في صباح مشمس ,,,من ايام تموز اللاهبة ,,دخلت المكتبة الوطنية,,,الواقعة في شمال المدينة المقدسة ,,,وانا افكر في اقتناء كتاب “ما بعد الحياة”,,للكاتب “كولن ولسن “,,
كان أمين المكتبة ,,ابو عقيل ,,من طراز الفرسان القدماء ,,,الذين يعتقدون في انفسهم السطوة والمجد,,,حتى في ايام السلم ,,فضلا عن ايام الحرب ,,
وكان رجلا انيقا,,رغم بلوغه الخمسين من عمره,,الا انه يستخدم صبغ الشعر “الكوارلي”,,,لطلاء شعر رأسه,,,وشاربه الذي طالما يذكرني بشارب القائد “ستالين “,,الذي كان يحكم روسيا بالسوط والرصاص,,
وكان شيوعيا متزمتا ,,,يرتدي بدلة حمراء,,,ويضع وردة حمراء في جهة صدره اليمنى ,,,تيمنا باللون الاحمر ,,,,الذي يعد شعارا مقدسا للشيوعية ,,,,
ماان رآني ,,حتى رمقني بنظرة ترحيب دافئة ,,وهو يقول
-اي كتاب تريد اليوم
فاجبته على الفور
-“اللامنتمي ” لكولن ولسن
بدت الحيرة على محياه ,,
وهو يتمتم
-هذا الكتاب موجود بنسخته القديمة ,,,
ولكنك لن تجده في رفوف المكتبة ,,وانما تستطيع العثور عليه في السرداب ,,,الذي يضم الاف الكتب القديمة والصدئة ,,,,
اعطاني المفتاح ,,,معتذرا عن النزول معي الى السرداب ,,,لكثرة المراجعين في المكتبة ,,,
كان السرداب مظلم ,,,الاشيء قليل من النور ,,,يدخل عبر زجاج النوافذ العالية ,,,التي يسكنها حمام النوائح الرمادي اللون ,,,
وكانت هناك في الارض ,,تلال من الكتب القديمة ,,التي تعفنت من الرطوبة ,,,واستهلكت لتقادم الزمان عليها ,,,
كتب فلسفة,,,لنيتشة ,,ارسطو,,,الفارابي,,,ابن طفيل ,,,ابن رشد ,,ديكارت ,,سبينوزا,,,وغيرهم
وكتب مسرحيات ,,لشكسبير ,,وبرنادشو ,,,وغيرهما
وكتب قصص وروايات ,,,لتولستوي,,وتشيخوف ,,,وديسكوفسكي,,,وغيرهم
وكتب أخرى تعد بالالاف ,,,لم استطع تفحصها لضيق الوقت ,,,
وبعد اكثر من ساعة ,,,نجحت في العثور على كتابي المفضل “اللامنتمي “,,وهو يبدو بحالة جيدة نوعا ما رغم تقادم السنين ورغم غزارة الرطوبة التي تملأ ارجاء المكان ,,,
وخلال ثواني ,,,وجدت نفسي ,,,اقفل باب السرداب واتوجه نحو امين المكتبة ,,,”ابو عقيل “,,,الذي تفاجأ بعثوري على الكتاب في تلك الازدحامات الكتبية المظلمة ,,,
بادرني ,,بالسؤال
-استعارة داخلية,,,ام,,,خارجية
-خارجية ,,,بالتاكيد
-كم المدة
-شهر بالتحديد
سجلت اسمي في سجل الاستعارة الخارجية ,,,ورقم هاتفي ,,,ووقعت توقيعي المميز ,,,باللون الاحمر ,,ومضيت الى البيت ,,,وانا اردد اجمل عبارات الشكر والثناء الى امين المكتبة ,,,الذي اعرفه منذ ثمانينيات القرن الماضي ,,,ابو عقيل ,,,,الرجل الشيوعي الانيق,,,
ما ان وصلت البيت ,,,حتى دخلت غرفتي الخاصة ,,,لاقرء الكتاب ,,,وكانت فرحتى كبيرة جدا ,,لان جميع افراد عائلتي ,,كانوا في بيت جدتهم “ام علي”,,التي تشتهر بطبخ الرز والفاصوليا ,,,ملبين دعوتها ,,,الخاصة ,,,
استلقيت على السرير ,,,وبدأت اقرء الكتاب ,,,
مرة ,,مرتان,,
ثلاثة,,,اربعة
خمسة ,,,حتى قرأته لاكثر من عشرات مرات ,,,
وفي كل مرة استنتج شيئا جديدا في الكتاب ,,
الكتاب، يبحث في اهم مشكلة من مشاكل فلسفة قرن العشرين وهي مشكلة قيمة الوجود الانساني ، مشكلة الإنسان الحديث، فالكتاب هو عبارة عن دراسة تحليلية لأمراض البشر النفسية في القرن العشرين ، وقد أثار الكتاب، ولا يزال الى يومنا هذا يلفت انتباه الكثير من المفكرين و يثيرا اهتماماتهم لما تضمن الكتاب من دراسة للفلسفة الوجودية وتعاليم فلسفة الحياة، لذا جاء كتاب اللامنتمي محمل بنزعات لاعقلانية، معارضة للتفسيرات العقلية والعلمية للوجود الإنساني، ولكن هذا لا يعني أن هذه المذاهب هي المصدر الأساسي لأفكار المطروحة في الكتاب ، بكون كولن ولسن قارئٍ هضم بإمعان تاريخ الفلسفة والآداب والفنون ومجمل الحقول الإبداعية والمعرفية للإنسان، الأمر الذي يذهب بنا لأكثر من ذلك ، لاسيما أنه لا يذكر بوضوح المفكرين الذين تركوا بصماتهم في فلسفته، ولكن قراءة متمعنة في فلسفته يمكننا من خلال الإطار العام لآرائه، أن نحدد منابع تفكيره، لذا نقول إن كولن ولسون تاثر بافكار نيتشه و برغسون و إشبنغلر و توينبي ، و جورج فوكس وغورداييف وراما كريشنا والشاعر بليك و هوسرل و وايتهيد و بمدرسة علم النفس الحديث، فكولن ولسن بهذا الخلفية الفكرية استطاع أن يعالج، لأول مرة، موضوعا جديدا، هو موضوع نفسية(الإنسان اللامنتمي)، الإنسان الذي لا ينتمي إلى حزب أو عقيدة، الانسان الذي يمضي في طريقه المظلمة، مستسلما حينا .. ومتمردا حينا آخر، وقد ترك كولن ولسون انطباعا مؤثرا لدى كل من قراءه لتحليله الفلسفي العميق لمعنى الوجود الإنساني، الذي قاده إلى البحث عن العديد من الظواهر الأخرى ومنها أصول الدافع الجنسي الذي خصص له مجلدا كبيرا حمل العنوان نفسه وستمر بالكتابة دون اهتمام لهجوم النقاد ، و قد تنوعت موضوعات كتبه بين الفلسفة، و علم النفس، و الرواية، و هنا سنختار بعض من مؤلفاته وهي :
عصر الهزيمة ، قوة الحلم ، اصول الدافع الجنسي ، ما بعد اللامنتمي ، طقوس في الظلام ، ضياع في سوهو ، رجل بلا ظل ، القفص الزجاجي ، ما بعد الحياة ، طفيليات العقل، الدين و التمرد، الاستحواذ ، الانسان وقواه الخفية، البرج عالم العناكب ، الجنس والشباب الذكي، الحالم، الحاسة السادسة ،
عالم العناكب ج الاول و الدلتا عالم العناكب ج الثاني ، الشعر والصوفية، اله المتاهة، راسبوتين وسقوط القياصرة ، رواية الشك ، سقوط الحضارة ، ما بعد اللامنتمي فلسفة المستقبل، المعقول واللامعقول في الأدب الحديث، موسوعة الألغاز المستعصية ، فكرة الزمان عبر التاريخ ، يربو عدد مؤلفات كولن ولسن على المائة كتاب الى ان رحل يوم الخميس 5 ديسمبر 2013.
و نعود الى كتاب ( اللامنتمي ) الذي يعتبر من الكتب الرائعة في ( دراسة لاهم مؤلفات المبدعين في العالم) ، فان ابرز ما يثيره الكتاب هو الموضوع النفسي للإنسان اللامنتمي، أي ان الكتاب هو بحث في التحليل من ناحية سيكولوجية على الانسان اللامنتمي أكثر من كونه تحليلا أدبيا، و هذا لم يكن سهلا في ظل الإستفاضة التي يتسم بها طرح كولن ولسن ، ومن هنا نستطيع القول بإن كتابه ( اللامنتمي ) هو أعظم كتاب في التحليل صدر في أوروبا منذ كتاب الرائع (سقوط الغرب) لاشبنجلر. ففي مقدمة كتاب (اللامنتمي) يستعرض ناشر (الطبعة العاشرة ) تعريفا له فيقول: “.. أن مشكلة اللامنتمي هي في جوهرها مشكلة الحرية، و تحديدا الحرية بمعناها الروحي العميق، فهو ينشد الحرية و يتطلع إليها لكنه يتعثر في طريق الوصول إليها في عالم يساومه على كل شيء، ويطلب منه مقابلا على ما يعطيه إياه من سعادة مهما كانت ضئيلة. و يسبق ذلك تعريف اللامنتمي بوصفه غير مجنون، و إنما هو فقط أكثر حساسية من المتفائلين صحيحي العقول…” ، اذ ان اللامنتمي حسب اعتقاد كولن ولسن هو الإنسان الذي يدرك ماتنهض عليه الحياة الإنسانيه ، وهو الذي يشعر بان الاضطراب والفوضويه أكثر عمقا وتجذرا من النظام الذي يؤمن بهِ قومه – قوم الانسان اللامنتمي ، كائن من يكون – انه ليس مجنونا ؟ هو فقط أكثر حساسية من الاشخاص العاديين ، للامنتمي هو إنسان سَلبت منه قوة البشر أو قوة الطبيعة، قدرته على الشعور بشيء ما، وبالمقابل منحته قيمة الشعور بعدم قبول الواقع كما هو، مع ظهور شعور بالحاجة إلى تعويض، بهدف أن يجد طريقا إلى نفسه، أما اللامنتمي باعتبار الآخرين، فهو إنسان عليل ولكنه ليس بمجنون، هو إنسان أكثر حساسيةً من الأشخاص العاديين ، ” .. فالامنتمي هو من يرى العالم معقولا ولا يراه منظما ، وحين يواجه البرجوازيين بألفاظ بذيئة ويتصرف بشكل فوضوي معهم ، ليس لأنه يشعر بالرغبة في عدم الاحترام و لاثارتهم، و انما لأنه يحس بشعور يبعث على الكآبه ، شعور بأن الحقيقة يجب أن تقال مهما كلف الأمر ، و دون ذلك فلن يكون الاصلاح ممكنا .. بل وان هذه الحقيقة يجب أن تقال حتى وان لم يكن هنالك أمل ما ، و اللامنتمي هو انسان استيقظ على الفوضى ولم يجد سببا يدفعه إلى الاعتقاد بأن الفوضى غير ايجابية بالنسبة للحياة .. بأنها جرثومة الحياة….” ، ويمضي قائلا “…. إنه إنسان يسعى في طلب الانتماء والانخراط في العالم المحيط بصورة طبيعية، ولكنه يتراجع حينما يرى أنه قد لا يسمح له بأن يثبت ذاته في موضعٍ يمكنه من تأدية دورٍ خارج عن الرتابة، الدور الذي يرى أن لا أحد غيره يجيده، إنه شخصية قوية وذكية وحيوية في بعد ما، ومن الطبيعي أن تتحول حيويته، حين يعجز عن التعبير عن ذاته، إلى بحث عن مخارج بواسطة التطرف والشذوذ السلوكي….”
وبعد انقضاء شهر كامل من القراءة ,,,والبحث,,,والاستنتاجات ,,,ذهبت الى المكتبة الوطنية ,,,لاعادة الكتاب ,,,وقبل ان ادخل من الباب الرئيسي,,,وجدت لافتة سوداء مكتوب عليها “انتقل الى رحمة الله السيد امين المكتبة الوطنية “ابو عقيل”بسبب حادث مؤسف”,,,
وبعد سؤالي للموظفين ,,,موظفي المكتبة ,,,عن سبب الموت ,,, اكتشفت ان الرجل اليساري الانيق ,,,كان قد اقدم على الانتحار بمادة الزرنيخ ,,,لانه كان يشعر بالغربة والوحدة ,,,والاغتراب ,,,أي كان “لامنتميا “””
وقبل ان أذرف الدموع ,,,وامزق ملابسي ,,,حزنا ,,,وكمدا على ذلك الرجل الطيب ,,,سمعت امي تناديني
“مهود مهود كوم اكعد من النوم “,,,,
ياللخسارة,,,,,