بين ماض معلوم ومستقبل مجهول، نحيا حاضرا تغرقنا الشكوك في لج بحره تارة، وتارة أخرى ترسو بنا مراكبنا في مرافئ اليقين، وبين الشك واليقين نطوي أجندات أعوامنا، وكأننا موظفو حسابات بنكية، مكلفون بعدّ نقود وحساب أموال، نسلمها في نهاية المطاف دون انتظار شكر أو ثواب، بل ينتظرنا في حال أخطأنا في الحساب حساب وعقاب. وبذا نكون مطمئنين لأحداث الماضي المعلوم وإن كانت سيئة، ذلك أن سوءها قد تم احتواؤه، بعد أن عُرف مداه، أما المستقبل فالتوجس منه يبقى قائما مادامت احداثه في علم الغيب وإن كانت إيجابية. لذا نحن نرنو الى الماضي بسكينة رغم ما فيه من سلبيات، في الوقت الذي نرتاب من المستقبل والتفكر بحيثياته، كون أحداثه لاتخرج عن إطار التوقع والحدس، كما يشوبها عنصر المفاجأة لحظة التفكير بها. وقد أنشد أحدهم:
وددت لو يستعيد الدهر دورته
ولو لحظة من زمان الأمس تُسترق
وبلهجتنا العراقية حين نسرد حديثا من ماض يستهوينا تصفح ذكرياتنا فيه نقول: (من چنّه وچنينه) وكم وددنا العودة الى ماكنا عليه، فيأخذنا شوقنا الى حيث أيام شطبت من صفحات التأريخ، إلا أن عبقها مازال عالقا -بل هو راسخ- في ذاكرتنا، فيأخذنا بساط ريح الحنين لنردد مع المرددين:
راحن وانگضن أيامنا الحلوه
وساعات المعاتب للگلب سلوه
مع أننا متيقنون من صدق مقولة تنسف أسس أمل العودة، وتحيل أحبابا ومنازل كنا نستظل بظلها، الى ركام “بين الدخول فحومل” لاينفع إلا للحنين والبكاء والعويل، تلك المقولة هي: “ثلاث لايمكن استعادتها: رصاصة أطلقتها، وكلمة قلتها، وأياما عشتها”. ولم تلوِنا يوما هذي المقولة عن التمسك بذكرياتنا، والتشبث بتلابيب الماضي كعروة أوثق من أن تنال منها شياطين الزهايمر، أو تبتلعها آفات النسيان، وكيف ننسى مداد يومنا ومدد حاضرنا ومتنفس ضيقنا؟ أوليس لنا في قول نابغتنا الجعدي ذريعة للتذكر حين قال:
تذكرت والذكرى تهيج لذي الهوى
ومن حاجة المحزون أن يتذكرا
أسوق مقدمتي هذي وجراحاتي على بلدي تتقيح ألما وتتفجر حسرة وتنزف مرارة، إذ اجتمع لدي في آن واحد وآنية واحدة ثلاثة أضداد، ليس لي بد من مواجهتها معا، فالضد الأول هو استذكاري ماضي العراق، وعهدي بماضيه سبعينياته، وشيء من ثمانينياته، وسرد الحال إبان ذينك العقدين، لايسعه منبر لمن أراد الخطاب، ولن تكفي الصفحات والأوراق في وصفه لمن شاء التدوين، كما أن بحور الشعر الستة عشر، لن تفي بعَروضها وجناسها وطباقها، معشار واقع الحال المعاش آنذاك، مقارنة بما بين ظهرانينا من حال.
أما الضد الثاني، فهو مستقبل العراق، حيث الضبابية -بل السوداوية- تخيم على سمائه، فلا بصيص نور يلوح في الأفق، ولا بارقة أمل تبرق في عليائه، ولا رائحة انفراج تبعث في النفوس الطمأنينة، وتصبرها على التحمل والتجمل، وتزين محطة الانتظار ببهرج النيل وطيب النوال وحسن المنال.
أما الضد الثالث، فتكمن فيه الطامة الكبرى، لاسيما إذا علمنا أن الطامات في عراقنا كلها كبيرة، إذ لاوجود لطامة صغرى أو وسطى، ذاك الضد هو حاضر العراق، وبدوره يحوي الكثير الكثير من الأضداد، جلها من صنع أولي أمره ممن تسيدوا المشهد العراقي في ساحته السياسية. فلقد اعتلى مناصبها -العليا والدنيا على حد سواء- شخوص يخالون السياسة كرسيا ومكتبا فخما وسيارات فارهة، ويظنونها جاها ونفوذا ومرؤوسين، ومقابلات تلفزيونية ورواتب خيالية -بل خبالية- وسفريات ورحلات سندبادية. وزاد بعضهم على مفهوم السياسة مفهوما، غدا من معانيها الرئيسة والمعمول بها، ذاك هو العمالة، فكان بها بيع وشراء وتنازل وهبات وعطايا لغرباء ودخلاء كثر، وأظن القائمين على هذه الممارسات رفعوا شعار: (اعطوه.. من مال الخلفوه) فتصرفوا بغير وجه حق بثروات البلاد وخيراتها، فأضاعوا بأفعالهم وممارساتهم هذه إرث العراقيين من ماضيهم، وفي الآن ذاته جردوا الأجيال القادمة من حقوق كانت ستنفعهم في مستقبل الأيام.
تبعا لهذا كله سأشبه أولي أمر العراق الحاليين -سواء أسياسيين كانوا أم صناع القرار أم أصحاب الحل والعقد!- بحلقة وصل ضائعة بين ماضي العراق ومستقبله، ضيعت الإثنين معا، فضلا عن تسببها بضياع الحاضر.