إلى أين يصل محاوران لا يعرفان قواعد الحوار العلمي؟ لم أشهد حوارا ما بين اثنين مخالفين لا يعرفان قواعد الحوار وأصوله قد أفضى إلى قناعة احدهما برأي أو ما يذهب إليه الآخر فيما يتعلق بالعقائد والمذاهب والآراء المختلفة وغيرها مما يشكل فكر الإنسان ومعتقداته الشخصية او معتقداته التي يتشاركها مع جماعته او الفئة التي ينتمي إليها. الأمر يتعلق الامر بطريقة الحوارات والمناظرات والكيفية او المنهجية التي تدار فيها. القصد القدر الذي تتسم به من العلمية والموضوعية، والعدالة، والتي هي المؤشر الحقيقي المبدئي الذي يمكننا من خلاله ان نعرف حقيقة ما يراد التوصل إليه خلال المناظرات العقائدية. ونقول هنا العقائدية، فالمناظرات التي تتناول الموضوعات العلمية ذات الصلة بالاكتشافات والاختراعات وغيرها مما هو مادي او حتى ما يتعلق بالنفس الواحدة او حياة الجماعات والشعوب والمستند إلى دلالات علمية واقعية، لا نجد فيها كثيرا من التحيز، إلا في حالات الغش في نتائج البحث العلمي والتي تكمن اسبابها في التحيز لجهة ما. إلا ان مثل تلك الحقائق لا تلبث ان تظهر للعيان من خلال العلم، واخفاؤها او التلاعب بها لا يلبث ان يزول بالعلم ايضا. فالحقائق المادية تفرض نفسها عيانية، اما موضوع المعتقدات وما يؤمن به الناس، فيأخذ من وقت الفرد والمجتمع الكثير، إذ ان الناس كثيرا ما يعتمدون في ما يعتنقون على ميراثهم من الآباء والاجداد والاهل.. والإنسان إلى حد كبير هو صنيعة بيئته، وهذه حقيقة علمية فيما يكتسب من مفاهيم وافكار وكل ما يتعلق بحياته. يبقى كثير من الناس على ما نشأوا عليه، فهم يظنون ان ما هم عليه هو الحق، وأن منهجهم هو الأصوب. وإذا فكرنا في ان الناس يتغيرون، فالأغلب أن الناس يتغيرون بدءا بالمصادفة، ولو اننا لا نؤمن بالمعنى الدارج للمصادفة، بل هي ما يجعله الله تعالى مسببا للإنسان ليقف عند حد ما فيتفكر ويتأمل ويعيد ويقرر ما عليه ان يكون لبقية حياته. والعملية لا تقف عند حد، بل قد تكون سلسلة من التحولات والتنقلات من فكر إلى آخر، ومن جماعة لأخرى، حتى يتبين الإنسان العاقل المفكر إلى حقيقة جوهرية قد تفند كل ما سبق او تثبته.
الإنسان العلمي الذي يريد التوصل إلى الحقيقة، سواء أدى به ذلك مصادفة، او بسبب حيرته المستمرة، وبحثه عن الحقيقة، لا شك أنه بحاجة إلى ما يطرح عنه فكره الذي لم يغنه من الحق، او يريد التأكد مما يطرح أمامه من أفكار ومعتقدات وغيرها، والإنسان بطبيعته ميال إلى ما يحب ويهوى، فإذا ما توافق الرأي مع أهوائه، مال إليه، إلا أن الإنسان المتفكر عكس ذلك تماماً، هو من يطرح أهواءه وميوله جانبا، لأنه يريد أن يصل إلى قناعة تامة ترشده في حياته. مثل هذا الإنسان يقرأ ويستقريء، بمعنى أن يقرأ عما يريد معرفته، ويطلع على ما كتب او قيل فيه وعنه من قبل الآراء والاوجه المختلفة والمخالفة، والأخرى الموافقة والمتفقة. وبالنهاية سيجد نفسه امام خيارات عدة عليه ان يقرر أيها سينهج على إثرها، وهذا يعتمد بالدرجة الأولى على مدى إيمان الفرد وثقته بنفسه في ان يتخذ القرار الصائب، فلا يجعل من الآخر معياره أو حدوده. فإن كان هذا الإنسان ممن يريدون الحقيقة ليتبعوها، كان قراره سهلاً أيا كان، وإن ناقضت ما كان عليه، وفندت ما آمن به. والذين يبحثون ليكتشفوا الآخر وكيف يفكر، فهم يماطلون، ومثل هؤلاء، في الأعم لن يتغير فيهم شيء، غير انهم اوقعوا على انفسهم الحجة ولم يتبعوها، بل ازدادوا جهلاً وتعصباً، وإن وجدوا فيما قرأوا الحق، وجدوا أنفسهم في حيرة أكبر، وعاشوا صراعا مريرا فيما بين ما ألفوه واعتنقوه، وبين الحق الذي انجلى امامهم والحقيقة التي غزت عقولهم. والتعصب هنا يلعب دورا كبيرا في تلك الحالة المريرة التي يجد المتعصب نفسه فيها في خضم الحقيقة الجلية. فكيف يواجه نفسه والآخر بتلك الحقيقة، بأي وجه وقد امضى حياته فيما لا وجود له، او باتباع الأوهام..تلك الموضوعات تبقى تدور في عقل المتعصب، حتى يغلب عليه احد امرين، يرتدي قناع الحقيقة الزائفة ليمضي بقية أمره وهو مدافع عنها للحفاظ على ماء وجهه ويبقى بنظر الآخر الأقوى والأحق، والآخر أن يموه على نفسه والآخرين أنه يعلم، فيأخذ بتغيير مساراته بشكل غير ملاحظ، حتى يبني فكرة مفادها أنه ممن عرفوا الحق مسبقا. وبالتأكيد أنه لسلوك ذكي ويساعد المتعصب على ان يجد لنفسه منفذا للتخلص من صراعاته.
ذلك لن يحدث ان سلك المحاورون منهجا علميا هادفا. أي حوار أو مناظرة لا بد ان تكون ذات هدف محدد وموضوع محدد، خالية من التمويه ومحاولات التزييف، وخالية من الاستفزاز والطعن، بل لا بد ان تطرح فيها كل ما يتعلق بموضوع الحوار ما يظن به حق وباطل، وما يسند ويثبت وما يدحض وينقض. ويبقى ما يصل إليه المناظر من قناعات هو ما يستنبطه خلال الحوارات العلمية والمنطقية، وما يدركه عقله من حقائق، وبالتالي سيعي الحقيقة، ففي هذه الحالة فقط تتجلى الحقائق وتنجلي ولا يبقى لما يغشيها من وجود. أما تلك المناظرات التي يكون الهدف منها أساسا التفنيد في كل الأحوال، ورد المخالف على أي وجه وحال، فليست مما يشمل الحوار الإيجابي والمناظرة الحقيقية، ذلك ان أساسها القضاء على الطرف الآخر في كل الأحوال. وبالتأكيد إن تلك المناظرات ليست نزيهة، وبلا شك تدخل في باب الحرب النفسية التي يراد فيها الإطاحة بالمخالف من أجل مكاسب معينة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالبحث عن الحقيقة واتباعها. ولقلة اولئك الذين يبحثون عن الحقيقة لاتباعها، فالحوارات والمناظرات العلمية قليلة، ولذلك لا نشهد كثيراً ممن عرفوا الحق واتبعوه، ولكن إذا ما وجدوا فهم الأقوى، وهم الأهم.