ليس هناك أمة في أرجاء المعمورة تماثل أمة العرب ؛ في ازدرائها للأرقام ومقتها للتواريخ ، وتجنبها للإحصائيات وخشيتها من الحسابات ، وتتشائمها من الجداول وتتطيرها من البيانات . ليس فقط لأن هذا النمط من التعاطي الواقعي والطراز من التعامل الحضاري ، يفضح الطابع السلطاني لأنظمة الحكم المعمّرة فيها ، والتي تتعاقب عليها الدهور وتتناسل في عهودها الأجيال ، دون أن يطالها تغيير ملموس أو ينالها تبديل يذكر . بل لأنها ، فضلا”عن ذلك ، تلزم كل من يهتم بالشأن العام مراعاة جملة من الحقائق منها ؛ إن المجتمع لا يقاد بالجهل والنقل ، بقدر ما يساس بالعلم والعقل . وان الواقع لا يدرك بالأساطير والخرافات ، بقدر ما يسبر بالوعي والمعرفة . وان الخلافات لا تحل بالعنف والاكراهات ، بقدر تسوى بالحوارات والمشاورات . وان الدولة لا تدار بالمحسوبيات والمنسوبيات ، بقدر ما تسيّر بالقوانين والمؤسسات . وان السلطة لا تحكم بالمحاصصات والتوافقات ، بقدر ما تمارس بالشرعية الوطنية والمشروعية الدستورية . وان قيمة الإنسان لا تقاس وفقا”للولاءات والانتماءات ، بقدر ما تثمّن بالإنجازات والإبداعات . وبداية ينبغي أن نؤكد على مسألة إن كل ما يدعونا لتشخيص العيوب وتعيين المثالب وتأشير العواقب ، التي نحن بصدد تعرية أصولها ونقد أوهامها ، لا يخرج عن كونه استيحاءا” لدلالات هذه واستنباطا”لمضامين تلك ، من خلال الحصيلة الوافرة التي أفرزها – ولما يزل – الواقع العراقي ، مأخوذا”في إطاره الإقليمي / العربي بصورة خاصة ، وفي بعده الدولي / العالمثالثي بشكل عام . بمعنى إن كل ما يرد ضمن مواضيعنا المطروحة ، وجميع ما ينساب بين نقاشاتنا المتداولة ، ما هو إلاّ رجع صدى لواقع معاش وتجربة ملموسة ، لم يبرحا يفرزان إشكالات عسر الولادة المنتظرة ؛ لدولة المؤسسات الدستورية ، وسلطة القوانين الوضعية ، وحكومة الشرعية الوطنية . لاسيما وان كل هذه المعطيات السياسية والحقوقية والإنسانية ، تتطلع لأن تستأنف دورها وتمارس وظيفتها وتستعيد مكانتها وتسترجع سلطانها ، ليس فقط على صعيد قوى الداخل المحلي وما يمور فيه من حراك وتفاعل ، بل وعلى مستوى أطراف الخارج الإقليمي والدولي وما يترتب عليه من تشابك وتواصل أيضا”. والحقيقة التي لا مراء فيها هي إن خاصية السلطة في عراق ما بعد السقوط / التغيير ، يصعب إيجاد ما يضاهي نمطها ويوازي طبيعتها ويماثل سلوكها ، لا في كتب التاريخ ولا في تجارب السياسة ولا في ممارسات الاجتماع ، سواء أكان على مستوى آلية الأحداث المربكة وتداعيات مدخلاتها ، أو على صعيد سيرورة الوقائع الملتبسة وانعكاسات مخرجاتها . لاسيما لجهة تعدد سلطات رسم السياسات ، واختلاف مراكز إدارة الأزمات ، وتباين مصادر تحديد الخيارات ، وتنوع جهات تقنين المسؤوليات . وهو الأمر الذي أستتبع حصول هذا التعارض في تصريحات المسؤولين ، وحدوث هذا التضارب في صلاحيات القياديين ، ووقوع هذا التقاطع في إرادات السياسيين ، بحيث تعذر على أجهزة الحكومة ومؤسسات الدولة والمنظمات الأممية ، استكمال الخطط التنموية والتطويرية التي طال أمد انتظار عوائدها للمجتمع ، وانجاز المشاريع العمرانية والخدمية التي لم ينعم لحدا لآن بمردودها المواطن . وذلك برغم كل الوعود السخية التي قطعت في الحالة الأولى ، والتأكيدات المطمئنة التي أجزلت في الحالة الثانية ، ليس فقط لضئالة جدواها الاقتصادية وسوء مواصفاتها النوعية ، وفقا”لتسلسل الأولويات وتدرج الأهميات وتراتب الضروريات فحسب ، بل وخلافا”لجداول آمادها الزمنية ودون مستوى طاقاتها الإنتاجية والتشغيلية أيضا”. ولذلك نادرا”ما نحظى بمسؤول سياسي أو حكومي ، يستطيع أن يتحدث عن / ويناقش حول قضية من القضايا السياسية الساخنة ، أو موضوع من المواضيع الاقتصادية الملحة ، أو مسألة من المسائل الاجتماعية الملتهبة ، أو حالة من الحالات الثقافية العاجلة ، تكون وجهات نظره عنها وحولها ؛ معززة بأرقام معتمدة أو وقائع موثقة أو تواريخ معلومة . بحيث يكون بمقدور من يهتم لمثل هذه الأمور ، التحقق من صدقية المزاعم المعطاة ، والتأكد من صحة الادعاءات المزجاة . ولما كانت الذهنية العراقية المتخمة بأكاذيب الأنظمة السابقة ، والمشبعة بألاعيب السلطات المتعاقبة ، قد ألفت هذا النمط من التعاطي المفارق لشتى ضروب التحديث في التصورات والعقلنة في الممارسات ، للحد الذي أفقدها حس التمييز ؛ بين الأقوال والأفعال ، بين الواقع والافتراض ، بين الملموس والمجرد ، بين الحقائق والأوهام ، فان ردود فعلها حيال ما يجري من تسويف لمطالبيها وتحريف لتطلعاتها وتجريف لوعيها وتغليف لحقوقها ، أضحت لا تحفل بما يقال لها ويشاع حولها ، بخصوص عزم الحكومة على تنفيذ ما وعدت به الناخبين من مشاريع ، أو نية السلطة على الإيفاء بما ألزمت نفسها بتحقيقه من انجازات . وهو الأمر الذي أفضى إلى نشوء أزمة ثقة مستعصية بين الحاكم والمحكوم ، وتبلور قطيعة تواصل عميقة بين الحكومة والمواطن ، على خلفية ما لمسه هذا الأخير من تأكيد لهواجسه واثبات لتوقعاته وبرهان لظنونه وصحة لشكوكه . فعلى مدى ما يقارب العقد من الزمن ، لم يبرح إنسان هذا البلد المستباح أن تطرق مسامعه ، شتى أنواع الوعود المعسولة ومختلف أشكال التصريحات المرائية ، التي تغدق عليه طيف من الآمال العريضة والآفاق الواسعة ؛ حيث سينعم – كما يتمنى ويشتهي أسوة بأقرانه من أبناء المجتمعات المجاورة – ليس فقط باستتباب ظروف الأمن ، واستقرار أوضاع السياسة ، وتحسن عوامل الاقتصاد ، وهدوء عناصر الاجتماع ، التي باتت – كما يزعمون – أقرب إليه من حبل الوريد فحسب ، وإنما بالإضافة إلى ذلك التمتع بأعلى معدلات الثراء المادي والروحي ، وأرقى مستويات الرعاية الاجتماعية والصحية والثقافية ، ناهيك بالطبع عن انغماسه في بحبوحة من الحريات السياسية والفكرية والدينية ، بما يجعله يتذوق ولأول مرة في حياته طعم المواطنة الحقيقي في دولة القانون وحكومة المؤسسات !! . كل ذلك دون أن يكلف أحدا”من المسؤولين نفسه عناء شرح الكيفية التي سيتم من خلالها بلوغ هذه الأحلام المستحيلة ، وسط هذا التكالب المحموم على المناصب السياسية ، والتغالب المفضوح على المكاسب الاقتصادية . ولعل من سمات المتطفلين على حقل السياسة والطارئين على ميدان السلطة في العراق ، جهلهم بحقيقة إن بناء المجتمعات المتعافية ، التي تنشد الانضواء في سيرورة الحضارة الإنسانية ، لا تحتاج فقط إلى قادة أثبتوا تضلعهم بعلم إدارة تفاعل – ولا نقول تصارع – الإرادات ، وتواصل – ولا نقول تنازع – العلاقات فحسب ، بل وتوفرهم على خصائص كان عالم السوسيولوجيا السياسية (ماكس فيبر) قد لخصها حسب الترتيب التالي ؛ الشغف ، والشعور بالمسؤولية ، وبعد النظر . إذ إن السياسية (( تقوم على ممارسة جهد مضن مع ما فيه من معاناة ومن بعد نظر في ثقب ألواح من خشب قاس . ومن الصحة القول أيضا”، وهذا ما يتأيد من خلال كل تجربة تاريخية ، انه ما كان بالإمكان تحقيق الممكن ، لو لم يقم المرء في هذا العالم بالتصدي لما هو مستحيل . إلاّ أن على القادر القيام بذلك أن يكون قائدا”، ليس ذلك وحسب ، بل يجب أن يكون بطلا”أيضا”، بالمعنى الأشد بساطة لهذه الكلمة )) . وبالمقارنة مع ما يتمتع به ساستنا من إحساس طاغ بالأنا الأوحد وشعور مغرق في نرجسية الذات ، فإننا لا نتوقع أن يحظى هذا المجتمع بفرصة مشروعة ، تتيح له الخروج من عنق الزجاجة الذي حشر فيه ، كما لن تتوفر لدينا أية احتمالات بخصوص الإفلات من كماشة الانسداد التاريخي التي وضع بينها . بقدر ما سنكون شهود عيان على حجم المصائب والنوائب التي ستحيق بمصائر أفراده وجماعاته ، طالما إن العمل السياسي في الجمهورية الثالثة جرّد ، بشكل لم يسبق له مثيل ، من أبعاده الوطنية وأفرغ من مضامينه الأخلاقية وأبعد عن دلالاته الإنسانية ، وأضحى ، خلافا”لذلك ، موئل لصائدي الفرص السهلة من المتاجرين بالشعوب ، وطالبي الوجاهة الفارغة من المغامرين بالأوطان . وبدلا”من أن يسحرهم سطوع نجم القادة فتنهم خنوع حجم الأتباع ، وعوضوا”عن أن تأسرهم أمجاد الأبطال استهوتهم أصفاد العبيد !! .
[email protected]