تعتمد البلدان المتقدمة في مقاربة مسارات التفاعلات الخارجية وأنماط التبادلية المصلحية في الساحة الدولية، على مجموعة من القواعد الحيوية، و بناء على ما تمتلكه من موقع جيو سياسي فاعل ونظام سياسي ناضج يمتاز برؤيته الاستراتيجية المتوسطة والبعيدة المدى، وقدرات اقتصادية عالية وموارد بشرية هائلة، ومن وجود تماسك اجتماعي متين يضبط مسار العلاقات والتفاعلات الاجتماعية الداخلية، ويتحكم بخطوطها ومسارات تفاعلاتها الطبيعية، ومن توفر تنظيم دقيق لسلم الأولويات يُمكّن الدولة من تحقيق مقدار كبير من “القوة” يسمح لها بتحقيق أهدافها، بعد ان تُحسن توظيف امكاناتها وقدراتها وتستثمر طاقاتها ومواردها بالصورة الامثل والطريقة الافضل وفق معيار “المصلحة الوطنية” الذي يمثل القبّان الرئيس لحساب نسبة الارباح والخسائر الاستراتيجية و يُعد مقياسا لنجاحها او فشلها.
بعد عام 2003م عمدت اميركا الى تأسيس دولة عراقية تعطل دورها الاقليمي بحكم موقعها الجيوسياسي المهم الذي بات ورقة مهملة فقدت قيمتها على طاولة المعادلات الاقليمية والدولية، فباتت على هامش الحراك الدولي والاقليمي حتى فيما يخص قضاياها الداخلية، دولة أُنهكت واستنزفت قدراتها الاقتصادية وتبددت مواردها الطبيعية، وتعرضت جدران نظامها السياسي للتصدع والتآكل بفعل الاسس اللاموضوعية التي لم تقارب المعطيات الميدانية والاجتماعية والتاريخية بطريقة واقعية، دولة لم تُوزع فيها مصادر القوة ومراكز السلطة بين مكوناتها الاجتماعية على اسس دستورية واعراف قانونية وحقائق نتائج الممارسات الانتخابية، بل على أسس محاصصاتية وسياسة ارضائية توافقية، ليتم ادارة الصراع السياسي التنافسي على مبادئ طائفية وقومية تداخلت معها الغايات الحزبية والاطماع الشخصية فضلا عن الاجندات الخارجية، وانعكست على العلاقة بين مكوناته الاجتماعية وادخلت البلد في حالة من الفوضى الشاملة، التي كان لها ارتداداتها الحتمية على السياسة الخارجية ما افقد الدولة رؤيتها العامة بفعل اختلال بارومتر سلم الثوابت والاولويات وبسبب ذوبان مقدار “القوة” المفترض على كل اللاعبين السياسيين في الداخل العراقي، في عملية ادارة للتوازن ما بين القوى السياسية وفقاً للتصورات الامريكية وسياستها الراعية للعملية السياسية، بات معه هؤلاء اللاعبون يمتلكون القدرة على لعب ادوار سياسية خارجية على حساب دور الخارجية العراقية المركزي، التي فقدت هويتها الوطنية وقدرتها على التأثير في مسار التفاعلات الدولية والتعاطي ايجابا مع ملف العلاقات الخارجية.
لا يبدو اننا قادرون على ايجاد حلول لمشكلاتنا البنيوية، دون وجود قيادات سياسية قادرة على صياغة خطاب متوازن يتسم بالاعتدال بعيداً عن الانفعالات الطائفية والهواجس المذهبية والغايات الحزبية في مقاربة المشكلات الحالية ومعالجة الازمات العراقية، فاستمرار فصول حوار الطرشان بين القوى والكتل السياسية لن يخرجها من ازمة ولن يحل لها مشكلة، وسينتهي بها الى الاصطدام بنفس الحائط الذي طالما تكسرت عليه احلام العراقيين الوطنية.
ولعل اول هذه الحلول هو وضع اطار شامل للعملية السياسية على اسس وطنية وفق معيار المصلحة العامة، يعالج الثغرات الدستورية ويسد النواقص القانونية وينظم العلاقة بين القوى السياسية ويدير الصراع بينها في اطار الدستور المتكامل ودائرة القانون الصارم، ويضع حلولاً جذرية لمعضلة المحاصصة الطائفية والقومية ويرفض الحلول الخارجية وبالخصوص الاميركية، ما سينعكس على شكل استقرار سياسي و تماسك اجتماعي وارتفاع لمستوى القدرات الاقتصادية ويوظف الامكانات والموارد الذاتية لتحقيق الاهداف الوطنية وسيؤثر على نمط تفكير العقليات الحاكمة وقيمها السياسية وانماط سلوكها.
التأسيس للخلفيات السلمية والمتينة لن يكون الا عند البناء على ارض صلبة وقوية، وهذه الخلفيات هي المقدمات اللازمة للوصول الى النتائج المرجوة، والمتمثلة بتصحيح المسارات الخاطئة ورفع فتيل الازمات المتراكمة وفك عقدها المتشابكة، ما سينعكس على حركة الخارجية العراقية وفاعليتها في ظل صراع دولي متصاعد يتخذ من الساحة الاقليمية حلبة لتصفية الحسابات ساحة لا مكان فيه للضعفاء الامر الذي يستدعي وضع رؤية استراتيجية شاملة للأوضاع وقراءة ميدانية للأحداث ومدى تداخلها وتشابكها وتقاطع الاجندات فيها وتصادم الارادات داخلها وعدم التعامل مع المحيط الاقليمي كحالة واحدة يمكن الانفتاح عليها والتعاطي الايجابي معها في كل وقت او غض الطرف عن الثوابت الوطنية وتاريخ المواقف السلبية لبعض القوى الاقليمية دون حساب للأرباح والخسائر لبلد يُمكن له ان يلعب دورا مؤثرا ويشكل قطبا اقليميا فاعلا في ساحة ساخنة.