23 ديسمبر، 2024 9:39 ص

الحنين الى (الطابور)

الحنين الى (الطابور)

لا أقصد به طبعا الطابور الخامس أو أي نوع من الطوابير التي تحمل صفة سياسية أو آيديولوجية فيها رائحة السياسة (الله يبعدنا عنها)، حتى وإن ارتأى البعض بأن السياسة أصبحت تحشر أنفها في كل تفاصيل الحياة، خصوصا في بلد، مثل بلدنا، يمتاز بانجاب فطاحل السياسيين الذين تزخر افكارهم بأحدث النظريات السياسية، غير المستوردة. اما الطابور الذي قصدته فهو حلم صار يراودني كلما شاهدت (روجات) من المتدافعين بانتظار (قسمتهم) امام أية مؤسسة حكومية او حتى فرن الصمون. والغريب أن مشهد الطابور مازال حيا في مخيلتي في عودة الى أواخر الثمانينات، حيث كان يتكرر امام افران الصمون عندما اشتدت ازمة الطحين، وفي محطة الباص في ساحة الميدان، وليست الثمانينات ببعيدة، ان تجاوزنا العودة الى زمن السلوكيات المدنية والحضارية في الخمسينات والستينات وماقبلها. ألم تكن الثمانينات أيام حرب ودم وقتل؟ ألم تشهد تردي الوضع الاقتصادي والثقافي في ظل حضارة البداوة وانتشار الكثير من السلوكيات الهمجية؟ ان المختصين في علم الاجتماع وغيره يعتبرونها نقطة التحول في بنية المجتمع العراقي التي دمرت كل مظاهر الحضارة والمدنية منذ نشأت الدولة العراقية. ونحن الآن في احضان العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، في زمن الشبكة العنكبوتية التي جعلت كل دول العالم بكل حضاراتها وسلوكياتها في متناول من يرغب بزيارتها دون ان يكلف نفسه حتى عناء المرور في شارع مطار بغداد الدولي. وثقافة الطوابير، وان تراجعت في معظم دول العالم، مازالت هي الحل الأمثل والبديل عن التدافع والسباب والشتائم ونظرات الموظف المتشفية في العراقيين (اللي يستاهلون المذلة)، وتوسلات النسوة ومنهن (مطابخه غدا)، ولعابه الذي يسيل لمرآى وجوه الشابات التي تلتمع تحت حبات العرق (فتصعد) الاخوة والشهامة املا في الحصول على رقم هاتف نقال لفتاة ترجو مساعدته ليعرض في (لزكة) آخر الليل مساومة قذرة لتمشية الامور، ناهيك عن الخسائر الناجمة من فقدان أزرار قميص هذا الشاب في حمى (المكافش)، وتلف تسريحة (متبلّة) بالجل لشاب آخر وربما فقدان أحدهم لفردة حذاء.

السطور الأخيرة ليست مشهدا من فيلم او (مبالغة) خيال كاتب، بل هي حدث واقعي شهدته خلال يومين عندما كنت جزء من هذه التظاهرة لانجاز معاملة في احدى الجامعات، مع خط تحت (الجامعات)، لأن قادة هذه التظاهرة اساتذة واكاديميين وخريجين من حملة الشهادات العليا كانوا  ضحية شهوة موظف- ربما لم يسعفه دماغه لاكمال الاعدادية- بل أسعفته علاقاته بفلان وعلان من (منظري) سياسة العراق الحديث لتمنحه سلطة تعذيب هؤلاء بزعيقه وما جادت به قريحته من الاهانات والمساومات ليطول انتظار هؤلاء لست او سبع ساعات، في ممر امام باب غرفة اغلق بباب حديدي صغير شبيه بذلك الذي تغلق به ابواب (الحضائر)، ولا يفتح الا بيد الراعي ليسمح بخروج غنمه الى المرعى. والاكثر ايلاما ان هؤلاء السادة والسيدات والانسات، الذين يحملون شهادات عليا ومعظمهم يشرف على تعليم طلبة الجامعات والذين يمكن اعتبارهم واجهة البلد الحضارية والتعليمية لم يصونوا كرامتهم بالوقوف في طابور تقليدي او اسلامي (رجال، نساء) بل تجاوزوا حتى علاقاتهم المهنية فيما بينهم كزملاء لينساقوا في ثقافة (المزاود) اي (الغلبة للاقوى)، التي لو أدرك دارون انها ستطبق في بلدي بهذا الشكل ما نطق بها. ما كان مسليا في رحلة انتظاري هذه، هو اقتراح احدى السيدات بانه كان يمكن فتح احدى القاعات المغلقة وتخصيصها لانتظار الاساتذة الاكاديميين احتراما لهم، والاكثر تسلية هو الحديث (البطران) لاحدى السيدات من الكفاءات العائدة من بلد الاوربي عن استخدام الانترنت هناك، ليس لجولات الليل السياحية، بل لانجاز المعاملات التي تصلك الى بيتك خلال يومين او ثلاثة- كما تقول. وذكرت ان موظفة اجبرتها على ترك جوازها لانجاز معاملة ما، ورغم مماطلتها خشية على جوازها من ان (ينلطش)، فهو الوثيقة التي لا يمكن التخلي عنها تحت اي ظرف، كما تقول، لكنها تركت الجواز بعد ان اكدت لها الموظفة انها ستتسلم الجواز والمعاملة بعد خمسة ايام، وفي اليوم الخامس، كانت تقف امام مكتب الموظفة من (الغبشة) فلم يغمض لها جفن طيلة خمسة ايام. لكنها فعلا استلمت جوازها مع اوراق المعاملة كاملة دون ان تضطر حتى للوقوف في طابور. لم اجد كلاما مناسبا لمواساة السيدة التي تخلت عن (ترف) الغربة –كما تقول ايضا- وعادت لتخدم بلدها الذي لايحترم الاكاديميين واصحاب الشهادات، لكني حاولت مواساتها بابتسامة، ولسان حالي يقول بسخرية (وهل يحترم احدا؟) فكتل اللحم… وفي كل المناسبات (تتدافع) وتتزاحم، وبلا (تشابيه) بيننا وبين بلد السيدة الاوربي، كما يقال، لأن الحسد وارد، فنحن أيضا تخلينا عن ثقافة الطابور (البدائية)، ليس بسبب تكنولوجيا الانترنت بل اعتزازا بفلسفة (الفوضى الخلاقة).

[email protected]