22 نوفمبر، 2024 10:12 م
Search
Close this search box.

الحلم المستحيل – 2 –

الحلم المستحيل – 2 –

الحلقة رقم – 2 –
لزم جانب الصمت. تركها تُفرغ كل ما في جعبتها من أنين وأحزان. حاولت أن تستجمع كل قواها كي تواصل عملية الدفاع وذكر بعض الحقائق التي لايعرفها عن حياتها الشخصية. نظر اليها بتأمل وسألها بصوت حنون ” بنظرك، ماهو سبب هروبه؟ نظرت اليه وقد دلف الى صوتها نبرة من الحزن الدفين ” الحقيقة أنا في حيرةٍ من أمري. هل أنا السبب؟ هل هو يفكر بحياةٍ أكثر إشراقاً من هذه الحياة التي أصبحت رتيبة على حد قولة؟ حينما أسالهُ عن المديرة التي يعمل عندها، عن جمالها أو عمرها أجد شيئاً غريباً يلمع في عينيه. هل يعشقها؟ هل هي أجمل مني؟ هل منحته شيئأً لم أستطع تقديمه له؟ الوضع في غاية الخطورة. أشعر أنني أكاد أختنق. إذا طلقني ماذا سأفعل؟ هل أعود الى فلوريدا؟ ماذا عن ألأرض؟ ماذا عن ألأطفال؟ ماذا عن والده المقعد؟ أشياء كثيرة تقض مضجعي “. لفها الصمت من جديد. ظلت تعمل بنشاط وعصبية كأنها تريد أن تنتقم من شيء مجهول. دون أن ينظر اليها قال برقة ملحوظة ” مهما تكن ألأسباب، ومهما يحدث فأنك لن تغادري هذه ألأرض إلا على جثتي. لا أستطيع أن أتخيل أنك بعيدة عن هذه ألأرض. سأقتله إذا قرر ألأنفصال عنك بسبب هذه المديرة الثرية. بعد يومين سوف أذهب اليها وأخبرها بكل شيء حتى لو حدثت أمور قد تغير مجرى حياة روبرت. توقفت عن العمل وهي تستمع الى كلماته. كانت ترتعش كمخلوق صغير في مهبِ ريحٍ عاتية. شعرت أنها ذات أهمية لدى هذا الرجل الذي ينتمي الى الجيل القديم. لماذا يدافع عنها هكذا؟ شعرت بالكبرياء وألأعتزاز. أحست أن إنساناً في هذا العالم يهتم بها. شعور غريب هذا الذي يجتاحها ألأن. شعرت أن عنصراً جديداً من الحياة ينفذُ الى أعماقها ويحولها الى مخلوقٍ جبار يتحدى كل العالم وكل هذه ألأغصان المتشابكة على مر ألأيام. لماذا لايعاملها زوجها مثل هذا الرجل الذي يُظهر لها كل الود وألأحترام؟ كم تتمنى أن يكون زوجها شفافاً مثل هذا الفلاح الذي هو بعمر والدها. كانت تسرق النظر اليه بين الفينةِ وألأخرى تراقب كل حركة من حركات جسدهِ المتناسق .

دون سابق إنذار قال بأنشراح ” هل يمكن أن أدعوكِ هذه الليلة الى عشاء في مطعم المدينة. أتمنى أن يكون لديك وقت هذا المساء.”. نظرت اليه بأندهاش كأنها تسمع شيئاً صادراً من الخيال. قالت بمرح صبياني ” تدعونني الى العشاء خارج البيت؟ وماذا عن العشاء الذي تطبخه والدة زوجي؟ ماذا سيقولون عنا؟ هل نحن عشاق؟” وراحت تضحك بصوت مرتفع. لم يعلق على كلامها بشيء ظل صامتا حتى هدأت ثورة تعجبها بعدها أردف قائلاً ” هل أن العشاق هم الذين وحدهم يحق لهم الذهاب لتناول العشاء خارج البيت؟أما فيما يتعلق بوالدة روبرت فسأكون قادراً على إعطائها تبريراً وجيهاً وبسيطاً.”. حينما شارفت الساعة على الثانية من بعد الظهر كانا قد أنجزا كل ما يتعلق بتشذيب ألأغصان الفائضة عن الحاجة. قبل الغروب تقدم فرانك نحو زوجة أخيه وكانت تعمل في المطبخ بهمه ونشاط. قال لها بكل ثقة ” أريد أن أذهب الى سوق المدينة وسأجعل كارولين تقود السيارة لأنني لاأستطيع أن أقودها بطريقة جيدة بسبب نظارتي الطبية. يجب عليّ تغيير النظارة. أرجو أن لايكون لديكِ مانع ؟ نظرت اليه والدة روبرت بأستغراب فهذه أول مرة يريد الخروج وقت العشاء. كانت على الدوام تشعر بسعادة غامره حينما يجلس معهم وقت العشاء. كان يتكلم على الدوام – طيلة فترة العشاء – يتحدث عن أشياء لاتعد ولاتحصى وقعت له أثناء فترة شبابه وعند إشتراكه في الحرب العالمية الثانية. كانت لديه طريقه ساحرة في سرد ألأحداث لدرجة تجعلهم يتوقفون عن تناول طعامهم لمتابعة الحكاية بتركيز تام. نظرت اليه زوجة شقيقه بفتور وعدم إرتياح وكأنها تريد أن تقول له ولماذا تريد الذهاب عند وقت العشاء؟ كان يفهمها بشكل عجيب حينما ينظر الى عينيها. يستطيع أن يُخمن ما تريد قوله. وكانت تعرف تماماً ما يجول في خاطره. كانا يقضيان ساعات عديده في الحوار عن أشياء كثيرة تتعلق بالحياة والمجتمع. أحيانا تبكي أمامه تشكو له ما يدور في ذهنها عن معاناة زوجها وكيف تحولت حياتهم الى مزيج من الحزن وألألم بعد الحادثة. دون أن تقول له أي كلمة أدارت عينيها عنه وأطلقت تنهيدة مسموعة وأستمرت في تقطيع الخضراوات وألأشياء ألأخرى المخصصة للعشاء.

حينما شاهد حالة الحزن المرتسمه على وجهها قال بمرح ” حسناً سنعود قبل موعد العشاء ولكنني أحتاج الى ساعة إضافية عن الموعد المقرر فقد يحدث شيئأً ما في الطريق يسبب لنا تأخيراً .أريد شراء بعض الحاجيات الضرورية ، لا أجد وقتاً مناسباً أثناء النهار. “. إلتفتت اليه وقد ظهر بعض ألأنشراح على قسماتها. قالت ” حسناً سنجعل العشاء الساعة العاشرة بدلاً من الثامنة.هذا الوقت سيكون كافياً لذهابك وعودتك، أليس كذلك؟”. قال بسرعة ” لابأس. سنكون هنا في الموعد المحدد”. وهو يتوجه نحو سيارته صاح بصوتٍ مرتفع ” كارولين. هل أنتِ جاهزه؟”. قبل أن يصل سيارته كانت كارولين قد ركضت اليه. بدأ ضوء الغسق يصبغ الفضاء بلونه القرمزي والجو هادئاً يغري كل شخص بالخروج من البيت وقضاء سهرة بسيطة في سوق المدينة الذي يبعد أربعة كيلومترات. إنطلقت كارولين تقود البيك أب بهدوء باديء ألأمر على الطريق العريض الذي يربط المدينةِ الصغيرة بحقول القمح وألأراضي الممتدة الى مساحاتٍ شاسعة. جلس فرانك في المقعد ألأمامي مسترخياً . كان الصمت قد لفهما تماماً. لم يكن هناك أي صوت سوى هدير المحرك وبعض الموسيقى الكلاسيكية الصادرة من المذياع. بين فترة وأخرى كانت تسترق النظر اليه. أغمض عيناه كأنه يريد أن يسترجع ذكريات الماضي السحيق أو ربما ينشد راحةٍ مؤقته بعد يومِ عملٍ شاق وطويل في حقول القمح والتفاح. كان الظلام قد أسدل ستائره وتحول كل شيء الى صورة قاتمة في كل ألأتجاهات. لم يكن هناك أي ضوء عدا ضوء مصابيح السيارة العالي الذي يمتد الى مسافات بعيدة أمامهما. كانت كارولين سائقة ماهرة جداً. لم تجعله يشعر ببعض المطبات الصغيرة الموجودة على الشارع الطويل. دون توقع خاطبها وهو لايزال مغمضاً عيناه” هل يمكن أن نذهب أنا وأنتِ ألأسبوع القادم الى الشركة التي يعمل بها روبرت؟ نتعرف على المديرة التي هام بها حباً على حدِ قولك. قد نصل الى إتفاق يُرضي جميع ألأطراف.”. صمت قليلاً كأنه يستجمع أفكارهُ المتناثرة هنا وهناك. لم تحاول أن تبدي رأيها. كانت تريدهُ أن يًكمل حديثه. تعرف طريقته في الكلام. إذا بدأ حديثاً ما، يصمت قليلاً ثم يبدأُ من جديد بطرح أفكار تختلف عن الفكرةِ ألأولى التي كان قد طرحها في بداية حديثه. تنحنح قليلاً ، عدّل من وضع جلسته. شعر أن شيئاً ما قد نفذ الى أعماقه يُجبرهُ على قول شيء معين. دون تردد قال بحماس” هل نستطيع ألأن التوجه مباشرة الى الشركة التي يعمل فيها روبرت؟ لم ارهُ منذ عدة أيام. إشتقتُ اليه جداً. كنت أحبه في طفولته بشكل جنوني. لازلت أحبه ولكن ليس مثلما كان طفلاً”. دون أن يسمع جوابها قال بحماس كبير ” لازال الوقت مبكراً. نحتاج الى ساعة كي نصل الى هناك ، إذا كنت ألأمور تسير بصورة طبيعية قد نصل الى موعد العشاء في الوقت المحدد أو قد نتأخر قليلاً.

إندهشت كارولين لهذا التحول المفاجيء، لم يخطر في ذهنها يوماً ما أن تذهب الى الشركة التي يعمل فيها زوجها. يُعتبر هذا خارج نطاق الخط المرسوم لها ولحياتها. دون سابق إنذار صرخ بصوت مرتفع نسبيا ” توقفي..توقفي..ساقود السيارة “. توقفت وبسرعة البرق خرج من مقعدهِ وأستدارحول السيارة وفتح لها الباب لتأخذ مكانه. في اللحظةِ التي إستقر فيها أمام عجلة القيادة إنطلق كالصاروخ كأن وحشاً كاسراً يروم إفتراسه في جنح الليل. صرخت قائلة ” و لِمَ هذه العجلة؟ أنت تقود بسرعة جنونية والطريق لايخلو من بعض المخاطر”. دون أن يرد عليها رفع صوت المذياع حيث كانت موسيقى روك أند رول تنبعث بطريقة مستمره. شعر أن تلك الموسيقى تمدهُ بقوة غير طبيعية. راح يغني مع المغني بنفس النغمة العالية ونفس الدقة في التركيز على مخارج الحروف. أغلق المذياع فجأة . التفت نحوها وقد ظهرت على وجهه جدية صارمة على إتخاذ قرار معين. ” كارولين، إسمعي جيداً. سنذهب ألأن الى الشركة التي يعمل فيها روبرت. سنضع حداً لهذا ألأهمال من جانبه. سوف أكون معه جدياً سأوافق على أي شيء يريده ولكن لن أسمح لتك ألأفعى أن تدمر حياتك. حياتك هي حياتي وسعادتك هي سعادتي.”. أخرج سيكارة على عجل وراح يدخنها بشراهه. دون أن يلتفت اليها قال بجدية مفرطة ” سنناقش معهما كل شيء. لا أحب ألأشياء المعلقة التي تحتاج الى حلول. أريد أن افهم كل شيء حتى لو كانت محزنه. أريد العيش في الضياء الساطع لا أحب الظلامية في أي أمر من ألأمور” كانت تصغي اليه بذهول تام، لم تصق أبداً أن هذا الرجل المسن يدافع عنها بطريقة جدية. شعرت أن لها كيان في هذا العالم وفي هذا الريف بصورةٍ خاصة. تمنت لو أن روبرت هو الذي يتحدث ألأن لكانت سعادتها لاتوصف. ومع ذلك فأن حديثه قد جلب لها نوعاً من الكبرياء الذي كان قد تلاشى في ألأونه ألأخيرة. راح قلبها يخفق بطريقة متسارعة. ماذا سيكون رد فعل روبرت حينما يشاهدها قريبة منه في هذا الليل؟ ماذا سيقول عنها؟ هل هي تتحداه؟ تخترق عالمه الخاص الذي يحافظ عليه بكل سرية عن ألأخرين. هل سيستقبلها كزوجة، كحبيبة، كفتاة أو إمرأه عادية كان قد تعرف عليها يوماً ما في مكانٍ ما؟ شعور متناقض هذا الذي يدور في ذهنها ألأن. لكنها زوجة تريد أن تعيش كباقي النساء . هي محرومه من العاطفة الروحية التي تربط ألأزواج بزوجاتهم. لديها النقود الكافية، لديها البيت، لديها العائلة ولكن لم يكن هناك حباً وحنانا. تريد زوجا وحبيبا يحيل لياليها الباردة الى ثورة من الحب الى أمواج من السعادة التي تلاشت منذ أن بدأ العمل مع تلك السيدة التي تدير شركتها الخاصة في مكانٍ من هذا العالم.

هي زوجة ألأن ولكنها لاتشعر بحياتها الزوجية على ألأطلاق. هي مُهمله، منسية، هي كنز من الذهب ولكن لاأحد يشعر بها. هي تبحث عن زوجٍ عن حبيبٍ عن رجلٍ يهتم بها كما يهتم كل رجل بشريكة حياته. هي تنام في نفس الفراش الذي ينام فيه زوجها كلما حضر الى البيت ولكنها تشعر أنه يبتعد عنها مسافات شاسعة . تسمع صوت أنفاسه كل ليلة وبكل حركة يقوم بها داخل الفراش ولكن لاتستطيع ألأقتراب منه. كلما حاولت ألأقتراب منه في جنح الظلام كان جسده ينقبض أمام لمسات أناملها الرقيقة. تتأجج الرغبة داخلها لأمتلاكه كما كانا يفعلان في بداية زواجهما. كان يدفع جسدها بعيداً عنه كأن مخلوقاً مرعباً لامسه. يئن قليلاً ثم يهمس بصوتٍ مرتجف ” أرجوك دعيني أخلد للنوم لدي أعمال كثيرة غداً”. تنسحب متقهقرة الى الوراء تشعر أن هجومها قد تلاشى في لمح البصر وأن أنوثتها المتفجرة حيوية وشباب ما هي إلا وهم تجاه هذا المخلوق الذكري الذي كان يقبلها يوماً ما تحت أشجار حديقة الجامعة العملاقة. كان يلهث ورائها كأنها مخلوق خرافي يعيد الحياة له وهوسقيم على فراش الموت. إذن لماذا كل هذا الهروب منها في الوقت الحاضر؟ ماذا فعلت كي يُهملها كل هذا ألأهمال؟ كانت تنتحب بصمتٍ وخشوع وخوفٍ وقلق لما يجري حولها. تحاول النوم لكنها تبقى مستيقظه حتى الصباح. تنهض قبل أن ينهض من فراشه. ترتدي ملابس العمل ، تأخذ فطورها معها. تنطلق بسيارتها البيك أب – تبكي خلف مقود السيارة، تصرخ بأعلى صوتها ” وتعرف أن أحداً لن يسمعها” ” لماذا ..لماذا؟ ماذا فعلت كي تعذبني هكذا؟ لم أفعل شيء يستحق كل هذا الجفاء. قل لي ماذا أفعل كي تعود لي؟ ” وتبقى دموعها تنهمر كالمطر. حينما تصل حقول القمح وقبل أن تترجل من سيارتها تمسح دموعها جيداً وتضع نظارتها السوداء وتعتمر قبعتها وتحمل سلة الفطور لها ولفرانك. كان فرانك ينتظر قدومها في أوقات مختلفة. دائماً تخفي حالة البؤس الذي يسيطر عليها وتحاول أن تكون منشرحه كي لاتزيد من همومه.

لم يكن ذلك يخفى عليه مطلقاً. نظرة واحده الى عينيها يستطيع قراءة كل مايدور في ذهنها. كانت تتجنبه ولكنه ينتزع إعترافاتها بعبارةٍ واحده ” ماذا حدث؟” يجلسان متقابلان يتناولان فطورهما في صمتٍ إحياناً . بالنسبةِ لها كان هذا الرجل هو الملاذ الوحيد لها، في بعض ألأحيان تقول له بطريقةٍ صبيانية ” لو لم تكن أنت هنا كيف ستكون حياتي؟ كيف أستطيع مواصلة العيش في هذا الجحيم ألأجتماعي وهذا ألأهمال المطلق من قبل الشخص الذي عشقني يوماً ما”. يبتسم لها بهدوء ويقول بحنان تام ” أنتِ كل شيء بالنسبةِ لي. أنت ِ الخيط الرفيع الذي يربطني بالماضي ويساعدني على مواصلة ألحياة خلال السنوات المتبقية من عمري. أنتِ تجلبين لي صورة إبنتي ماجي كلما نظرت الى وجهك. ماجي كانت كل شيء في حياتي ولكن ذلك الرجل القادم من أقصى البلاد أخذها مني. هذه هي الحياة نأخذ من بعض ويأخذون منا”. إسترجعت كارولين كل تلك الذكريات والمعاناة وهي تجلس الى جانب فرانك في المقعد ألأمامي. كان يحترم صمتها. حينما تصمت يعرف أنها تسرح في خيالها اللامحدود. كانت السيارة تنهب الطريق الطويل بوحشية مطلقة . من بعيد ظهرت أضواء المدينة الصغيرة حيث توجد فيها الشركة التي يعمل فيها روبرت زوج كارولين. قالت بقلق:” هل تعتقد أننا سنجده في الشركة أم أنه سيكون معها في مكان أخر؟ وماذا لو صرخ في وجهي يوبخني على هذا الحضور غير المتوقع؟ ماذا سأقول له؟ حقاً أنني مرتبكة، لاأعرف كيف أتصرف؟ نظر اليها مبتسماً مُدركاً المعاناة التي تعيش فيها ألأن. مد يده ولمس خدها بحنان أبوي وهو يقول” طالما أنتِ معي لا أحد يستطيع أن يسبب لكِ أي أذى. أنتِ مع فرانك وفرانك هو رمز التحدي لأي شيء يقترب منكِ . الشيء الوحيد الذي أريده منك هو أن تتصرفي بشجاعة وعدم إظهار أي نوع من أنواع ألأرتباك”. إبتسمت له بأنشراح وأحست أنها معه تستطيع أن تواجه كل المخلوقات البشرية على مدى التاريخ. أخذت نفساً عميقاً عدلت من وضع شعرها. قالت بتحدي:” حسناً فلنواجه الحقيقة مهما كانت قاسية. لم أعد أحتمل العيش في الخوف والترقب من حدوث أي شيء قد يحيل حياتي الى جحيم. فلنذهب ألأن”.

ترجل فرانك من السيارة. بدأ يرتب من ملابسه. قال بهدوء ” سنذهب سوية. لاتتكلمي إلا إذا سمحتُ لك بذلك. سأبدأ أنا الكلام وسنرى كيف ستكون النتيجة”. تقدما بحذر نحو البوابة الرئيسية للشركة. إعترضهما الحارس المدني المكلف بحراسة البوابة . أخبره فرانك عن سبب قدومهما. إبتسم الحارس وراح يتحدث بجهاز محمول في يده. حينما أغلق الجهاز نظر اليهما قائلاً ” حسناً إدخلا. إذهبا الى تلك الغرفة في الجهةِ اليمنى سيكون هناك شخص أخر تستطيعان ألأستفهام منه عن أي شيء” . شكره فرانك وأخذ يد كارولين بيدهِ ساحباً إياها بهدوء نحو الغرفةِ في الجهةِ اليمنى. كانت كارولين ترسل نظراتها الى جهاتٍ مختلفة للبنايةِ الكبيرة ألانيقة جداً. ” إذن هنا يعمل زوجها” راحت تحدث نفسها وتسمح لخيالاتها أن تقودها الى إفتراضات وتصورات لاتعد ولاتحصى. هذه أول مرة تدخل فيها الشركة. شعرت بنوع من الخشية والقلق لهذا التدخل السريع غير المتوقع من جانبها لأقتحام حياة زوجها العملية وربما العطفية . لم تكن تسمع أي كلمة من الحوار الدائر بين فرانك وموظفة ألأستعلامات. كان ذهنها شارداً بعيداً عن هذا الواقع الذي تعيشه. عادت الى الواقع حينما صرخ بها فرانك قائلاً” أين أنتِ؟ فلنذهب الى داخل البناية.سترافقنا الموظفه الى غرفة روبرت. لقد سمح لنا أخيراً بالدخول”. ركضت كارولين الى جانبهِ كأنها طفلة صغيرة تذهب الى المدرسة في عامها ألأول. كانت ضربات قلبها تزداد كلما تقدما نحو غرفة روبرت في الجهة البعيدة من هذا الرواق الطويل. كان فرانك يسير الى جانب موظفة ألأستعلامات بثقه عالية جدا كأنه يسير في مكان يمتلكه هو وليس تلك المديره الرعناء التي تحاول أن تخطف زوج كارولين بين عشية وضحاها. أخبرتهما موظفة ألأستعلامات بأن المديرة طلبت مقابلتهما قبل التوجه الى غرفة روبرت. وقفوا جميعاً قرب باب خشبي ضخم جدا خُط عليه بحروف نحاسية تشبه الذهب ” مديرة الشركة”. راحت موظفة الأستعلامات ترتب من وضع شعرها وقميصها وتنورتها قبل أن تطرق الباب بالدخول. حينما سمعت صوتاً يسمح لها بالدخول نظرت الى كل من فرانك وكارولين وقد إرتسمت على شفتيها إبتسامة قلق أو هذا ماتصورته كارولين. دخل الثلاثة. قالت الموظفه بطريقه دبلوماسية ” عفوا السيد فرانك والسيدة كارولين”. تراجعت الموظفة الى الوراء وسمحت لفرانك بالتقدم تلحق به كارولين.

نهضت المديرة من خلف مكتبها وتقدمت نحو فرانك بأبتسامه عريضة وهي تقول ” أوه، السيد فرانك. أهلا وسهلا. لقد حدثني روبرت عنك كثيراً. تفضل بالجلوس”. وقبل أن يجلس صاحت مرة أخرى بأنشراح مصطنع ” وأنتِ السيدة كارولين زوجة روبرت أليس كذلك؟ لقد سمعتُ عنكِ الشيء الكثير. حقاً أنتِ جميلة. تفضلي بالجلوس”. جلست كارولين قريبا من فرانك كأنها كانت تستجديه أن ينقذها من هذا المأزق الذي لم تتوقع أن تجد نفسها فيه بلمح البصر. دون مقدمات قال فرانك : ” لقد جئنا لمقابلة السيد روبرت. إشتقنا اليه كثيراً. لم أره منذ إسبوع. أنا شقيق والده. كان مثل إبني منذ صغره”. قالت بصوت ترتسم عليه علامات الجدية والترحيب المفتعل” سيأتي روبرت بعد عشر دقائق. لقد ذهب لأنجاز بعض ألأوراق المهمة.” صمتت فجأة حينما دخلت فتاة تحمل ثلاثة أقداح من العصير الفاخر جداً. ظلت كارولين تحدق في وجه الفتاة التي كانت منشغلة في وضع كل قدح أمام كل شخص بطريقه إحترافية كما لو أنها كانت قد إعتادت للقيام بهذه المهمة طيلة حياتها العملية. في اللحظةِ التي خرجت فيها الفتاة شرعت المديرة تتحدث بصوت هاديء: ” روبرت موظف ممتاز يقوم بعمله بكل دقة وأخلاص. أتوقع له مستقبل زاهر في مجال عمله”. نظرت الى ساعتها اليدوية الثمينة. تنهدت بصوت مسموع ثم نظرت الى فرانك وهي تقول:” بعد ثلاث ساعات سوف نسافر أنا وروبرت الى باريس لحضور مؤتمر متأسفه لأنني لاأستطيع دعوتكما لتناول طعام العشاء في مطعم الشركة. تمنيت لو أنكما جئتما قبل هذا الوقت لكان لدينا جميعا وقتا كافيا للتمتع بتناول عشائنا سوية ولتبادلنا أطراف حديث رائع”. جفل قلب كارولين حينما عرفت أن زوجها سوف يسافر الى بارسي الليلة مع المديرة.هذا يعني أشياء كثيرة غير مفرحة بالنسبة لها. كانت دقات قلبها تزداد بشكل هستيري ويكاد قلبها يقفز من بين ضلوعها. حاولت أن تلتزم بهدوئها كما أخبرها فرانك من قبل. قبل أن تواصل المديرة كلامها دخل روبرت دون أن يطرق الباب كما لو أنه كان يدخل مكانا ً خاصاً به وليس كموظف له مستقبل زاهر كما كانت تقول المديرة قبل قليل. كانت كارولين تحدق في وجهه كأنها تراه لأول مرة في حياتها. هل صحيح أن هذا الرجل الواقف في وسط المكتب الفاخر هو الشخص الذي كانت تربطه معها قصة حب طويلة أيام الدراسة الجامعية؟ تركت ولايتها البعيدة وجاءت للعيش معه لتكوّن معه أسره وأطفال وتاريخ جديد. شعرت أنها إمراة غريبة جداً عن هذا الرجل…ذو المستقبل الزاهر…ماذا تفعل؟ هل تنهض وتلقِ نفسها في أحضانه وتبكي على كتفيه دموعاً ساخنه تلتمس منه الرحمة أن يُعيدها الى حياتها ألأولى معه؟ الى ثورات الحب الجامحة التي كانت تحيط بهما كل ليلة لا بل كل لحظة عاشاها سوية.

يتبع ….

أحدث المقالات