15 نوفمبر، 2024 10:45 م
Search
Close this search box.

الحلم المستحيل – 3 –

الحلم المستحيل – 3 –

الحلقة رقم – 3 –
الغريب أنها كانت تنظر اليه بصمتٍ تام. كان قلبها الجزء الوحيد من جسدها هو الذي ينبض بعنف شديد. ..معلناً غضبه، خوفه، قلقله، معاناته، ولكنه قلب ضعيف مكبل بقيود وحواجز لايستطيع إختراقها. حدق هو ألأخر في وجهها طويلاً ولم ينبس ببنت شفه. كان كتمثال فولاذي قد تم وضعه في مكانٍ ما. تقدم ببطء نحو عمه ومد يدهُ ببرود قائلاً ” أهلا عمي كيف حالك؟” نظر فرانك في أعماق عيني إبن أخيه الذي كان يحبه أكثر من أولاده، لايعرف ماذا يقول؟ هل يسحبه بقوه ويضمه الى صدره؟ كما كان يفعل حينما كان طفلاً صغيراً، أم يبصق في وجههِ لأن طريقته البارده في إلقاء التحية كانت مروعه لم يتوقعها أبداً . العين بالعين والسن بالسن كما تقول الحكمة أو المثل. تلك هي الفكرة التي خطرت على ذهن فرانك وهو ينظر الى إبن أخيه الذي لطالما كان يحمله على كتفيه هنا وهناك في مرحلة الطفولة. ” حسناً ياروبرت إذا كنت بارداً هكذا معي فسوف أكون معك أبرد من الصقيع أو الماء المتجمد. مد فرانك يده بكل برود وهو يقول” أهلاً سيد روبرت” . سحب يدهُ بسرعة كأنه يخشى أن يصاب بعدوى الجذام ومن ثم جلس بهدوء. أخرج سيكارة وراح ينفخ دخانها بتحدي غير عابئاً بالعبارة المكتوبة على الجدار حيث تقول ” التدخين ممنوع”. جلس روبرت في الكرسي المقابل لفرانك وراح يتحدث بطريقة عملية جافه تخلو من العاطفة تجاه عمه وزوجته كارولين. ” سوف نسافر الى باريس هذه الليلة وقد نتأخر إسبوع أو أكثر بقليل حسب نوعية المهمة التي سنذهب لأنجازها”. صمت قليلاً ثم أردف قائلاً ” لقد كتبت رسالة وقررت إرسالها اليك يا كارولين أرجو أن تقرأئيها بدقه وإذا كان لديك أي إستفسار تستطيعين ألأتصال بي على رقم الهاتف الموجود داخل الرسالة. إقرئيها حينما تصلين البيت. أتمنى لك التوفيق.” . سلمها ظرفاً متوسط الحجم يحتوي عدة أوراق . نهض فجأةً مخاطباً المديرة. ” عفواً السائق جاهز، يجب أن نذهب ألأن للمطار ليس لدينا وقتاً كافياً”.

تقدم نحو عمه روبرت وهو يقول بجدية مفرطه ” عفواً ياعم يجب أن نذهب ألأن. عندما نعود من السفر سوف نجلس طويلاً للحديث عن أشياء كثيرة”. دون أن يقول أي شيء لزوجته إلتفت الى المديرة قائلاً ” فلنذهب ألأن ، أرجو أن تحثي الخطى كل شيء على مايرام . شعرت المديرة المديرة بنوع من ألأحراج الخفي. إلتفتت الى فرانك وهي تقول بأستحياء ظاهر ” هو هكذا دائما مستعجل ودقيق في كل شيء”. نهضت على عجل وهي تلملم بعضا من الحاجيات الضرورية وتتكلم في نفس الوقت ” إعتبرا أنفسكما في بيتكما وساخبر السكرتيرة كي تلبي كل طلباتكما. لو لم أكن مستعجلة لمكثنا مع بعض فترة أطول . الى اللقاء. خرجت من المكتب مسرعة دون أن تلتفت الى الوراء. كان الموقف مرعباً بالنسبةِ لكارولين. لم تكن تصدق ما كان يجري أمامها. نظرت الى فرانك مرعوبه لهذا التصرف من قبل روبرت. شعرت أنها لاشيء ، كأنها تنتمي الى عالمٍ مجهول. لم يعد لها وجود في عالم روبرت ، كان تصرفه يفسر كل شيء. شعرت بالخذلان وألأحباط التام. نهض فرانك كالمجنون وهو يقول: ” فلنذهب، يبدوا أننا جئنا في وقت غير مناسب لقد أخطأنا العنوان” . كان يسير بسرعة نحو الباب الخارجي. حينما أصبحا على الطريق الخارجي الذي يقودهما الى البيت قال بعصبية:” لماذا قابلنا بهذه الطريقة الباردة؟ يبدو أن هناك أشياء كثيرة في صدرهِ تجاهنا. سنعرف كل شيء يوماً ما” . لم تتفوه كارولين بكلمة واحدة . كانت دموعها تنهمر بغزارة لدرجه أنها لم تعد تستطيع رؤية الطريق بوضوح. كان فرانك هو الذي يقود السيارة. كان يشعر بألأحباط وعدم الحماس. إحباطه الكبير جعل منه رجلاً فاقداً لكل علامة من علامات ألأندفاع نحو الحياة. دون أن تلتفت اليه قالت ببرود ” هل تريد أن تعرف لماذا تصرف معنا هكذا؟ هل تريد أن تعرف السبب الحقيقي لبروده تجاهي؟ لكن لاتضع علي كل اللوم كما كان يضعه هو”. قالت ذلك دون أن تتوقف عن البكاء. إلتفت اليها برعب وكأن شيئاً ما كان خفياً عليه طيلة تلك المدة التي عاشها معهم. قال بأندفاع:” وهل هناك ثمة شيء لم أعرفه من قبل؟”. راحت تبكي بصوت مرتفع كأنها طفلة صغيرة تخاف من شيء مخيف. توقف عند الجهة اليمنى من الطريق. ظل يُحدق في وجهها. لم يتفوه بأي شيء في البداية. حينما إزداد نحيبها صرخ بغضب:” بالله عليك توقفي عن النحيب إخبريني عن أي شيء لم أكن أعرفه من قبل”.

فتحت باب السيارة. تركت الظرف الذي سلمها إياه روبرت في المقعد ألأمامي وراحت تركض بلا هدف مبتعده عن الطريق العام كأنها تهرب من شيء مجهول. إندهش فرانك لهذا التصرف الصبياني من جانبها. قفز فرانك من مكانه وبدأ يركض خلفها محاولاً اللحاق بها وإيقافها ولكن ظلت تركض وكاد أن يسقط على وجهه عدة مرات. وبجهدٍ جهيد لحق بها …أمسكها من كتفها صارخاً ” ماذا حل بكِ؟ هل أصابكِ مس من الجنون؟” حاولت أن تتخلص من قبضته وهي تبكي بصوتٍ مرتفع.” إتركني هنا وعد لوحدك . أريد أن أضيع هنا في البراري سأقدم جسدي قرباناً هنا للوحوش الكاسره للافاعي للذئاب أريد الموت هنا لوحدي. دبّ اليأس الى قلبي وأصبحت روحي معدمه تماماً. لن أعود للبيت. سأبقى هنا في هذه ألأرض الموحشه . لقد إنتهت حياتي منذُ أن خرج روبرت من المكتب دون أن يودعني. هل أنا ساذجه الى هذه الدرجه ؟ هل أنا بلاكرامه؟ لقد إنتهت علاقتنا الى ألأبد ، لن يعود لي زوجي مطلقاً. إذا لم يطلقني سأطلقه أنا. وداعاً أيها الحب الممزق في تجاويف البؤس والكراهيه. لماذا يكون ألأنسان قاسياً بلا رحمه؟ هل صحيح أن للأنسان صفتين صفة الحب والكراهيه؟ لم أرتكب جريمة كبرى كي أستحق كل هذه المعاملة القاسية. “. وراحت تبكي بلا توقف. لم يحتمل فرانك هذا العويل والصراخ . لم يتحمل هذا الموكب الجنائزي في جنح الظلام وبين هذه ألأحراش البرية الممتده بلا رحمة فوق هذه ألأرض المقفرة هنا في هذا الليل.

دون سابق إنذار راح يصفعها عدة صفعات على وجهها وأستمرت ضرباته بقوة. أراد أن يعيدها الى رشدها. جلست فوق ألأرض المحاطة بالأحراش البرية من كل الجهات. هدأت ثورتها. بدأ صدرها يرتفع وينخفض بشكل هستيري كأن قلبها قد عقد العزم على تمزيق قفصها الصدري والخروج نحو الفضاء الخارجي الفسيح. جلس فرانك قربها صامتاً لايعرف ماذا يفعل؟ أستل سيكارة على عجل وراح ينفث دخانها في الفضاء بأضطراب تام. لم يتكلم مطلقاً ، أراد أن يمنحها وقتاً لقول إعترافاتها إن كان هناك أي إعتراف. دون وعي أخذت يدهُ ووضعتها على خدها وهي تقول بحزن وألم دفين” آه.. مااجمل هذه اليد التي لاتعرف سوى العطاء والرحمه والتفاني من أجل ألأخرين. هذه اليد بالنسبةِ لي تعادل كل أيادي الرجال في هذا العالم الذي لايعرف إلا لغة القتل والدمار. روبرت لايساوي أي شيء أمامك. مغرور بشبابه لايعرف كيف يداوي جروح القلوب المنهاره سحقاً له ولمعشوقته الجديدة. لن يرى جسدي بعد اليوم. لايعتبر الزواج إلا طريقة حيوانية لأزالة شحنات الرغبة المتكدسه في جسدهِ البشري. لن أخشى شيئاً بعد الأن لأن الشاة المذبوحه لاتخشى السلخ. لقد ذبحني منذ اللحظةِ التي وقعت فيها الحادثة المأساوية هذا هو قدري ومصيري.”. دون حياء راحت تقبل يدهُ بشغف والدموع تهطل من عينيها. كان قلبه يخفق بخوف مطلق. إعتقد أنها فقدت عقلها الى ألأبد. لم يحاول أن يسحب يدهُ. حينما هدأت ثورتها جلست صامته. دون أن تهتم له أخذت سيكارته من يدهِ وراحت تدخنها بقوة. سعلت عدة مرات. قالت بصوتٍ مرتعش ” كم أكره رائحة التبغ ولكنني منذ هذه اللحظة سأدخن أي نوع من أنواع السكائر. لن أهتم لأي شيء بعد ألأن”.

لم يحاول أن يمنعها. تركها تفعل ماتريد. نظرت اليهِ في جنح الظلام وهي تقول” أعرف ماهو مكتوب في تلك ألأوراق التي سلمني إياها دون أن أقرأها.حاولتُ بكل الطرق أن أُحافظ عليه ولكنه كان يبتعد عني يوماً بعد ألأخر. حسناً فليذهب الى أي مكان يريده فلن تتوقف الحياة عند موتِ شخصٍ عزيز”. لم يُقاطعها. أرادها أن تستنزف كل ما في جعبتها . تنهدت بصوتٍ مسموع ثم أردفت قائلة” لم أقتل طفلهُ الصغير مايكل.لم يكن ذنبي. حينما حاولتُ الخروج من بوابة البيت قبل أربع سنوات لم أعرف كيف لحق بي؟ تركته مع جدتهِ في المطبخ كما يحدث كل يوم حينما أذهب الى الحقل. ركض خلفي وتعلق بالسياره. لم أرهُ مطلقاً. أندفعت مسرعة من البوابة وإذا به ملقى بعيداً على ألأرض مضرجاً بدمائه. لم أره وهو على ألأرض. كانت والدة روبرت تركض خلفي حينما إبتعدتُ عن البيت. كانت صورتها في المرآة الجانبية صغيرة كأنها قطعة قماش على ألأرض. رجعتُ الى الخلف كي أر ماذا يحدث هناك؟ كان مايكل جثه هامده بين ذراعي جدته وهي تحتضنه وتصرخ بجنون ” قاتله قاتله قاتله”. كان جسدي يرتعش. لم أقوى على الوقوف. شعرتُ أن ساقيّ تشبهان قطعتين من الجلي الرجراج. حاولتُ التقدم نحوها. فجاةً شعرتُ أن ألارض تدور بي وسقطت بلا حراك ولم أعد أشعر بأي شيء حولي. بعد إسبوع وجدتُ نفسي في مستشفى المدينةِ الصغيرة. كانت ذاكرتي مرهقه جدا لم أتذكر أي شيء إلا بعد شهرٍ كامل. كان طفلي قد إستقر تحت ألأرض وضاع مني الى ألأبد”. صمتت قليلاً . لم يُقاطعها أبداً كانت تعيش في مرحلة الهذيان الروحي. .. مرحلة ألأعترافات المطلقه. شعر بذهول. لم يعرف أي شيء عن هذه الحادثه من قبل. لقد وصل اليه الخبر من أن الطفل مايكل قد سقط من درجة السلم الرابعة على رأسه ومات في الحال. كان جسده يرتعش. هل ينقض عليها ويقتلها كما قتلت الطفل بأهمالها؟ هل يقف الى جانبها ويواسيها ؟

إذن هي قضية موت طفل قتله الجاني دون قصد أو تعمد. دون سابق إنذار جاءت الى ذهنه كل حوادث الموت التي جرت أمامه في معارك الحرب العالمية الثانية. كانت ألأمواج البشرية تتطاحن فيما بينها. كلمة الموت كانت مجرد لحظة تحدث لجسد ما يتنفس بخوفٍ ورعب. لجسد ملقى بلا حراك كان قبل قليل إنسان له طموح وأحلام لاتنتهي. تذكر صديقه زوج مارلين التي أصبحت فيما بعد زوجه له . حكاية مأساوية لن تحدث إلا في قصص الخيال. كان توم وفرانك في خندقٍ واحد فترة طويله من الزمن ربطتهما صداقة لايمكن وصفها. صداقة الموت والقنابل التي لاتنتهي على مدار الساعة. التحما روحيا بدرجة لايمكن وصفها إلا بالألتحام القدسي. وفي لحظة تأمل قدسية بعد سقوط قنابل كثيرة نظر توم الى فرانك بشرود ذهني وهو يحدث رفيقه بحسره قائلاً” إسمع يافرانك..هذه صورة زوجتي وهذا عنوان بيتي.. إحفظ الصورة في مكان أمين في ملابسك. إذا سقطتُ قتيلاً هنا إذهب وتزوج مارلين لاأريدها أن تبقى بلا رجل. هي لازالت شابه .لم يمضِ على زواجنا إلا ستة أشهر. ستبكي هي دموعاً غزيره ولكنك سوف تعوضها عن كل شيء لم أستطع تقديمه لها. “. صًعِقَ فرانك لهذيان رفيقه وشعر أنه يتكلم أشياء غريبة جدا. بعد ثلاث ساعات كان توم جثه هامدة بلا رأس وبلا ذراعين. بكى عليه حتى جفت دموعه. نظر الى صورة مارلين والرسالة التي كتبها لها توم وأقسم أن يُخلص لها حتى الموت. تزوجها فرانك بعد ستة أشهر في إحدى إجازاتة الدورية.

حينما شرد ذهنهُ بعيداً يستذكر تلك الحكاية القديمه مع ذاته والتي لا تعرف هي ألأخرى أي شيء عنها، قالت ” هل أنا قاتلة؟ منذ تلك اللحظة أقسم روبرت أنه لن يعرفني ولن يقترب مني الى ألأبد. وضع كل المسؤولية على أكتافي. توسلتُ اليه أن لايزيد عذابي. قرر أن يقتلني بأهماله لي. توسلتُ اليه أن يتركني أعود الى بيت والدي ويأخذ كل شيء مني حتى ألأطفال ولكنه لم يقبل. كان يتلذذ بتعذيبي. إعترف لي بأنه يمارس الحب مع رئيسة العمل، هو يريد إذلالي بأي طريقةٍ متاحه. قررتُ العمل في المزرعة ليلاً ونهاراً كي أهرب من الواقع ألأجتماعي الذي أعيش ناره التي لاتهدأ أبداً. وجئتَ أنت ، كنت الدواء الشافي لكل جروحي. كم تمنيتُ أن أكون واحده من بناتك؟ أنت شفاف بكل معنى الكلمة. أحياناً أحلم أحلاماً مستحيلة جداً . أحلمُ أنني زوجتك. لايهم العمر. لا أدري هل أنني أفتقدُ الى الحنان ألأبوي أم شيء أخر؟ “. صمتت قليلاً. كانت تلهثُ وهي تقدم له إعترافات كثيرة لم يتوقعها أبداً. قالت بأضطراب ” حينما كنتُ أسير معك في حقول القمح مراتٍ عديدة كانت تراودني أفكار شيطانية أريد من خلالها وقف الرغبةِ الجامحة في داخلي منذ أن توقف روبرت عن ألأقتراب مني قبل أربع سنوات. أربع سنوات من الرغبة الجامحة في داخلي . أنت كتله من الرجولةِ والهدوء والحكمه. كل كلمة تقولها عن المحاصيل أعتبرها قانون لايمكن تجاوزه. لقد تخرجتُ من كلية الزراعة ولكنني أعتبر نفسي طالبه فاشله أمامك أنت تعرف كل شيء عن المشاكل الزراعية وتطوير ألأنتاج. كرهت الشباب بسبب تصرف روبرت معي. في البداية كان يعاملني بأحترام ولكن بعد الحادثة تحول الى مخلوق بشري لايطاق. “.

سكتت مرة أخرى . لم تعد تلك المرأة التي تخشى أي شيء. شعرت أنها تحولت الى مخلوقه جديدة. لم تعد نفس ألأنثى. قالت بتحدي وكأنها أمام رجل أخر ليس هذا الفلاح المسن الذي يشاطرها العمل كل يوم في مزرعه لم تعد لها أهميه بالنسبةِ لها بعد مغادرة زوجها. ” فرانك. إسمح لي أن أقول لك إسمك مجرداً من أي لقب أخر. فرانك سوف أغادر البيت غداً الى ألأبد. سأعود الى فلوريدا. سوف أبدأ من جديد من الصفر. جئتُ وحيده وسأعود وحيده منهزمه مدحوره كمقاتل فقد سلاحه في أحدى المعارك التي كنتَ تحكيها لنا. ستكون وحيداً من جديد تجلب طعامك بنفسك ستفعل كل شيء لوحدك. هذا هو قدري لا أستطيع تغييره. سأبقى أدفع ثمن قتلي لولدي غير المتعمد.”نهضت بتثاقل. نظرت الى الجهةِ البعيدة.قالت ” آه..سأشتاق الى هذه ألأرض . لقد نزفت عليها دماء ودموع كثيرة”. قبل أن تترك مكانها بأتجاه السيلرة نهض فرانك مسكها ودون وعي حملها بين ذراعيه القويتين كأنها طفلة في سنتها الرابعة واتجه نحو الطريق الطويل حيث ترقد سيارتهما بحزنٍ تام. وضعها في مكانها في المقعد الأمامي الى جانبه. قبل أن يبدأ بقيادة السيارة طلب منها أن تفتح الظرف ,ان تقرأ ألأوراق التي كانت فيه. أنار الضور الداخلي للسيلرة. بيدٍ مرتعشه فتحت الظرف وراحت تقرأ ” كارولين.. متأسف لما كان قد حدث. قررتُ الزواج من ” ساره” المديره. هذه أوراق الطلاق. أتمنى لك السعادة. بعد موت الطفل لم أعد قادراً على مبادلتكِ نفس المشاعر. لا أعرف ربما القدر هو الذي جعلنا في هذه الحالة. لا أستطيع أن أنسى الموقف. أصبح العيش معاً من ضروب المستحيل. ليس ألأمر بيدي. لك الحرية في العودة أو البقاء. خذي ألأولاد لا أستطيع ألأعتناء بهم. أتنازل لك عن أي شيء أملكه في البيت أو ألأرض. تجدين داخل ألأوراق شيك مصرفي بمبلغ جيد قد يساعدك على تصريف بعض ألأمور. لن أعود الى ألأرض أبداً. وداعاً. روبرت”…………….

لم تبكِ هذه المرة لأن دموعها كانت قد نفذت. تحول قلبها الى قطعة من الجليد. كانت تعرف مايريد أن يقوله لها حينما سلمها الرسالة. توقف فرانك على الطريق السريع مرة أخرى. كان جسده يرتعش. التفت اليها وهو يقول” لاأريد أن أفسد عشاء هذه الليلة. لن نتفوه بكلمةٍ واحده مهما حصل. في الصباح لدي كلام كثير. سأعالج ألأمر مع والديه. ستكونين الرابحه في هذه المعركة المصيرية. لكن أرجوكِ أن تلتزمي جانب الصمت مهما حدث وأتركي الباقي لي. شيء أخر لن تتركي البيت إلا إذا طلبتُ أنا منكِ ذلك. “. نظرت اليه بفتور وكأنها تريد أن تقول له ” وماذا تستطيع أن تفعل بعد الذي حدث؟ لقد ضاعت حياتي الى ألأبد . البقاء فترة قصيرة من الزمن في هذا المكان ماهو إلا دواء مًسّكن لحالة المرض العضال الذي أعاني منه. “. حينما طال صمتها مسح عينيها بأنامله الخشنه وهو يكرر ” هل تعيدينني بذلك؟” قالت بصوت هامس وقد إرتسمت على شفتيا إبتسامة باهته” من أجلك فقط أتحمل كل شيء حتى لو طلبت مني ألأنتحار…من أجلك فقط”. شعر بأرتياح وهو يقود السيارة بصمت رهيب.

قبل العاشرة بقليل كان فرانك قد أوقف السيارة قرب بيت شقيقه وقبل أن يترجل أمسك يدها اليسرى بحنان وهو يردد بصوتٍ هامس ” لقد قطعتي لي وعداً. تصرفي بشكل طبيعي وأتركي الباقي لي”. ضغطت كارولين على يدهِ بحنان وهي تقول ” المفلس في القافله أمين. لقد فقدت كل شيء وماذا سأفقد أكثر من هذا؟ سأجلس معكم للمجاملة فقط وفي الصباح سيكون هناك شيء أخر”. كان يشعر بألالم الدفين الذي يمزق روحها. كانت مجرد هيكل بشري يتحرك بلا روح بلا طموح بلا مستقبل. تمنى أن يفعل أي شيء كي يعيدها الى حالتها المرحه التي إعتاد عليها حينما كانت تجلب له فطور الصباح في حقول القمح عند إنبثاق النهار. لأول مره في حياته يشعر بالعجز أما مخلوق بشري أنثوي لا حول له ولا قوه. هل يمكن أن يكون هكذا؟ عاجزاً ضعيفاً لايستطيع تقديم أي مساعده لخلاصها من هذا الجحيم الذي تعيش فيه. سحبها من يدها صوب البوابةِ الكبيرة للبيت. في اللحظةِ التي دخلا فيها الرواق الطويل الممتد من البوابةِ الى المطبخ خرجت زوجة أخيه تركض نحوهما والدموع تنهمرمن عينيها. قالت بحزن شديد وصوتٍ مرتعش ” فرانك . إفعل شيء. شقيقك على فراش الموت.” وراحت تبكي بصوتٍ مرتفع. توقف فرانك لايعرف ماذا يفعل؟أخيراً قال بأرتباك ” هوني عليك. ماذا حدث؟” وقبل أن يستلم جوابها إندفع مسرعاً نحو غرفة شقيقه. لحقت به كارولين مسرعه. كان شقيقه مستلقياً على فراشهِ يتنفس بصعوبةٍ بالغة. مسك يدهُ بحنان وهو يقول ” حينما خرجنا قبل ساعاتٍ قليلة كنتَ في صحةٍ جيده مالذي جرى لك؟”.

أندفعت زوجة أخيه تتكلم بأنفعال ” لقد إتصل بنا روبرت قبل أكثر من ساعة وأخبرنا بأنه سوف يسافر الى باريس ولن يعود الى ألأرض مرةً أخرى، وأشياء أخرى جعلت والده يفقد السيطرة على نفسه. راح يصرخ وينعته بالجبن والفاسق . إرتفع ضغطه مباشرة وأصبح تنفسه ضعيفاً”. كانت تمسح دموعها بأستمرار وهي تتكلم بصعوبةٍ بالغه. كانت تنظر الى كارولين نظراتٍ غريبة. جلسوا جميعهم قربه. كان فرانك يمسح العرق المتصبب من فوق جبين شقيقه. قال أخيراً ” يجب أن ننقله فوراً الى المستشفى”. وقبل أن يسترسل بكلامه قال أخيه كلاما ضعيفاً كأنه يهمس همساً وبصوتٍ مرتعش” لا أريد الذهاب الى أي مكان. لقد قتلني روبرت بكلماته النارية الصادرة من قلبٍ لا يعرف معنى الحب وألاخلاص لهذه المرأة “. صمت قليلاً ثم أردف بصوتٍ مرتعش ” كارولين زوجته، تتفانى كل يوم من أجل إحياء ألأرض. لو لم تكن هي موجودة لتحولت أرضنا الى صحراء. لديه كنز لكنه لايراه. لقد أعمت بصيرته تلك الحمقاء مسؤولته في العمل”. سكت قليلاً وهو ينظر الى كارولين بحنانٍ كبير. بعد ذلك أردف قائلاً ” هو لايستحقك أبدا. منذ أن كان صغيراً وهو يسبب لي المشاكل الكثيرة. بسببه فقدتُ ساقي. حاولت إنقاذه من الموت. لو لم أركض سريعاً وأدفعه بعيداً عن الرافعة لهشمت رأسه.كنتُ أنا الضحية.كانت الرافعة فوق ساقي وأنا أصرخ من ألألم . حاولت كارولين أن تفعل أي شيء لسحبي من تحت الرافعة ولكن دون جدوى. كانت ساقي قد تهشمت. طلبتُ منها أن تقطع ساقي بالسكين ولكنها رفضت وهي تبكي. أمرتها أن تفعل ذلك . كانت شجاعة جداً. بترتها في الحال ومن ثم نقلتني الى المستشفى.لم يرافقها روبرت. ظل يرتعش من الخوف لايعرف ماذا يفعل؟ كان جباناً”. سكت قليلاً ثم أردف قائلاً ” منذ تلك الحادثة أقسم أن لايذهب الى ألأرض. كانت تذكره بجبنه وخوفه”. نظر الى كارولين وهو يتنهد بحسرة وألم : ” وألأن يطلقها المجرم. يشعر أنها أشجع منه. فليذهب الى الجحيم. لن أستقبله في بيتي بعد ألأن. سيدفع الثمن لاحقاً”.

حاول فرانك أن يمنعه من الكلام كي يحافظ على بقية قواه الجسدية.نظر الى ساعته وهو يحاول أن يبدو مرحاً في حديثه” حسناً الساعة ألأن العاشرة والنصف ولقد وعدنا أم روبرت بأننا سوف نأتي لتناول العشاء معاً. أنا أتضور جوعاً ولكنك حرمتنا من الجلوس في المطبخ ، هل نجلب الطعام هنا ونأكل سويةً في غرفتك؟” نظر ” البرت” نحو شقيقه بحبٍ شديد قائلاً” تستطيعون الجلوس في المطبخ حسب المعتاد. أما أنا أريد النوم قليلاً. لقد تناولتُ شيئاً قبل أن يتصل روبرت”. قاطعه فرانك قائلاً” إذا لم تشاركنا الطعام فلن أتناول أي شيء حتى الصباح”.سكت ألبرت بعدها قال بحنان ” حسناً سأجلس الى مائدة الطعام ولكن لن أتناول أي شيء. سأكتفي بصحنٍ من الحساء. إذهبو ألأن”. شعرت سوزي بشيء من ألأرتياح حينما شاهدت أن حالة زوجها بدأت تتحسن قليلاً. قالت على عجلٍ من أمرها ” سوف نذهب أنا وكارولين لأعداد المائدة، أرجو أن تضعه في كرسيهِ وتجلبه معك”. دون أن تنتظر جوابه غادرت الغرفة مع مطلقة ولدها. حينما أصبح فرانك مع شقيقه لوحدهما ، نظر ألبرت الى أعماق عينا فرانك كأنه يطلب منه حلاً فورياً لهذه المشكلة التي حدثت دون توقع. حينما كانا يعيشان في بيت والدهما قبل سنواتٍ طويلة كانا قريبين من بعضهما البعض جداً حتى فيما يتعلق بعلاقتهما مع أبناء الفلاحين في ذلك الزمن. لا توجد بينهما أسرار من أي نوع حتى في أدق تفاصيلها. كان فرانك يساعد أخيه البرت في كل شيء ويجد حلاً لأي مشكلة يواجهها في حياته العملية والعاطفية. دون تردد قال ألبرت ” ماذا تقول؟ ماذا سنفعل بصدد هذه المرأة التي تركها ولدي؟ كيف ستعيش هنا بدون زوج؟ هل نعيدها الى الولاية التي جاءت منها أم ندعها تعيش معنا الى ألأبد؟ المشكلة معقدة جداً”.

فهم فرانك مدى المعاناة التي كان شقيقه يرزح تحتها. دون أن ينظر اليه قال بهدوء” لاتوجد مشكله بلا حل. يجب أن نفكر بهدوء. ألأن أكاد أُصاب بالجنون من شدة الجوع. سأجلب كرسيك المتحرك كي نلحق بهما الى المطبخ. “. جلس ألاربعة حول مائدة الطعام الغنية بكل أنواع المأكولات الشهية. كانت سوزي طباخه ماهرة حقاً. أما ألأطفال فقد ذهبوا جميعاً للنوم. في البداية تظاهر الجميع بتناول طعامهم بصورة طبيعية ولكن كل واحد منهم كان يموج في بحرٍ من ألافكار المتلاطمه هنا وهناك. شكر فرانك زوجة أخيه على نوعية وجودة الطعام التي كانت قد أمضت ساعات طويله في تحضيره. كانت كارولين شاردة الذهن لا تعرف ماذا تقول. كانت أكثرهم إضطراباً على الرغم من قوة التحمل والصبر التي كانت تتحلى بهما. قبل أن ينتهوا من العشاء قال فرانك بهدوء:” أعتقد أنني سأذهب الى حقول القمح هذه الليلة . أشعر بألأختناق بعد الذي حدث. سأعود عند منتصف الليل أو ربما سأقضي الليلة في الغرفة الصغيرة القريبة من حقول التفاح”. قاطعته سوزي قائلة ” قبل أن تذهب لدينا موضوع مهم جداً يجب أن نتوصل الى قرار جدي بصدده”. سكتت قليلا وهي تحاول أن تستجمع كل قواها، نظرت الى زوجها وهي تقول ” فيما يتعلق بكارولين ، وحسب رغبة زوجي ألبرت ..لن تغادر هذا البيت طالما البرت على قيد الحياة. زوجي مدين لها بأشياء كثيرة. يوماً ما سحبته من تحت الرافعة. تأخذه بين فترة وأخرى الى حقول القمح. هي تعمل بجد ليلاً ونهاراً . لولا تواجدها المستمر لتحولت ألأرض الى حالةٍ مزرية. زوجي يحبها جداً مثل إبنته. لايستطيع أن يتصور أن يوما ينقضي هنا دون أن يراها. أنا أيضاً لاأستطيع أن أعيش بدونها لأنني أعتمد عليها في أمورٍ كثيرة جداً. ” .

تمت….

أحدث المقالات

أحدث المقالات