12 أبريل، 2024 3:22 ص
Search
Close this search box.

الحلم المستحيل – 1 –

Facebook
Twitter
LinkedIn

الحلقة رقم – 1 –
كانت سنابل القمح تتمايل مع نسيم الصباح الهاب من الشمال وتتمايل معها قمم النباتات الكثيفة المنتشرة في كل مكان من تلك ألأرض الممتده على طول البصر. جلس ” فرانك” قرب النهر الصغير الذي يشق ألأرض الى مسافات بعيدة وهو يحيط بألأرض الخصبة. كانت الساعة قد إقتربت من التاسعة صباحاً. كان فرانك قد غادر بيت شقيقه الكبير قبل بزوغ الشمس. أخرج لفافة تبغ من علبة سكائره وبيد مرتعشه أوقدها وراح الدخان يهرب بعيداً عن مكان جلوسه بسبب نسيم الصباح الذي كان يتصاعد رويداً رويداً. أرسل نظراته نحو ألأفق البعيد كأنه يستذكر أيامه المنسيّة مع زوجته التي فارقته قبل عشر سنوات بسبب مرض عضال . بلغ فرانك الخامسة والخمسين قبل شهرين ولكنه لازال يتمتع بصحةٍ جيدة وعضلات مفتولة تشبه عضلات الشباب. كان رجلاً ريفياً منذ أن جاء الى هذه الحياة. عاش طيلة سنوات عمره بين سنابل القمح وأشجار التفاح المنتشرة على أرض والده الواسعة التي ورثها أباً عن جد. حينما إنتقلت زوجته الى العالم ألأخر لم يُطق الحياة لوحده. سأم من غسل ملابسه كل يوم وطريقة إعداد الطعام المرهقه. قرر ألانتقال للعيش مع عائلة شقيقه المجاوره لأرضه. فرحت زوجة شقيقه وأبنائها وزوجاتهم لهذا ألأنتقال غير المتوقع. بدأ الجميع يخدمونه بكل رغبه كأنهم يريدون تعويضه عن حبه المفقود. في البداية شعر بنوع من الحياء وألأحراج لهذا التحول الذي طرأ على حياته. تقادم ألأيام والشهور والسنين منحتهُ تآلفاً وسعادة كبيرة بسبب إختلاطهِ بهذا المجتمع الصغير الذي كان قد فقدهُ منذُ رحيل زوجتهِ الى عالمٍ أخر وسفر ولدهُ وزوجتهِ الى ولاية بعيدة من ولايات أمريكا الشمالية. قرر أن يدمج أرضهُ مع أرض شقيقه. إعتادت كارولين ، زوجة ألأبن ألأكبر لشقيقه أن تجلب له طعاماً متنوعاً كلما شارفت الساعة على التاسعة صباحاً. أكملت كارولين دراستها الجامعية بتفوق وحصلت على تخصص في تطوير التربه والمحاصيل الزراعية.

كانت الفتاة الوحيدة من عائلة شقيقه التي تهتم بالأرض وتفعل المستحيل لجعل ألأرض خضراء منتجه طيلة الفصول ألأربعة. لديها طرق علمية وإبتكارات كثيرة تجعل من ألأرض منتجه لمحاصيل متنوعة طيلة السنة. أوقفت سيارتها البيك أب قرب الطريق الترابي المحيط بالأرض. حملت السله التي تحتوي على أنواع مختلفة من الطعام . حاول فرانك أن ينهض لمساعدتها بيد أنها أشارت اليه بالجلوس لأنها قادرة على إنجاز هذه المهمة الصباحية المعتادة. دون أن تلقِ عليه تحية الصباح كما كانت تفعل كلما وصلت اليه في الساعة المحددة. راحت تفرش قطعة القماش الكبيرة الملونه بأزهار وطيور وأشجار. شرعت ترتب من وضع البيض والجبن والقيمر والمربى والخبز وإبريق الشاي بطريقه هندسية كأنها تريد أن تستعرض مهاراتها كزوجه لأبن شقيقه وفلاحه مخلصة ومتفانية في سبيل ألأرض الواسعة. ظلت صامته كصمت ألأموات. كان شعرها مربوطاً الى الخلف يصل الى مابعد منتصف ظهرها. تضع قبعة واسعة كتلك التي يضعها الفلاحون الصينيون، هي تعشق هذا النوع من القبعات. ظل فرانك يُحدق اليها يتأملها بصمت يستفسر عن سر هذا الصمت غير المتوقع من جانبها. في رحلاتها الصباحية المعتادة كل يوم كانت تحمل اليه سلة الفطور الصباحي منشرحة النفس وعلى ألأغلب كانت تردد مع نفسها بصوتٍ مسموع أغنية ” جوني كاش”…أيها الطريق الريفي خذني الى بلدي. اليوم مكفهرة الوجه ولم تُصدر صفيراً من فمها كما كانت تفعل كل يوم. إذن هناك ثمة شيء يُشغل ذهنها. إحترم صمتها . لم يحاول أن يحثها على قول أي شيء. يعرف أنها في النهاية سوف تبوح له بكل شيء كما كانت تفعل ذلك على طول ألأيام وألأشهر والسنين. إقتربت كارولين من الثلاثين من عمرها. تزوجت من إبن شقيقه قبل أن تنهي السنه ألأخيرة من دراستها الجامعية. عاشت معه قصةِ حبٍ عنيفه تطورت الى زواج. تنحدر من ولاية فلوريدا. منذ اللحظةِ التي وطأت قدميها هذه ألارض عشقتها بكل قوه. كان قدوم العم فرانك بمثابة المنقذ لها. كانت ترى فيه ألأب، الصديق، ألأخ وكل شيء. تتحدث معه في أمورٍ كثيرة تتعلق بالأرض والمجتمع والصناعة والتجارة وحتى عن أدق التفاصيل عن حياتها مع زوجها.

كان زوجها روبرت من أؤلئك الذين لايطيقون البقاء في البيت أو المزرعة لا بل يكره كل شيء ينتمي الى ألأرض وحياة الفلاحين بصورةٍ عامه. يعمل بأحدى الشركات القريبة من المنطقه التي يسكنها. وحينما نقول المنطقه القريبة فهذا يعني ساعة كاملة بالسيارة التي يقودها كل يوم . أحياناً يبقى عدة أيام خارج البيت. كان يبرر بقائه خارج البيت بالعمل المتراكم الذي يتطلب منه بقاء ساعات أطول . كانت كارولين تثق به ثقه عمياء. لاتريد أن تجعل ذهنها يتشتت بأمور تعتبرها تافهه أو قد تجلب لها مضايقات نفسية هي في غنى عنها.هي تعشق الحياة التي تعيشها بشكل ملفت للنظر. تهتم بطفليها الصغيرين ، وحينما تريد الذهاب الى الحقل توصي عمتها للأعتناء بهما. كانت العائلة تعتمد عليها في كل شيء. والد زوجها أصغر من فرانك بعشر سنوات لكنه لايستطيع الخروج بسبب العوق الذي أصابهُ من جراء حادثة مأساوية وقعت له أثناء عمله في ألأرض قبل عدة سنوات. حينما أكملت كارولين ترتيب الطعام الصباحي، التفتت اليه دون أن تنبس ببنت شفه. أشارت اليه أن يبدأ في تناول الفطور. جلست في الجهةِ المقابلة له. تطلع اليها من خلال نظارته الطبيه الرمادية دون أن يتفوه بكلمةٍ واحده. لم يحاول أن يفتح أي حوارٍ معها. تركها تسبح في صمتها حتى النهاية. أراد أن يستكشف كل شيء في لحظةٍ واحده لكن الحياة علمتهُ أن ألأنتظار قد ينتج عنه إنتصارٍ كبير. لم يندفع كعادته كل صباحٍ بشهية مطلقه نحو الفطور اللذيذ. بيدٍ متأنيه دفع يدهُ اليمنى صوب إبريق الشاي وراح يسكب لنفسه قدحاً من الشاي الساخن. شعر في تلك اللحظة أنه عاد للعيش مجددا في عزلةٍ تامه عن المجتمع الذي يعيش فيه. لم تتحرك كارولين من مكانها. ظلت تنظر اليه بعينين مرهقتين كأنها تريد أن تتأمل هذا المخلوق البشري الجالس أمامها بكل سنواته الطويلة التي مر بها. تخيلت التجارب الصعبه والسهلة التي عصفت به طوال الزمن. لم تحاول هي ألأخرى أن تسكب له الشاي كما إعتادت أن تفعل كل صباح. لم يحاول هو ألأخر أن يبدي ملاحظة معينه لهذا البرود المفاجيء الذي حط عليها وعلى حين غره.

رفع قدحه الى فمهِ وراح يرتشف رشفاتٍ صغيرة وهو ينظر الى ألأفق البعيد. يُمعن النظر في تلك السنابل المرتفعة والى تلك الحركة المتناسقة بسبب نسيم الصباح الربيعي. لم يكن هناك أي صوتٍ عدا أصوات الطيور الصغيرة المتهافته هنا وهناك. نظر اليها بعفوية فوجدها تُحدقُ في عينيهِ بطريقةٍ غريبة كأنها تبحثُ عن شيءٍ مفقود. أطال النظر اليها كأنه يستكشف معانِ تلك النظرات الممزوجة بحزنٍ لم يرهُ في عينيها من قبل. أرخت يديها في محاولةٍ لتغيير وضع جلوسها. بلا تردد قالت ” لماذا لاتأكل؟ هل تريدني أن أعمل لك ساندويشه؟”. راحت تفتح قطعة من الخبز وتضع فيها كمية مناسبة من الجبن وبعضاً من مربى التفاح. أخذ منها قطعة الخبز وطفق يمضغها بهدوء. ” لماذا لاتتحدث كالعادة وأنت تتناول الفطور؟”. كررت السؤال مره أخرى. كان لامبالياً أو على ألأقل هذا ماتظاهر به. حاولت أن تجعله يتكلم ولكنه تظاهر بعدم السمع. قالت بنبره متضايقة بعض الشيء. ” يبدو أن سمعك أصبح ثقيلاً هذا اليوم! هل تكره الحديث معي؟ هل بدأت تضجر من وجودي؟ حسنأً ، إذا لم تعد ترغب بوجودي سأجلب لك الفطور الصباحي وأعود الى البيت”. كان حديثها صادراً من الفراغ. لم يكن نابعاً من أعماقِ قلبها وروحها الفتية. نظر اليها بهدوء وهو يقول” من الذي سأم ألأخر؟ أنا أم أنتِ؟ منذُ أن وصلتِ الى هنا وأنتِ مكفهرة الوجه والقسمات. كأنكِ كنتِ مرغمة على الحضور. الحقُ معكِ. من أنا كي أستحق كل هذا ألأعتناء؟ أنا لاشيء سوى رجلاً عجوزاً يشكو الحرمان من كل شيء”. حاول أن يستمر في كلامه إلا أنها قفزت فجأةً ووضعت يدها البيضاء على فمه وهي تقول بصوتٍ حنون ” أرجوك لاتتكلم هكذا؟ أرجوك لاتحاول أن تضع عليّ اللوم. أنني أمر في ظروفٍ صعبه للغاية. أحياناً أشعر بالأختناق. لاأعرف ماذا أفعل؟ .

دون أن تنتظر جوابه تركته وقفزت الى الجهةِ ألأخرى. جلست على ألأرض وراحت تبكي بحرقه. ظل جالساً في مكانه. منحها مساحه من الحرية كي تتخلص من كل اللآلام النفسية التي كانت ترزح تحت كاهلها.أرادها أن تُفرغ كل شحنات الغضب التي كانت تجيشُ في داخلها. لقد كانت زوجته تغوص في نوباتِ بكاءٍ لاتنتهي لأسباب كانت تافهه أحياناً . كان يتركها تُعبر عما كانت تريده من خلال دموعها الغزيرة. وحينما تستخدم منديلها وتجفف كل دمعة قد تركت أثراً واضحاً على وجهها، كان يبتسم لها بهدوء طالباً منها الجلوس لمناقشة الموضوع بطريقه عقلانية. تذكر زوجته بكل أيامه الحلوة معها. ظل يُحدقُ الى كتفيها اللذان كانا يهتزان من شدة البكاء. نهض من مكانهِ بتثاقل وهو يقول بحنان أبوي ” حسناً توقفي عن البكاء. خذي هذا المنديل وجففي دموعك”. إبتعد قليلاً متقدماً صوب أمواج القمح المتمايلة مع لفحات النسيم الهاب من جهة الشمال. توقف ملتفتاً اليها وهو يقول بصوت يشبه الهمس ” عندما تجففين دموعك، إتبعينني. توجد هناك أعمال كثيرة لأنجازها”. رفعت رأسها بهدوء وهي تنظر الى جسدهِ الضخم الطويل الذي راح يتقدم بخطوات وئيده نحو الحقل الممتد الى مسافات شاسعه. دون أن تبدي أي تذمر نهضت ولحقت به بخطوات سريعه كي تكون الى جانبه. في اللحظةِ التي أصبحت الى جانبه نظر اليها بحنان وهو يقول” أعتقد أن هناك ثمة شيء جدي في حياتك جعلك تذرفين كل هذه الدموع على شكل غير متوقع “. كان الطريق الممتد وسط الحقول يكفي لشخصين فقط.أحياناً تضطر للتوقف في بعض ألأماكن كي تدعه يسبقها وحتى لا تسحق بعضاً من سنابل القمح. دون وعي مسكت يدهُ اليسرى وكأنها تنشد حماية ضمنية لعالمها ألأجتماعي الذي بدأ يهتز شيئاً فشيئاً.

نظر اليها مبتسماً كأنه ينظر الى طفله صغيرة تحاول التشبث بيد أمها أو أبيها. قال بصوتٍ حنون ” حسناً ، ماذا حدث بينكما؟ أنتِ وزوجك؟ “. شعرت أن هناك شيئاً ما يهاجم مشاعرها الداخلية. تركت يدهُ وكان كل جزء من أجزاء جسدها ينتفض بثورة من الغضب. دون تردد قالت” توجد أشياء مهمة تحدث معي لا أعرف لها سبباً. تخلق لي قلقاً شديداً.” صمتت قليلاً. لم يحاول أن يحثها على الحديث. أرادها أن تبوح له بكل شيء طوعاً لعله يستطيع أن يقدم لها بعضاً من الحلول المناسبه. تنهدت بصوتٍ مسموع . أمسكت يده من جديد وهي تقول ” عمو، هناك أشياء تحدث لي تجعلني أسبح في دوامة من القلق الذي لاينتهي. أشعر أن روبرت لم يعد كما كان في السابق. يتغيب ساعات طويلة عن البيت. يتظاهر بالتعب وألأرهاق حينما يعود. ينام وحيداً دون أن يُعيرني أدنى إهتمام. يحاول أن يتجاهلني كلما وجد الى ذلك سبيلاً. إكتشفتُ في ألأونه ألأخيرة أن له علاقة مع مديرة الشركة التي تكبرهُ بعدة سنوات. حاولتُ ان أقول له بأن حبه لي قد تضائل وأن مديرة الشركة تسرقه مني. ثارت ثائرته وراح يصرخ في وجهي بطريقةٍ لم أعتد عليها من قبل. لا أعرف ماذا أفعل؟”. أوقد سيكاره وراح ينفخ دخانها بعيداً في الفضاء الفسيح. شعر أن الوضع الذي تمر فيه ألأن يستحق كل تلك الدموع التي ذرفتها عند الصباح. تذكر كيف كانت زوجته تحاول إرضاءه مهما كانت حالتها النفسية . هل يمكن أن يكون الجيل القديم أكثر إخلاصا من هذا الجيل الذي تنتمي اليه كارولين؟ ربما هناك ثمة أشياء تخفيها ألأن ولا تريد البوح بها كي لا تكون في موضع ألأتهام. من يدري قد تكون هي السبب الذي جعل زوجها يتصرف هكذا وبالتالي هرب الى أحضان إمرأه أخرى. ربما لاحظ زوجها عدم وجود إهتمام به. مهما بلغ الرجل من العمر يبقى كالطفل الصغير ينشد ألأهتمام والرعاية من زوجته. تذكر لحظات معينه كثيره كانت تعصف بحالته النفسية. قبل ان تضع زوجته مولودها ألأول كان يشعر أنها متفانية في خدمته ولكن حينما بدأ ولده يزحف شعر في عقله اللاواعي أن زوجته تصرف كل وقتها معه….تلاعبه….تغسل جسده وملابسه. أشياء طبيعية تحدث بين ألأم وطفلها. كان يشعر أنه أصبح مخلوقاً من الدرجة الثانية. كلما حاول أن يخلد للنوم كانت تتظاهر بالتعب وألأرهاق الشديد بسبب الوليد الجديد. لم يستطع البوح بأي شيء من هذا القبيل كي لايُتهم بالصبيانية والغيرة المطلقه من مخلوقٍ صغير ينتمي الى جسده. هجمت عليه تلك ألأفكار والذكريات دفعه واحده وهو يتقدم الى جانبها داخل حقول القمح.

لم يحاول أن يمطرها بوابل أسئلته التي لاتنتهي عن حياتها الخاصة. هو يعرف أنها ألأن تمر بحالةٍ حرجه. أراد أن يؤجل الحديث معها حينما تكون مستعدة لذلك. إنحرف الى اليسار وأنحرفت معه دون أن تبدي أي إعتراض. ألأنحراف نحو اليسار معناه التوجه نحو أشجار التفاح. عند البوابة الصغيرة التي تتوسط ألأشجار توجد غرفة صغيرة تم وضع فيها عُدَدْ وأدوات لتقليم ألأشجار وأدوات أخرى تتطلبها ألأرض هناك. داخل الغرفة توجد خزانة للملابس حيث يتم خزن فيها ملابس العمل من كافة ألأحجام . دخل فرانك من خلال البوابه دون أن يلتفت الى كارولين. كانت تلحق به كأنها طفلة صغيرة لا حول لها ولا قوة. فتح خزانة الملابس وراح يختار بعض الملابس التي تصلح للعمل في حقل التفاح. كانت تنظر اليه وهي واقفه في باب الغرفة الصغيرة. بدأ يخلع ملابسه التي كان يرتديها منذ الصباح الباكر دون أن يعيرها أدنى إهتمام. كانت تتطلع الى عضلات كتفيه المتحركة كلما حاول أن يتحرك من مكان الى أخر. بعد ألأنتهاء من إرتداء ملابس العمل إلتفت اليها قائلاً بصوت يخلو من الحماس: ” سأسبقك الى الصف ألأول من أشجار التفاح. إرتدي الملابس المناسبة للعمل وأتبعينني”. حينما أصبح خارج الغرفة تقدمت نحو خزانة الملابس تتأملها بعينين شاردتين. إرتدت مايناسبها ولحقت به. كان يقف تحت إحدى ألأشجار يحمل أداتين لقطع ألأغصان. ” حسناً أنا مستعدة ألأن “. قالت عبارتها بطريقةٍ تحاول أن تكون فيها أكثر إنشراحاً. بلا مقدمات قال لها ” خذي هذه السكين وأقطعي أغصان تلك الشجرة. حاولي أن تؤدي عملك بطريقة متقنة كتلك المرات التي كنتِ تقومين بها. إحذري من الحوادث غير المتوقعة. تفهمين ما أقصد”. تقدم نحو الشجرة الكبيرة التي تبعد عن شجرتها عدة أمتار. شرع يقطع بعض ألأغصان المتدلية الفائضه عن الحاجه.

إستمر في عمله بصمتٍ باديء ألأمر. بعد دقائق قليلة راح يدندن بكلمات أغنية لطالما سمعته يدندن بها كلما كان يمر بين سنابل القمح أو عند سياقته سيارته البيك أب ” أوه..إنها تبدو كالملاك..إنها تمشي كالملاك..تضحك كالملاك…وحتى تطبخ كالملاك”. كان يغنيها بطريقةٍ حزينه لأول وهلة. بعدها يرتفع صوته بطريقة الغناء ألأوبرالي. يصرخ بصوت مرتفع كأنه يريد أن يتحدى تلك ألأغصان المتدلية بلا مبالاة. يصمت قليلاً ثم يُغير لحنه الى أغنية حزينة تجعل الدموع تنهمر من عينيهِ. يستذكر شخصاً عزيزاً فارقه منذ زمن طويل ويحاول من خلال تلك ألأغنية أن يرثي حاله ويبكي على تلك الحبيبة التي فارقته فجأة وأحيناً أخرى يصمت ويدع أفكاره تسبح بعيداً في عالمٍ مبهم.

كانت كارولين تراقبه بطريقةٍ غريبة، تراقب كل حركة من حركاته وكل نبرة صوت تصدر منه. أحياناً تبتسم ومره أخرى تشعر بأنقباض شديد في قلبها كلما سمعته يُطلق زفره عميقه. هل هي زفرة الحنين الى الماضي أم زفرة الحنين الى رفيقه تدفيء فراشه البارد منذ عدة سنوات؟ شعرت برغبه مفاجئه لتتسلق شجرتها. إمتطت أحد أغصانها الكثيفه وراحت تضرب بهدوء تام كل غصن يتدلى بطريقه غير متناسقة. كانت تعمل بصمت كأنها بعيدة عن هذا العالم. دون توقع سألها عن مشكلتها وبدأ سؤالهِ بطريقةٍ إستفزازية كأنه يريد أن يحفزها لقول المزيد عن حالتها التي كانت قد غيرتها هذا الصباح. ” أعتقد أنكِ السبب في كل مايجري في حياتك الزوجية ” . جفلت كارولين لهذاالتعبير الذي لم تتوقعه أن يصل الى مسامعها وهي تعمل فوق الشجرة. تصورت أن فرانك نسي الموضوع. صاحت بتحفز وهي تضرب ألأغصان بقوة” ماذا؟ ماذا قلت؟”. أجابها ببرود والتظاهر بعدم ألأهتمام ” قلتُ أنتِ المسؤولة ألأولى عن برود زوجك. لو أنكِ كنتِ قد إعتنيتِ به بدرجة كبيرة لما حاول ألأبتعاد عنك والقاء نفسه في أحضان سيدة أخرى.”. شعرت أن كل عصب من أعصاب جسدها ينتفض بطريقةٍ هستيرية في محاولة للرد على هذا الهجوم المفاجيء الذي كان قد شنهُ عليها بدون سابق إنذار. تفجر الدم الى خديها وتحول وجهها الى شعلة من الغضب. إزدادت نبضات قلبها. لا تعرف كيف ترد عليه؟ لقد نجح في إستفزازها بدرجة كبيرة جداً. راح يسترق النظر اليها من بين ألأغصان الكثيفة جداً. ظهرت على شفتيه إبتسامة شفقة وعطف في نفس الوقت. عرف أن الطلقة التي أطلقها قد وصلت الى مركز الهدف المرسوم. كانت يدها ترتعش وهي تضرب ألأغصان المتشابكة بشكل منفعل. أحسّ بخطورة الموقف النفسي الذي وصلت اليه. كانت تدمدم مع نفسها بكلمات لم يتمكن من فك رموزها. دون تردد قال بهدوء ” حسناً إذا لم يكن خطأؤك فعلى من يقع اللوم؟”. كان كلامه المتواصل قد بدأ يمتص جزءأً من غضبها وإنفعالها. دون أن تتوقف عن قطع ألأغصان راحت تتكلم بطريقة سريعة تتخللها الحسرات والتنهدات. ” بأي شيء قصرتُ معهُ؟ أعطيته كل حقوقه الزوجية كاملة. لم أتظاهر بالمرض أو ألأرهاق لحظة واحدة. على العكس كنت أتقرب اليه حينما نخلد الى النوم ولكن لا أجد أي تشجيع من قبله. ماذا يريد أكثر من هذا؟ مره وصفني بالفلاحه المتمردة. بكيتُ كثيراً وشعرتُ أنه لايريدني أن أعمل في الحقل. لا أستطيعُ أن أترك ألحقل. والده لايستطيع الحركة. والدته تعمل في المطبخ ولا تريد أن تجلب خادمة لتساعدها في البيت. ألأخ الثاني لروبرت وزوجته ليس لديهما أي إهتمام في ألأعمال الزراعية. يعملان في التدريس ويعتبران العمل الزراعي مضيعه للوقت وقتل الروح المتحضرة في ألأنسان”.

يتبع …..

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب