23 ديسمبر، 2024 5:41 ص

الحمد لله لاني لم اقتلك … ذكريات مؤلمة لايمكن الهروب منها

الحمد لله لاني لم اقتلك … ذكريات مؤلمة لايمكن الهروب منها

” صوت خطانا ” رواية فريدة تعرض الذكريات المؤلمة للاديبة الاسرائيلية النشاة والمصرية الاصل رونيت مطلون

تبرز جمالية رواية ” صوت خطانا ” في عرض الالام النفسية التي عاشتها الاديبة في صغرها ، فموت الاب المفاجئ، وعمل الام خادمة منازل ، العيش في حي بائس مليء بالامراض والاوبئة هي ذكريات قد اخرجتها الاديبة من طيات الماضي المؤلم.
فاذا رغبت بقراءة هذه الرواية الرائعة والمؤثرة حول حياة الاديبة رونيت ماتالون وطفولتها ، عليك أن تذهب إلى الإيقاع البطيء والمنطوي ؛ من أجل استيعاب جاذبيتها: اذ ان المزيج الطبيعي بين النغمة الإيقاعية للشخصيات والحوار ، وبين الافكار والاحداث الحزينة تثير القراء .
فقد رسمت شخصيات الرواية بصيغة قريبة جدا من خلجات الروح المزدوجة والصراع النفسي ، ويظهر ذلك جليا من خلال التعبيرات والتأكيدات النموذجية ؛ فالحياة الغنية بالعاطفة في ذكريات الطفولة المزدحمة في الحي القديم ؛ والدراما التي تزحف فجأة إلى لهجة سردية وثائقية جافة إلى حد ما ، تكشف بؤس الحياة التي مرت بالاديبة.
جاءت الرواية بـ 420 صفحة من القطع المتوسط ، مقسمة الى فصول قصيرة ( تكون على الاغلب من صفحتين الى ثلاثة صفحات ) الامر الذي يخلق فترات راحة مناسبة في التسلسل العاطفي الحاد ، وفي النسيج المعقد للعلاقات والأسرار المحيطة بأم الأسرة – وهي امرأة قصيرة القامة وذات شكل جميل ، مكرسة حياتها بالكامل لدعم أطفالها الثلاثة في الأعمال المنزلية ولها تأثير شبه سحري عليهم (“تدخل كلماتها في الجسد مثل المسامير ” ، كما تقول إحدى الفتيات).
إما زوج الأم ، الذي أنقذها من عار زواجها الفاشل الأول ، وتزوجها قبيل ولادة ابنها من هذا الزواج ، تخلى عنها بعد ولادة ابنتين أخريين. وجاء ذلك على خلفية علو مكانته وتطور مستواه الاجتماعي ؛ لذا فبترك الاب العائلة ، كتب عليها العيش بدونه ، لتحول المسؤولية الى الام ، على الرغم من وجود بعض الحب المستمر بينها وبين الأب ، متاملة أنه سيطرق الباب مرة اخرى بعد بضع سنوات.
بصورة عامة ، تفتح رونيت ماتلون روايتها بنظرتها إلى تفاصيل مفعمة بالحيوية ، مثل أيدي الأم القصيرة والظلام والوظيفة البائسة، حيث خصصت لهذه الامور العديد من الفصول ، ومن خلالها تكشف عن التوتر بين الأم والجدة الأنيقة التي تعيش في كوخ -اذ تنحدر الجدة من أسرة يهودية من الأثرياء في مصر- حول خاتم الزواج الذي اشترته الأم بعد هجر زوجها ، وسرعة الأم النادرة في عملها، والمزيد من الحقائق بمعناها الواقعي.
ثدي أبيض ضخم
يوجد في الرواية الكثير من اوجه التناقض المستمر بين التعبير العقلي الواعي للساردة البالغة وبين العفوية التي لا يمكن إيقافها للشخصيات منذ طفولتها المشحونة. على سبيل المثال ، تتحدث جدتها ، نونا ، التي تخيفها ، تمامًا كما هو الحال في تخويف الأطفال الصغار ، عن رجل من الحي يبتلع الأطفال بلسانه الجاف ، ولكنها تعطيها ثديًا أبيضًا كبيرًا ؛ كي تهدئها لحين عودة الام من العمل.
لذلك كانت الأم نفسها تطارد ابنتها في حقل من الأشواك وتحاول إلقاء حصان هزاز عليها (تخرج الفتاة السريعة) بعد أن عثرت على موسوعة أحضرتها للقراءة قد بللتها. وغمرت المنزل كله بالمياه ، تقول الأم : ” يمكنني قتلك . لكن الحمد لله باني لم افعل ذلك” . وفي حادثة اخرى تنوح الام مستلقية على جثة كلب قد دُهس بعد هروبة من المنزل .
يوجد بالفعل شيء أسطوري حول الشخصيات هنا ، والذي يتجسد في حقيقة أن الأم تسمى طوال الرواية بـ”الأم” فقط، في “ال التعريف” (كما يطلق عليها أطفالها) ، والطفلة هي “الطفلة” كما تسميها امها ، اما الجدة فتسمى “الجدة” ايضا. ويرتبط هذا الحيز المجهول – بلا شك – بحياة الراوية وأيضًا بالمسافة المحددة التي يتم الحفاظ عليها في العائلة ذاتها، اي ان الراوية ارادت ان تعرض وبشكل مباشر حياتها وذكرياتها لتشاركها مع القارئ ؛ ولكن بشكل أساسي القسوة التي عاشت بها الشخصيات حياتهم – ومن خلال استجابة الراوية ، التي تعيد الاستماع من جديد إلى “صوت خطواتنا” ، تبدو هذه الحياة – الذكريات – أكبر بكثير من الحياة في الواقع.
الصمت واوجاعه مثل السوط
ولا تخلط. ليس الأمر أن رونيت ماتالون تريد العودة إلى “هناك”. فقد تعلمت من والدتها ألا تتوق للماضي ، قائلة: “مثلها ، ليس لديّ دوافع للحنين إلى الماضي ، سواء في الحقيقة او الوهم ، هذا الامر يجبرني على الصمت ، والصمت وقعه اقسى من كل شيء في الوجود “.
ومع ذلك ، على الرغم من معارضتها لفكرة الحنين وشعوره ؛ الا أن هناك شوقًا كبيرًا لأمها وأختها وشقيقها وجدتها ، الامر الذي يزال يعيش في وجدانها ؛ ومنه تستمد وتستلهم مواضيع نتاجاتها الادبية .
ومن هنا كانت الرغبة في أن تكون دقيقة إلى الحد الأقصى في رسم الشخصيات (“صمتها يهتز في خلجات نفسها مثل السوط” – على أختها) ، ومن هنا كانت العين المذهلة لالتقاط التعبيرات والإيماءات (على نفس الأخت: “كان وجهها اللطيف بشكل رائع ، دائمًا ما يكون لا يُنسى أو يكون قابلًا للاقتباس ، يا له من انطباع مقلق أنها حقا رائعة “) ، وكل ذلك نابع من صميم المؤلفة التي ترفض النسيان ” وهذا الامر يذكرنا برواية الاديب الايطالي المعروف ( هاري دي لوكا ) ” ليس الان ، وليس هنا ” التي تتالق بها الأم أيضا .
إلى جانب المفاجآت في الحبكة التي فجاة في عدد من الفصول وتقوم بالحفاظ على تسلسل السرد ،اذ تكمن المفاجأة في الية رسم شخصية من الشخصيات ذاتها. على سبيل المثال ، عشية وفاة والدتها (حيث يطول زمن الرواية لعدة سنوات أيضًا) ، في المستشفى ، عندما تستذكر حديثها الاخير. وها هي محادثتها الحزينة مع ابنتها قبل بضعة أيام ، بعد أن قالت إنها فكرت كثيرا وخصوصا في هدوء الليل بالسؤال “كيف أعيش”:
“كيف اعيش؟” سألت ، لا إراديا ، من الشعور بالواجب.
صمتت للحظة.
“مثل حمار ، على ما أعتقد ،” قالت وهي تغلق عينيها: “هيا ، لندخل من هذه الشمس”.
لقد انتظرنا المصعد ، وقد امسكت بالحائط ، في الواقع ، كانها مستندة الى الحائط ولكنها لم تستند عليه ، ورمقتني بنظرة خاطفة :
وقالت “اياكِ ان تعيشي مثل حمار ، إنه امر ممنوع”.
ان هذه الام ، التي قد قرات وحفظت رواية “The Lady with the Camellias” و “The Three Musketeers” ، وهما الكتابان المفضلان لديها ، قد قالت لابنتها لاحقًا: “حسنًا ، أنكِ تكتبين كتابًا”. وتجيب الابنة رونيت ماتالون بأنها ليست كذلك.