23 ديسمبر، 2024 2:47 م

الحوارية في قصص طامي هراطة عباس

الحوارية في قصص طامي هراطة عباس

لم يكن باختين – حينما اجترح مصطلح الحوارية و تعدد الاصوات يرمي الى المعنى الحرفي لهما , فلم يرد من مصطلح الحوارية دراسة الحوار و انواعه داخل النص القصصي , انما اراد امرا اخرا بعيد الدلالة , فالحوارية عنده تتجسد في ازدواجية المرجعية التي ترتد لها الكلمة حينما يتم ترحيلها عبر اكثر من سياق , فما من كلمة الا وتتضمن معنى الحوارية لأن (( لكل كلمة وجهين , فهي بقدر ما تتحدد بكونها صادرة عن مستعمل تتحد بكونها موجهة الى مستعمل اخر انها تشكل بالضبط حصيلة التفاعل بين المتكلم و السامع )) (1)

و لابد من الاشارة الى الميل الماركسي في صياغة مفهوم الحوارية عند باختين اذ ان الرجل لم يتقبل الطرح البنيوي الذي عزل النص عن الحياة الاجتماعية , وبذلك فأن باختين حاول من خلال مفهوم الحوارية العودة الى التواشج الاجتماعي بوصفها حركة توصل لفظي وعملية تبادل وتحاور منظم يشمل الحياة اليومية بكل تفاصيلها , و يتحقق هذا الفعل القصصي حينما (( يقوم خطاب الكاتب بتمثل كلام الاخر و تضمينه فيختلق لنفسه افقا ينشر ضلاله واضواءه , يخلق لنفسه وصفا ويخلق كل ظروف تردد اصداء هذا الوضع , كل هذه العناصر تنفذ الى الداخل فيدرج الكاتب ضمنها نبراته و تعابيره فيخلق لنفسه بذلك قاعا حواريا )) (2)

من هنا يمكن ان نفهم ان الحوارية عند باختين تكاد تقترب من مفهوم التفاعل الاجتماعي او تداخل النصوص , او حتى من مفهوم التناص , لكن ما يمزيها عن غيرها من تلك المصطلحات , ذلك الارتداد الايديولوجي والفكري للأشخاص في القصة و هم يتواشجون بقوة في سبيل تمثل الخطابات الاخرى , و بذلك فان الحوارية قد تكون صفة لكلمة او الرواية او الخطاب عامة .

و اذا كانت الحوارية تستند الى الثنائية , فان مفهوم تعدد الاصوات عند باختين يستند الى الكثرة و ينحو الى تفاعل الاجناس داخل النص القصصي الواحد , و بذلك ميز باختين بين الحوارية و تعدد الاصوات و طبق افكاره فعليا في دراسته لدستوفيسكي

و على الرغم من ان المطالع لكتاب باختين قد لا يجد ما يعينه في بسط هذين المفهومين , الا اننا سنعمد الى استقراء المفهومين : الحوارية و تعدد الاصوات – و تمثلا تهما في قصص طامي هراطة عباس – و هو قاص عراقي من مدينة كربلاء – لعلنا نضع اليد على مفاضل التواشجات النصية في بنائه القصصي في مجموعته ( دورة السبات القصيرة ) التي تتكون عن عدد من القصص القصيرة .

في قصة ( رمل و غبار ) يجد القارئ نفسه امام فعل لا انساني يمارس بحق امرأة لا ذنب لها سوى انها تعلمت الحرية و لم تعد تخشى الكاهن الاعظم و عرفت بان القصب قد تصنع منه اشياء غير نواح النايات الحزينة وان فروعه قادرة على الهمس في اذان الواح الطين الصامتة و جعلها تنطق بالحب و الحكمة .

و بذلك يبدو ان صوت هذه المرأة او كلماتها يرتد الى عشرات القصص و الحكايات التي ظلت حبيسة في صدور اصحابها و كلها تضج بالسؤال : من اعطاك الحق في ان تعاقب الغير و تنسى نفسك ؟ , و من جهة اخرى فأن الثيمة الاساسية للقصة تتعد فيها الاصوات بوضوح ليبرز امام المخيلة تلك المرأة التي جلبت للرجم في حياة المسيح الذي التفت الي القائمتين على رجمها متوجها بالسؤال : من لم تكن لديه خطيئة فليرجمها ؟ فما كان منهم الا ان غادروا ساحة الرجم جميعاً !!!!

و في قصة اخرى في المجموعة ذاتها تحت عنوان (( قطار الشرق الاسود ) نجد انفسنا امام حكاية الشرق بكل ظلاميته وسوداويته , فالرحلة المفترضة عبر القطار نحو الشرق تمثل حوارية مع الذات فنحن ابناء الشرق قد مسنا الضر من التهالك على محبة العمى الفكري , فليس هنا في الشرق سوى الحفلات الخاصة بالبتر الجنسي , فما زلنا نمارس ختان الاناث في هذه الانحاء , و ما زال الامل يحدونا ان يهبط ضوء ما من اي كوكب او مجرة ليهد هذه الظلمة المتجبرة و يختزل فصل الليل الشرقي , و في هذه القصة يتمثل الفعل الحواري في المرجعيات المزدوجة لألفاظ مثل ( الشرق الاسود ) بدل ( الشرق الاوسط ) , و جلوس الناس على جهة اليمين في القطار كناية  عن التقليد وانعدام النفس الثوري , و رفض ادارة القطار حمل المطبوعات و الكتب و المصابيح المتوهجة و كل ما يثير حفيظة الشرق .

و في قصة (اشباح الطاولة) تنشطر ذات الراوي الى اكثر من شخص لتتجسد في القصة حوارية ثرية بالمرجعيات , لا سيما و ان الراوي وضع نفسه موضعا لا يحسد عليه ازاء استفزازات السائق الايراني الذي عبر بصاحبنا الاراضي الايرانية المزروعة بذكريات الحرب والدمار فبين الذات الخائفة والمتوجسة مما يضمره السائق وبين الذات العراقية الرافضة لاستفزاز الاخر الايراني وبين ذات تحاول الغلبة والنصر على الخصم انقسمت ذات البطل (الراوي ) وراحت تلج في حوارية عنيفة انتهت بالمصافحة مع السائق ,لكنها لم تشي بالصفاء مطلقا .

وفي قصته المعنونة (شرابين الخيول ) نجد القاص يحاول ان يجسد ثيمة فيها من الطرافة الشيء الكثير تمثلت في مساومة احد الرسامين على ان يقوم برسم لوحة لكي يطلق سراحه , لكن ما يميز القصة هو ذلك البعد الخفي الذي كان صدى لحوارية واضحة داخل كل صوت من اصوات القصة فالسجان كان موزعا بين الظلم  والفن والمرتهن او الفنان كانت ذاته تعيش حوارية واضحة بين ان يمتثل للسجان او يميل الى ممارسة فنه في رسم اللوحة , هذا التعدد خلق لنا مفارقة مركبة ان جاز التعبير زادت الموضوعة الاساسية للقصة تشويقا اكثر .

وتعدد الاصوات في عدد من القصص المجموعة بشكل يوحي بان القاص يعمد الى ذلك من اجل تكريس فكرة ما او وصفها او تسفيهها او طرحها للراي الاخر ومن تلك القصص قصته (مقاسات يوم ضائع) التي تبدو للوهلة الاولى وكأنها صرخة استهجان لما تمارسه احزاب المعارضة من ممارسات لا تمت لوعي المعارضة بشيء والقارئ لهذه القصة قد يجد نفسه وجه لوجه امام عوالم السياسة المليئة بالحسد ,وقواميس البذاءات المستترة بظلال المعاني البذيئة كما يصفها الكاتب نفسه . ومن جهة اخرى نجد ان فعل السرد في مجموعة (دورة السبات القصيرة)يأخذ بالتنامي بصورة افقية نمو تحقيق تمثلات الحوارية المفعلة بالنسغ الحكائي الذي تميز به القاص طامي ,وهذا الامر لا يعني تذويبا كليا للوضوح او البساطة كما عهدناها في القاص انما تعني تمازجا مقصودا بين بساطة الحكي وعمق الفكرة مثل ما نجد ذلك واضحا في قصص مثل (بضعة مواسم فقط) و(مقبرة النجوم) و(من فصل الغياب الماضي) ويبدو تفاعل الاصوات داخل الاصوات واضحا في القصة المحورية ضمن المجموعة (دورة السبات القصيرة) فالقارئ يتلمس ذلك بوضوح من خلال تناقض تصرفات الشاب بطل القصة الذي يعمل في احدى المختبرات ,ويعيش وجها لوجه امام تحركات الخلايا والفيروسات التي تفتك بالناس من خلال منظاره الطبي ليجد نفسه لحظات طويلة في علاقة حميمية مع تلك الكائنات الغريبة وهو في كل ذلك لم يتمكن من الانسلاخ من عالمه الواقعي : عالم امه , والنساء الجميلات في شوارع بغداد فالأساس في عمل القاص في هذه القصة يتمثل في حسن تنسيق الاصوات واقصد الاصوات المتعددة داخل الشخصية الواحدة وشخصية الشاب خير مثال على ذلك فهو موزع بين الحقائق العلمية في مختبره .وغيبيات والدته وتوسلاتها وعبادتها التي تبدو عنده احيانا مدعا للشفقة ,وبذلك فان الحركة التفاعلية بين الاصوات في هذه القصة وفي قصص اخرى ايضا لاتني تتحرك بل يبدو مسيرها واضحا نحو الانصهار والاستقطاب ببودقة حكائية ربما لا يجد القارئ مناصا في الوقوع تحت تأثير هيكلها وصياغتها , وربما نجد الشيء ذاته في مجموعة الثانية للقاص طامي هراطة عباس المعنونة (ما بعد الهطول)التي ضمت بين دفتيها اثنتا عشرة قصة قصيرة , اتضح من خلال متابعة خيوط السرد في عدد منها ان القاص حاول تخليق عوالم عن طريق التهكم والسخرية كما في قصته (قبل الهطول) التي كانت شخصية (فالح الارمد) يبدو وكأنها تمثل اصوات ملايين الشاكين في مقدرة الزيف على ان يحقق لهم شيئا.

وقريب من ذلك قصته (ما بعد الهطول) فقد يلاحظ القارئ تواشجا دراميا شفيفا بين بطلها (صارم الاحدب) وبطل القصة السابقة (فالح الارمد) تمثل في الشك الذي يساور كلا منهما .

والملاحظ على مجموعة (ما بعد الهطول) اعتماد قصصها اغلبها على الطبيعة كمنطلق اساس للفعل السردي ، و لا يخفى ما في هذا الصنيع من تأكيد على اهمية البيئة بشقيها الزماني والمكاني في ادارة دفة السرد عند القاص طاهي هراطة عباس , فقد كانت بدايات قصص المجموعة الثانية تسرد بالجمل الاتية :

ـــ  طلعت الشمس ، حمراء ، بغيضة ، ومعادية في سماء بالغة الصفاء ، والزرقة ــ قصة قبل الهطول ص5.

ــ تزاحمت الغيوم فوقنا كتلا سوداء متراصة ــ قصة ما بعد الهطول ص9 .

ـــ حملت الينا تلك العاصفة كل صقيع العالم وتمكنت من عزلنا ــ قصة احلام الصقيع ص19.

قبل الفجر كنا خلفه ببضع خطوات ، منحنين على الارض نتفحصها ــ قصة الحدوة والجدار ص26 .

ــ في السنة صفر كانت الارض فتية والكون متسع بشكل مفرط ــ قصة نذر فناء المعبد ص24.

ــ في السادسة والنصف عصرا بدأ شهر ايلول سخيا في مطلعه اذ تلقينا بضع نسمات مقبولة ــ قصة اخر العنقود ص66 .

ــ قلب الارض المعتمة لم ينبض بعد ــ  قصة بذور ص72 .

ولا بد من الاشارة ، اخيرا ـ الى ان قصص المجموعتين : دورة السبات القصيرة وما بعد الهطول ، تمثل ذاكرة كاتبها ، وربما ذاكرة جيله من العراقيين ، عبر مسارات متنامية حاولت تأطير الحدث الواقعي الذي عاشه بسياجات حكائية ، نجح القاص في ان تكون مثمرة وخصبة على الرغم من ان اغلبها  انبثق من رحم المعاناة .