مع مرارة العيش في العقود التي مرت على العراقيين إبان حكم البعث ورئيسه المقبور، صار حلم المواطنين في يقظتهم وصحوهم سنة بعد سنة، يتبلور في الخلاص منه بأي شكل من الاشكال، وساقت لهم الأقدار تحقيق حلمهم بهيئة لم تكن في مخيلتهم يوما ما، فتغيرت أنماط حياتهم وتفاصيلها في ليلة التاسع من نيسان 2003 وضحاها، مع متغيرات زوال الكابوس البعثي، وهو تغير مفاجئ لم تكن الأرضية تستوعبه، فاعترتها هزات ولدت تداعيات ونكوصا ماكانت بالحسبان، حتى أن بعضهم مقت التغير والتبدل والتجدد. ولاشك أن معظم الناس -الأسوياء حصرا- يهوون كل جديد في شؤون حياتهم، ويتوقون الى التغيير بين الفينة والأخرى، كما هم يمقتون التكرار والاجترار، ويكرهون الركون الى نمطية واحدة في يومياتهم، لاسيما إذا كانت جافة او معقدة، او لايرون فيها صلاحا او فلاحا، فنراهم يتطيرون ويجزعون من الرتابة والعيش بوتيرة جامدة. وقد قال تعالى: “إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا”. ولعل هذا الطبع صار دافعا لابن آدم لكشف غوامض الأحداث، وسبر أغوار المخفي منها، والغوص في فك طلاسم ما يمر به من مجريات الأمور، ساعيا بهذا الى خلق حياة مستقرة، خالية من المجهول، وهو بهذا يضرب عصفورين او ثلاثة بحجر، فالعصفور الأول هو التجديد.. والعصفور الثاني هو التغيير نحو الأحسن.. والعصفور الثالث هو ضمان قادمات الأيام من شرور مايخشاه.
هنا في عراقنا.. تطير فوق رؤوسنا عشرات العصافير التي يتوجب علينا صيدها، كما ان هناك آلافا مؤلفة من الغربان يتحتم علينا إصابتها وإسقاطها، قبل أن تسبقنا بالضرب وتكون سببا في إسقاطنا أرضا، بضربة قاضية. ولكن أمرا حرجا يقف حائلا بيننا وبين صيد العصافير وضرب الغربان، هو أننا لانملك حجرا واحدا بأيدينا.. وقد يظن البعض أن الحجر الذي تقدمه الينا دول الغرب والشرق، وهو الحجر الذي سيلتقط لنا العصافير وطيور الحب جميعا، ويجلبها الينا منصاعة لتملأ حدائقنا زقزقة ورياضنا تغريدا وشدوا، وهو ذاته الحجر الذي سنضرب به طيور الشر، وندرأ به القادم من شرور. ولو تنبهنا -كثيرا وليس قليلا- فإننا سنعي أن الدور الأول والأخير علينا نحن العراقيين القيام به. فعلى صعيد الحرب ضد داعش على سبيل المثال، صحيح أن قدوم آليات وإمكانيات متقدمة وقدرات تقنية فينة أكبر من التي يمتلكها جيشنا وقواتنا المقاتلة، سيسهم كثيرا في تبديد سيطرة التنظيم الإرهابي على أراضينا، إلا أن العراقيين أدرى بشعاب مدنهم، كما أنهم أكثر التصاقا بأرضهم من الروس والأمريكان والبريطانيين أو غيرهم من الجنسيات من دول الجوار، إذ “ماحك جلدك مثل ظفرك”. كذلك الأمر على باقي الأصعدة في البلد ولاسيما السياسية، ومايدور اليوم من تداعيات فساد دام أكثر من عشر سنوات، وإرهاصات إصلاحات تبدو واهنة غير قادرة حتى على الحبو خطوة الى الأمام، إلا صراع بين ماضٍ سقيم وحاضر يتأرجح ومستقبل مجهول. وما تدخل دول العالم في أمر الإصلاحات يغير من واقع الحال إيجابا، مالم يكن الدافع الأول من داخلنا نحن العراقيين. فالأمر يتطلب حزما أشد وعزما أٌقوى. وبذا يكون السند والعماد الأول الذي يعول عليه في الوصول الى النجاح، هو العراقي وحده، والعراقي قطعا هو من يتحمل النتائج سلبا ام ايجابا، وكما يقول مثلنا؛ (الحايط لو مال يوگع على أهله).
[email protected]