قال عمر بن الخطاب” لا يقل مع الإصلاح شيء، ولا يبقى مع الفساد شيء”.
كما يُبلى المرء بالمرض، فأن الأمم تُبلى بالفساد، والفساد أنواع ودرجات لكن أخطرها هو الفساد الحكومي لأن هذا النوع يكون تأثيره أيجابيا على الطبقة الحاكمة فتزداد غنى ونفوذ وقوة، وسلبيا على الشعب لأنه يزداد فقرا وجوعا وجهلا ومرضا. ولا نغالي بالقول بـأنه منذ أن سَلمت دولة الإحتلال الأحزاب الإسلامية دفة الحكم في العراق، شهد البلد من الفساد ما لم يمرٌ به في حقب التأريخ القديم والمعاصر، وهذا بإعتراف الفاسدسن أنفسهم علاوة على المنظمات الدولية المعنية بالفساد.
إن ملفات فساد الأحزاب الإسلامية الحاكمة تكاد أن لا تُعد ولا تُحصى، وبالرغم من محاولة إطفاء الحكومة شيئا من غضب الجماهير التي أنتفضت ضد الفساد الحكومي، فأن هذه المحاولات لا ترقى أن تكون أكثر من قطرة في بحر. لأن الجهات التي تدعى محاربة الفساد والمتمثلة بهيئة النزاهة والقضاء كلاهما أفسد من الآخر، لذا فأن حيتان الفساد الكبيرة ما تزال تسبح في تيار الحكومة بكل قوتها ونشاطها، في حين الأسماك الصغيرة هي التي تقع في شباك القضاء المسيس. أما ما يعلن عن ملفات فساد بعض الوزراء فإن القضاء لا يتخذ ضدهم إجراءا إلا بعد أن يتأكد من خروجهم من العراق، وهناك المئات من الأدلة. لذا أحمق من يظن أن الحكومة جادة في محاربة الفساد، لأن الحكومة الفاسدة لا يمكن ان تحارب نفسها، ونفس الشيء ينطبق على البرلمان العراقي.
منذ أشهر رفع المتظاهرون شعارات وأطلقوا هتافات لإصلاح السلطة القضائية الفاسدة وإقصاء قاضي الفساد الأول في العراق مدحت المحمود، ولم يعلق رئيس الوزراء حيدر العيادي على هذا الموضوع بتاتا، ولم يوعد الجماهير المنتفضة بأي إصلاح يتعلق بالقضاء، بل صرح بأمر يثير السخرية والحيرة معا، وهو أنه ترك القضاء يصلح نفسه بنفسه! لا نفهم كيف يصلح الفاسد نفسه بنفسه وهو غارق في لج الفساد. لكن الأمر الذي يجب أن لا يغفل أحد عنه هو ان لا العبادي ولا أي مسؤول في الحكومة والبرلمان يمكنه ان يواجه قاضي القضاة، لسبب بسيط وهو أن الجميع لديهم ملفات فساد، ويمكن للمحمود أن يحرق ورقة اي مسؤول إن تجرأ عليه إعتبارا من رئيس الجمهورية والبرلمان والحكومة فنزولا للمدراء. نستذكر إنه عندما إشتدت الحملة على مدحت المحمود، وبعد أن فضحه النائب صباح الساعدي، وهرب إلى الولايات المتحدة، فإنه في حقيقة الأمر نقل معه المئات من ملفات الفساد، وعندما لمح بها من هناك، طيبوا خاطره وإعتذروا منه، وعاد قافلا للعراق وهو أكثر قوة من قبل.
بلاشك يتربع على عرش الفساد جودي المالكي رئيس الوزراء السابق، والرجل لا منافس له في عالم الفساد، وقد نقل وبائه المدمر إلى كل مؤسسات الدولة، ومازال يتمتع بنفوذ يحسده عليه رئيبس الوزراء الحالي حيدر العبادي، الذي يخشاه كما يخشى الفأر القط. وحديث التحدي الذي تنشره بعض وسائل الإعلام الحكومي وغير الحكومي للعبادي ليس أكثر من هواء في شبك، الرجلان توأمان و رضعا معا من ثدي حزب الدعوة، وحليب هذا الحزب فاسد، فلا غرابة أن يكونا فاسدين هما، وكل من رضع من هذا الثدي القذر .
ربما تفاجأ البعض من العرب وليس العراقيين مما عرض في برنامج الصندوق الأسود لصاحب الوجه الأسود جودي المالكي، الذي بثته قناة الجزيرة الفضائية، حددنا العرب فقط لأن العراقيين بما
فيهم الجهلة منهم يعرفون جيدا الدور القذر الذي لعبه محختار العصر الخائب لتخريب العراق وطنا وشعبا، وقد نجح نجاحا باهرا في مسعاه الإبليسي بمباركة الشيطانين الكاوبوي والمععم. وربما تبادر الى ذهن البعض كيف حصلت الجزيرة على الوثائق الخطيرة؟ وهل يعقل ان الولايات المتحدة الامريكية لا تعرف المعلومات التي عرضتها القناة بشأن فساد المالكي فسلمته مقاليد الحكم؟ ان كانت تعرف بسلوك المالكي المدمر، فلماذا سكتت عنه طوال ثماني سنوات من حكمه الفاسد؟ وان كانت لا تعرف كيف تبرر حمقها وجهلها بمعلومات يعرفها ابن الشارع. بالطبع وثائق ويكيليكس تُسقط الإحتمال الثاني، لأنها وثائق رسمية صادرة من جهات حكومية. لذا يبقى الإحتمال الأول، لماذا سكتت الولايات المتحدة عن المالكي ليس خلال حكمه، وانما حتى بعدها، عندما هاجم الولايات المتحدة ـ التي حولته من كاتب في مديرية تربية طويريج الى رئيس وزراء ـ متهما أياها بأنها سبب تخريب العراق ودماره.
لو إعتبرنا السكوت الأمريكي علامة الرضا على فساد المالكي، ونفسره سياسيا، نقول ان الولايات المتحدة لم تعلق على سلوكه الإجرامي والطائفي وفساده خلال حكمه، ولا تصريحاته اللاحقة، لأن خدماته لها تبرر هفواته وسقطاته. من المعروف ان الإعلام لا يعكس واقع العلاقات السياسية وهناك الآلاف من الشواهد. مما يستوجب التفكير فيما قدمه المالكي للولايات المتحدة، وتحديد المنتفع الرئيس من سلوك المالكي ـ بعد نظام الملالي الحاكم في إيران ـ عندما يخدم حاكم ما طرفين نقيضين، فهذا يعني إن النقيضين ليسوا بنقيضين بل هما على وفاق تام. وهذا ما يمكن أن نحكم به على المستفيدين من سياسة المالكي، اي الولايات المتحدة ونظام الملالي الحاكم في إيران، وإذا اعتبرنا ان الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وجهان لعملة واحدة ستتوضح الصورة بشكل أفضل، بمعنى أن المالكي خدم الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وإيران.
ورد في تقرير الجزيرة نقلا عن وثائق رسمية عراقية وامريكية عن ضلوع نائب رئيس الجمهورية المقال ورئيس الحكومة السابق نوري المالكي في عملية اغتيال المئات من العلماء النوويين والطيارين العراقيين، وأشارت التقارير إلى كيفية تزويد المالكي كلا من إسرائيل وإيران بمعلومات ساهمت في تصفية المئات من العلماء النوويين والطيارين العراقيين، وذكر التقرير بأن” 350 عالما نوويا عراقيا و80 من طياري من القوات الجوية العراقية تعرضوا لعمليات اغتيال بقيت لغزا شغل الشارع العراقي”.
الحقيقة أن عدد الضحايا أكثر من هذا الرقم سواء تعلق الأمر بالطيارين والعلماء أو أساتذة الجامعات وكبار القادة العسكريين علاوة على أشهر الأطباء والمهندسن العراقيين، أي بإقتضاب تصفية الكفاءات العراقية في شتى حقول المعرفة. سبق أن أشارت تقارير سابقة في السنوات الأولى من الغزو بأن عدد العلماء الذين تم تصفيتهم حوالي (500) عالم، ولم يتوقف مسلسل التصفيات بعد تأريخ إصدار هذه التقارير. وللإنصاف نقول إن التصفيات الإرهابية هذه بدأت منذ الشهور الأولى للغزو وقبل أن يتولى المالكي رئاسة الوزراء، وهذا لا يعني إنه كان بمعزل عن التصفيات لأنه من زعماء حزب الدعوة، وربيب نظام الملالي. وخلال حكمه الظلامي إنشغل بتصفية خصومه السياسيين ومعاركه الحامية ضد أهل السنة، وهذا ما يعرفه الجميع. وعندما تسلم العبادي رئاسة الوزراء كانت الساحة العراقية شبه خالية من الكفاءات في مختلف الميادين.
أما ما تحدث عنه التقرير من أن مسألة الإغتيالات بقيت لغزا يشغل الشارع العراقي! فلا صحة لهذا الأمر البته، العراقيون يعرفون جيدا أن التصفيات تمت من قبل الموساد الإسرائيلي وقوات بدر وهو في حقيقته الجناح العسكري للحرس الثوري الإيراني في العراق، وسبق ان تحدثنا عن هذا الموضوع في مقالنا بعنوان (الكلام السليم في كشف نوايا الحكيم) وغيره، عندما اشرنا لمعلومة خطيرة حصلنا عليها عام 2003 من مصدر قريب جدا من عبد العزيز الحكيم، عندما طلب من بريمر تصفية بعض الشخصيات القيادية في حزب البعث المدنية منها والعسكرية التي آذتهم خلال فترة ما يسمى
بالمعارضة، وقد أعطي بريمر الضوء الأخضر للحكيم على أن يتم العمل بالتنسيق مع أحدى الشخصيات الأمريكية (في الحقيقة ضابط كبير في الموساد) سماه بريمر للحكيم. وبعدها أتفق الجانبان علىبأن يتولى الموساد تصفية العلماء سيما في مجال التصنيع العسكري، والحقول العلمية ذات العلاقة بالتسليح، كعلوم الكيمياء والفيزياء النووية والبيولوجي. وأن يتولى فيلق بدر تصفية الطيارين العراقيين وكبار القادة العسكرين، علاوة على ضباط أجهزة الأمن والمخابرات العراقية، كما إتفق الطرفان على أن تجري عمليات الإغتيال بشكل هاديء لا يثير اللغط في الشارع العراقي، ولا أن تترك بصمات تكشف الفاعل، وعلى فترات ومناطق متباعدة للتمويه. وجرى الأمر حسب الإتفاق في بداية الأمر، لكن الله تعالى أراد ان يفضحهم، عندما قام بعض الإرهابيين من فيلق بدر بكتابة جملة (هذا مصير كل من قصف حزيرة خرج) على جثث الطيارين من ضحاياهم، فأنكشف المستور.
لقد أماط عناصر بدر اللثام عن وجوههم العميلة، وظهرت الحقيقة، ولم يعد الأمر لغزا، كما أشار تقرير الجزيرة. علاوة على هذا فقد ذكر بعض الطيارين ـ الذي نجوا من عملية الإغتيال ولجأوا الى الدول العربية المجاورة وأوربا ـ إلى الجهة التي كانت تقف وراء عمليات إغتيالهم. فلا سر ولا لغز في هذه المسألة. ويمكن الرجوع إلى مقالينا المنشورين عام 2009 بعنوان (غياب الصقور وحضور الغربان) حول عمليات إغتيال وأسماء الطيارين من ضحايا الغدر والخيانة.
ولابد من التنويه بأن أول من إستولى على وثائق جهاز المخابرات والتصنيع العسكري والأمن العامة هو أحمد الجلبي وميلشيته، وبعد ضغوط من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية ونظام الملالي في إيران، تقاسمه مع المجلس الأعلى الذي أرسل لإيران الأرشيف المخابراتي والأمني المتعلق بها، علما ان الجلبي إحتفظ بكافة الوثائق (تخص المعارضة العراقية في الخارج) التي تفضح تعاون الكثير من ما يسمى بعناصر المعارضة مع المخابرات العراقية، وذلك لغرض إبتزازهم. لذا يخشى جميع الزعماء الحاليين أحمد الجلبي لهذا السبب. ويمكن القول بأن لأحمد الجلبي دور أسبق من المالكي في تزويد الإيرانيين والصهاينة بأسماء وعناوين الرموز العراقية العلمية منها والعسكرية. هذا لا يعني تبرئة ساحة المالكي مطلقا، صحيح أن وجه المالكي أشد سوادا من وجه الغراب، لكن الجريمة في هذا الجانب لا يتحملها هو فقط أو حزبه العميل، وإنما هناك شركاء لا يقلوا إرهابا وفسادا وعمالة عنه، وهم يتحملون المسؤولية أيضا، ولا يجوز غض النظر عن دورهم القذر في تصفية الكفاءات الوطنية العراقية.
لنا عودة أخرى.. بعون الله.