لا احد يستطيع ان يجزم بأن الحوار وحده يمكن ان يحل أية مشكلة، لكنه يفتح الافاق امام الحلول الممكنة ويتجاوز الحلول المستحيلة. وعلى هذا الاساس اصبح الحوار احد السمات البارزة في عالمنا اليوم في ظل حقيقة الاعتماد المتبادل والمتنامي بين اجزائه وتأكيد ظاهرة تعديل الحياة السياسية والاقتصادية حتى العلمية.
واهمية موضوع الحوار تنبع من كثافة العلاقات المعقدة التي اصبحت تشكل نسيج هذا العالم. وكذلك، الصراعات والضغوط الخفية التي تطفو على السطح في شكل ازمات سياسية حادة بين الدول او في حروب مباشرة او حروب بالنيابة، مما يفرض في النهاية على الاطراف المتنازعة نوعاً من الحلول المتوازنة. ولا شك، ان الحوار في النهاية هو تعبير عن موازين القوى.
ففي هذا العالم الذي يموج بالمتغيرات المتسارعة وفي المناخ الراهن، يرنو نحو مزيد من التسويات للصراعات السياسية… نجد ان الحوار تزداد اهميته كسلاح فعال في هذا العصر الوفاقي الجديد ليس بين القوى الكبرى فقط وانما بين القوى الكبرى والدول المتوسطة والصغرى، ولعل هذا ما يفسر الميل الملحوظ الى تهدئة الاوضاع في مختلف انحاء العالم.
فالمتغيرات التي تطرأ على المسرح الدولي الآن، تستوجب صياغة جديدة للعلاقات الدبلوماسية وهي لن تتحقق الا من خلال حوارات تعكس المصالح المختلفة. بعبارة اخرى، من خلال حوارات تطرح الاطراف المعنية من خلالها وجهات نظرها استناداً الى قواها الفعلية والى مهارات ممثليها في هذه الحوارات.
وفي اطار هذه المتغيرات التي تشهدها السياسة الدولية، برز موضوع الحوار السياسي لتنظيم وتعميق العلاقات والروابط، حيث كمنت اهميته في مساهمته في توفير الرخاء وفي المحافظة على الاستقرار والامن والسلام. كما انه يحقق للشعوب المعنية نمواً اقتصادياً واجتماعياً يعود بالنفع على جميع الاطراف المعنية وفق مقاييس تحقق العدالة والمصالح المتبادلة، فهو امتداد لعملية اقناع فكري وسياسي، ثم هو اقناع ليس فقط لصانع القرار لتقبل مفهوم الحوار، بل ايضاً للاداة التي تتولى عملية ادارة الصراع بين الادوات المتعاملة بقصد تحقيق الحد الاقصى من المصالح المرتبطة بعملية الحوار. انه تفاعل بين الدول لتأكيد قدرتها على المفاوضة وانهاء الخلافات القائمة بينها.. فهو بهذا الاتجاه احد وسائل حل النزاعات وادارة الصراعات.
فالهدف الاول من الحوار اذن، هو تأثير جانب على جانب آخر، او محاولة اقناعه بفكرة معينة او تصويب فكرة او تخطيها. ويتوقف تأثير المحاور الى حد كبير على اسلوبه ومقدرته وامتلاكه للمعلومات والادلة العلمية والمنطقية والعملية ودرجة وعيه وثقافته واحياناً مزاجه، والفروق الفردية في الاسلوب… بالاضافة الى الطبيعة الموضوعية التي تلعب دوراً بارزاً في سير عملية الحوار والتأثير.
وفي الحوار يتفق دائماً الطرف المستعد لطرح البدائل المختلفة للنقاش المتبادل وللاوليات المتعددة في سلم تصاعدي سواء له او للطرف المقابل، وهو يستلزم الاعداد والترتيب المسبق في عصر يتميز بتقدمه العلمي وصراعه الايديولوجي.
انه يعني الجدل، بمعنى النقاش والمناظرة والقدرة على اثبات تفوق وجهة نظر المحاور على وجهة النظر المضادة. ولكن التفوق في الحوار لا يعني دحض وجهة النظر الاخرى بل يعني تفنيدها وتفهمها للرد عليها والوصول الى اتفاق مبدئي حول مجموعة من الاسس المشتركة للحوار. انه انتصار لكلا الطرفين وقد يكون كذلك نصراً لأيهما، ولكنه في النهاية تحقيق للهدف الذي وضع من اجله الحوار.
ان ما يفترض في احد اطراف الحوار، اذا كان دون مستوى المقابل في جانب او اكثر، اذا اراد ان يكسب لقضيته مناصرين ومتفهمين من مختلف الاطراف والفئات في جانبه المقابل، خصوصاً من المثقفين، فأنه لا بديل له من الحوار مع هذا المقابل. فان ايمانه بعدالة قضيته لا تكفي لكي يراه الآخرون عادلة وانما هم يرونها عادلة اذا اقتنعوا بها. وللاقتناع طرق عديدة باتت معروفة لكل لبيب.. ولكن يبقى الحوار الموضوعي في كل الظروف، الطريق الهام الذي يجب الاستمرار فيه دون انقطاع.
فالحوار الناضج يستلزم ايمان الاطراف بجدواه واعداداً مسبقاً وتبادل الاراء والافكار واستبعاد نقاط الاختلاف وتعميق نقاط الالتقاء في المناظرات، ثم الاتفاق على الارتقاء بالحوار خطوة أعلى نحو الاتفاق على نقاط جديدة.
اذن، لا بد من الحوار والمجادلة رغم قناعة احد اطراف الحوار بأنه قد لا يتفق، فقد يجتمع اثنان للمرة الرابعة والخامسة وربما العاشرة دون الوصول الى اتفاق ولكنهما بكل تأكيد سيفهمان مشاكلهما وقد يتفقان او يختلفان حولها.
لكن – قد يقع احد اطراف الحوار – في خطأ فادح اذا رفض الحوار مع غريمه حتى لو كان عدوه لمجرد انه في يوم ما اخذ موقفاً معادياً منه او انه يملك رأياً مسبقاً بالنسبة له او لصالح عدوه لا يقره عليه او لم يتفهم قضيته – قضية المقابل – على النحو المطابق مطابقة شاملة لفهمه لها.
ان مثل هذا الرفض فضلاً عن انه موقف قد يكون عاطفياً، فانه يعني تأمين كسب العدو من ناحية، كما يعني تقوقع وجمود الطرف الاول عن الحركة والمناورة والاقتناع من ناحية اخرى وبالتالي فهو غير عملي.
لا يكفي ان نسوق في تبرير هذا الرفض الحجة القائلة، انه لا فائدة من حوار مع عقول لا ترى وجه العدالة في قضية مصير احد اطراف الحوار، فهذا ليس فقط نوعاً من الكسل العقلي انما هو في الحقيقة تجاهل لحقيقة موضوعية اكدتها اغلب الاحداث السياسية التي عصفت بالعالم، واعني بها ان هذه العقول الكبيرة في الجانب المقابل وحتى في الطرف المعني بالمسألة، ترى الامور والقضايا من مواقع جغرافية وتاريحية وفكرية ونفسية مختلفة عن مواقف احد اطراف الحوار وبالتالي فزاوية الرؤية بالضرورة لا تتطابق مع زوايا رؤية هذا الطرف او ذاك، لذلك فأن العقول المفكرة والمثقفة تظل اسيرة بحدود نسبية لما يلقى اليها يومياً عن طريق وسائل الاعلام
من تحليل خاص، قد يكون مغرضاً ضد احد اطراف الحوار، للاحداث التي اغلبها مشوه عن قصد، فضلاً عن نشاط الدعاية المضادة واتصال كتابها ومفكريها بهذه العقول في حوار متصل ومتعدد الوجوه.
ان اغلب شعوب العالم المتحضر تقريباً ادركت مغزى نضال بعض الاطراف الدولية ضد اي نوع من انواع الاستعمار سواء ضد التخلف او ضد الاستغلال، وأخذ البعض منها يتعاطف مع هذه الاطراف، وعلى الرغم من ذلك، هناك في بعض الاحيان وعند القضايا الاساسية، بعضهم لا يزال لا يتفهم بعمق وشمولية وجهة نظر هذه الاطراف مما يجعلها تتخذ مواقف معينة لا تتفق وحقيقة الواقع.
وعلى الرغم من هذا الاختلاف بل وبسبب هذا الاختلاف يجب على اطراف الحوار ان تتعارف وبرحابة صدر على وجهات النظر المتبادلة وان تثابر ومن ارضية موضوعية على الحوار فيما بينها. فمما لا شك فيه ان اطراف الحوار مهما كانت عقلياتهم السياسية هم اصحاب قضية لا ينبغي اي واحد منهم ان يكف لحظة واحدة عن الدفاع عنها حتى تقتنع بها كل الاطراف التي هي اساس الموضوع على المدى البعيد.