” يصوغ دارون عبارة كأنها نص صوفي فيها دواء لليأس، ورسالتها عندي، انه رغم اخطاء تطبيق قانون “البقاء للاحسن” ورغم “تدخلات الخارج” مثل نموذج انحياز هنود آلاسكا الى الانواع الغبية من الكلاب، ورغم ضمور العقل في بلاد كانت حكيمة، الا ان “حرب الموت والجوع” حسب تعبيره، لابد ان تحصل على نهاية مناسبة، وتؤدي الى انقراض الاكثر غباء والاقل تطوراً، وليس تسلط الحمقى سوى تاريخ عابر، فحركة الكون قادرة على ان تكنس الحمقى. ولنأمل ذلك حقا.عبارة دارون الاخيرة في الكتاب ببلاغتها ورومانسيتها مضبوطة على ايقاع التأمل الطويل لساعة الكون وآثار اقدام الصانع، يكتب: “ان أسمى هدف في هذا العالم هو نشوء الحيوانات الراقية، وهو يتحقق من حرب الطبيعة ومن الجوع والموت. ان هناك جمالاً وجلالاً في هذه النظرة عن الحياة، بقواها العديدة التي نفخها الخالق لأول مرة في عدد قليل من الصور، او في صورة واحدة.
وبينما ظل هذا الكوكب يدور، كانت وما تزال صور الحياة تتطور، من مثل تلك البداية البسيطة، صور لا نهائية، غاية في الجمال وغاية في العجب”.
نقلا عن صحيفة المدي