لا يمر الشراع على العاقل مرتين، بحسب المثل الشعبي المتناص مع حديث الرسول.. صلى الله عليه وآله: “ما عثر مؤمن بحجر مرتين” والعرب الذين يعيشون منظومة قيمية مفتعلة، يتقاتلون لاجلها، من دون هدف، يستحضرون الظاهرة اللغوية الجوفاء، التي انتشرت طوال القرون الظلامية الوسطى في اوربا، من الخامس الى الخامس عشر، تأكل القارة ابناءها، متقاتلين دولا ومذاهب، في سبيل طرح كلامي لا رصيد مقابل له على ارض الواقع، من قبيل:
– هل الملائكة لديهم اجنحة ام لا؟
– هل المرأة انسان ام حيوان؟
يتجيش مؤمنو الكاثوليكية، لأجلها، ضد البروتستانت، ومؤمنو الارمن ان لم يقتلوا احقاقاً لاجنحة الملائكة وحيوانية المرأة؛ فهم براء من دين يسوع المخلص.
الكنيسة، تبعا للحكومة، تغذي تلك السذاجة المميتة، في سبيل ايجاد قضية ينشغل بها الرأي العام، تقاتلا ما بين شعب نسي جوهر مشكلته في الملبس والمأكل، وعني باجنحة لن يراها ونوع جنسي موجود، تصنيفه لا يحل مشكلة سياسية او يحقق وفرة اقتصادية، انما هو مجرد سفسطة لغوية؛ تغيض فيها جهود الاصلاح، مثل ماء يسكب في ارض سبخة.
هذا هو واقع العرب الان.. عموما، والعراق خصوصا، يدق الفالة عند رأس (الكطان) ويثرد قرب (اللكن) ويضع الكلام حذو معانيه ويحرف القول عن مواضعه؛ فخسر الشعب قضيته، وربح المتربصون، صيدا في المياه العكرة.. قفز على الثورات نهازو الفرص، من شذاذ الافاق، الذين تبوؤا مناصب اكبر من احلامهم.
فشريفهم توجه.. عائدا الى العراق، وهو يحلم بوظيفة مدير عام، ليجد نفسه متحكما بشؤون بلد اوسع من تطلعاته، متوليا ما لن يدعه يستنشق ريح الجنة، بحسب الحديث النبوي الشريف: “لا يشتم ريح الجنة، من يولي رجلا، وفي الناس خير منه”.
فكيف وتقمصها مَنْ كلُ الناسِ خيرٌ منه!؟
العرب والعراق اشد منهم ولوغا في جريمة الانتحار، حين يبددون قضايا اقتصادية وسياسية واجتماعية، وريع النفط الذي يجب ان يوزع على الشعب، مباشرة او على شكل خدمات… انهم ينتحرون مفرطين بحقهم في مناقشة هذه المحاور التي تخص رفاههم الراهن ومستقبل اجيالهم، منشغلين في اي منهما الافضل.. عمر ام علي؟ وما اسم قطعة الارض التي كسر لاجلها عمر ضلع فاطمة الزهراء، حين تصدت له تحمي عليا منه.
والرجلان براء مما نحل عليهما، وهذا ليس جوهر موضوعنا الان، لكن سنفصله في عمود لاحق، ان شاء الله.
اذن فرط حتى ثوار الربيع العربي، بما حققوه، وقفز على منجزهم اناس كانوا داعمين للحكومات التي سقطت، حتى ان احدى تلك الحكومات، تحاول تشتيت انتباه شعبها عن الاعتراض عليها؛ لانها خذلت الثوار والان اخذت الحكم، بالقول:
– لا احد له فضل بالثورة، الثورة صنعها الله.
في حين الحقيقة ان الثورة صنعها الشباب بعون من الله، وانتم دعمتم الرئيس السابق، والان امسكتم بالحكم، تخوفون شعبا تعداده تسعون مليونا، من الخطر الشيعي المحدق به، والشيعة بضعة آلاف وسط هذه التسعين مليون.
وهنا تفيد الرئاسة بواسطة الجامع من انشغال تسعين مليون، توهمهم بخطر زائف يشكله بضعه آلاف! يعيدوننا الى قرون الظلام الاوربي الاوسط.
ولأن العراق اشد خصوصية في الضيم وليس الرفاه؛ فان اعتصامات الرمادي ومجزرة الحويجة، يتعاون اهلها مع الحكومة، على طلائها بالصبغة الطائفية، التي تجعلها مواجهة بين الشيعة والسنة، وليس بين الحكومة والشعب.
فكم من الجرائم ترتكب باسم الدفاع عن الحقيقة، حتى بات العراقي الذي يطالب بالحد الادنى من الخدمات التي توقر انسانيته، بماء وكهرباء وتربية وصحة ونزاهة وانجاز معاملة في دائرة حكومية من دون اهانة، متهم بالهرطقة التي اعدم بها الوف الاوربيين تحت حد المقصلة المسنونة تلهث ظلاما في اوربا القرون الوسطى.