بشرتنا حكومة السيد نوري المالكي بضم عصائب الحق (الشيعية) إلى العملية السياسية، مثلما ضمت، قبلها، عصائبَ أخرى (سنية) من جيوش (المجاهدين)، واعتبرته إنجازا تاريخيا على طريق المصالحة الوطنية المباركة. فقد أعلن وزير المصالحة الوطنية عامر الخزاعي ” أن جماعة (عصائب أهل الحق) لم تسلم سلاحها حتى الآن، لكنها مستعدة لفعل ذلك”. ورحب الخزاعي في حديث أدلى به لوكالة أسوشيتد برس برغبة الجماعة في لعب دور بنّاء في العملية السياسية، مشيرا الى أنها تخطط لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة، تحت اسم جديد.
على فكرة. كلمة (عصائب) أو عصابات، تعني، لغويا، جماعة من الناس أو الخيل أو الطير، أو ما يُعصب به الرأس ويُضم ويشد من منديل أو نحوه. وُتشتق منها أيضا لفظة (تعصب)، و(عُصاب).
والحقيقة أن أحدا منا لم يكن يعلم، قبل اليوم، بأن الحكومة العراقية، مثلَ سجونها، أصبحت مدرسة تهذيب وإصلاح. فهي تتسلم الأشقياء، بعد أن يرتكبوا آلاف الجرائم الـ (مخلة بالشرف)، ليتخرجوا، على يديها الساحرتين، سياسيين مرموقين، وقادة محترمين، ومشاركين فاعلين في العملية الديمقراطية الجديدة في العراق.
لا اعتراض على اجتهاد السيد المالكي واعتقاده بإمكان خروج الحي من الميت، والعسل من الملح، والحمل الوديع من صلب ذئب ولد على رائحة الدم، ولا يعيش إلا عليها. ولكن علينا أن نسأل عن حكم القانون فيمن خرج على القانون، فتمرس في الخطف والاغتيال بالكواتم والمتفجرات والمفخخات، وتهريب الأسلحة والأموال، وقتل الآمنين، شيعة وسنة، في مساجدهم وحسينياتهم وكنائسهم، وأسواقهم الشعبية ومدارس أطفالهم، عقابا لهم على ولادتهم شيعة أو سنة أو مسيحيين؟.
فأيُ حق خاص أو عام، يخول رئيسَ وزارة مُستأجرا من قبل ناخبيه لمهمة محددة واحدة هي تطبيق القانون، على الكبير قبل صغير، أيا كانت المبررات أو الظروف؟ وكيف يستطيع حاكم يحترم نفسه وشعبه أن يحمي أمن مواطنيه وهو يضم إلى جيشه وشرطته وقوات أمنه وأفراد مخابراته مجرمين اعتادوا على الجريمة، حتى وإن كانت مغلفة، زورا وبهتانا، بالمقاومة، وكان الأحرى به أن يحيلهم، فور وقوعهم في قبضة حكومته الرشيدة، إلى القضاء المستقل، ليُصدر بحقهم، وبحق ما ارتكبوه من جرائم، حكمه العادل الشجاع؟.
وأن كانت ألاعيب الحكم والسياسة تبيح المناورات وتبديل التحالفات، من حين إلى حين، فهل تجيز أيضا أن يستعين الحاكم على خصومه السياسيين بقطاع طرق حملوا السلاح المُهرب والمسروق، وداهموا منازل آمنة، واختطفوا مواطنين أبرياء، وسطوا على بنوك ومصارف، وأحرقوا مساجد وحسينيات وكنائس، ونسفوا أسواقا شعبية ومدارس؟.
وإن كان ذلك القتل وتفجير المفخخات قد تم باسم مقاومة المحتل، فهل يغيب عن الحاكم (الفالح) وأجهزة أمنه ومخابراته ودفاعه أن نسبة ضحاياهم من المحتلين كانت عُشر ضحاياهم من العراقيين الآمنين، أو أقل؟
ليس هذا وحسب، بل إن حكومتنا الرشيدة تسمح لهؤلاء بأن يَخرجوا على الملأ، فيتحدثوا للصحافة عن بطولاتهم السابقة، ويفاخروا بإنجازاتهم النادرة، على مسمع رئيس الوزراء وقضائه الأعلى، دون خوف ولا حياء.
وإليكم آخر ما أدلى به زعيم العصائب قيس الخزاعي لوكالة رويتر وصحيفة الحياة عن حكاية المختطَف البريطاني (ألان ماكمينمي) مع مبرمج الكمبيوتر (بيتر مور) وثلاثة حراس آخرين، كانت العصائب قد اختطفتهم عام 2007، ثم أفرجت عن (مور) عام 2009، وأعيدت جثث الحراس الثلاثة الآخرين، مقابل اطلاق سراح قائد الجماعة قيس الخزعلي الذي كان محتجزا في أحد معسكرات الأمريكان. يقول الخزعلي:
” إن الحارس البريطاني المخطتف (ماكمينمي) ُقتل في اشتباك مع خاطفيه، وإن الجماعة (المجاهدين) مستعدة لاعادة جثمانه بدون شروط”.
وعن الحراس الأربعة قال” إنهم قتلوا عندما حاولوا الفرار من خاطفيهم” . وسرد الحكاية التالية “بعد أن خرجتُ من السجن قال الإخوان (المجاهدون) إنه كانت هناك محاولة هرب من قبل هؤلاء الأربعة، وهم ضباط في الجيش البريطاني في البصرة، وساهموا في احتلال العراق، واستطاعوا في غفلة أن يستولوا على سلاح أحد حراسهم، ويجرحوا شخصا آخر من أفراد الحماية المسؤولين عنهم، وحدثت مواجهات أدت الى هذه النتيجة. نحن بصراحة نأسف لهذا الحادث.”
واضاف يقول “بيتر مور كان في مكان آخر معزول. كانوا (المجاهدون) يعرفون أهميته، وكانوا يضعون في الحسبان أن تقع مداهمة أو ما شابه. وكان بيتر مور شخصا مدنيا ولا يقوم بهكذا مخاطرات”.
أيها القاريء الكريم، ألا ُتشبه هذه الحبكة المثيرة إحدى قصص أفلام المقاولات المصرية الفاشلة؟. َيقتل الخاطفون القتيل، ثم يسيرون في جنازته، ويخرج زعيمهم ليعلن أنه غافل أحد حراسه وسرق منه سلاحه وحاول الهرب فتصدى له المقاتلون، وحدثت مواجهة بالرصاص الحي، فقتل، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وإنا لله وإنا راجعون.
ولكن في الفيلم المصري ممثلون يقتلون ممثلين، أما في حالة زعيم العصائب فقتلة ٌ حقيقيون يقتلون مخطوفين حقيقيين، ولا تسكت الحكومة، فقط، عن هذه المهزلة، بل تكافيء القاتل (المغوار)، وتفرش له سجادها الأحمر على مدخل عرين السيد رئيس الوزراء.
إن الكذب والتلفيق واضحان في حديث (المجاهد) الخزعلي، وفيه غدر وعدم أمانة، كذلك. فأسرُهم كان لمقايضتهم بإطلاق سراح الزعيم، قائد العصائب نفسه، وليس من أجل وطن ولا مقاومة. ثم إنهم كانوا أسرى حرب، وكان ينبغي تطبيق حكم الشريعة والشهامة والفروسية بحقهم، وعدم قتلهم غيلة.
إن هذا الحديث وحده، لو تم في دولة أخرى تحترم نفسها وشعبها، في مجاهل أفريقيا أو جزر الواق واق، لاعتبره قضاؤها دليل إدانة ضد هذا (المجاهد) الذي ثبت أنه ليس مجاهدا ولا هم يحزنون.
والشيء بالشيء يذكر. فعصائب الحق هذه، منذ ولادتها، كانت اليد اليمنى للسيد مقتدى، في جميع نضالاته السابقة، من اغتيال السيد الخوئي عام 2003، وإلى أحداث البصرة وبغداد والنجف وغيرها، ثم انشقت عليه لسبب مجهول. لكن السيد، أخيرا، كشف المستور، معلنا أنها تابعة لـ (الإخوان) في إيران.
وهؤلاء (الإخوان)، أنفسُهم، وحلفاؤهم في العراق، لمن لا يعرف، هم الذين أنعموا على تيار السيد مقتدى بمقاعد البرلمان الأربعين، وبعدد من الوزارات والسفارات والمؤسسات الربحية المُجزية، وهم الذين يخططون، اليوم، لتقزيمه، وطرده من وزاراته ومقاعده البرلمانية، وإحلال العصائب مكانه.
وذلك لأنه، بعد أن ذاق حلاوة الكراسي ولذة الحكم والسلطان والبرلمان فقدَ شهيته السابقة للخطف والاغتيال والتهجير وتكسير محلات الموسيقى والغناء والملابس الاستكبارية والشراب، فاعتزل الكفاح المسلح، وصار ينادي بالوسطية والاعتدال.
ليس هذا وحسب، بل أصبح يعارض سياسة (الإخوان) في العراق، ويرفض سياسات حليفه رئيس الوزراء، ويتهمه بالدكتاتورية، وبشهوة الانفراد بالسلطة، ويدعو إلى إعادة الانتخاب لإسقاطه، ويعترض على طرد الهاشمي والمطلق، ويصبح واحدا من أعمدة الحكمة السبعة، في حكومة الموائد المستديرة العتيدة، يخاف على صلات الرحم مع (أشقائه) في الدول العربية المجاورة .
وأكثر من هذا. فإن قيس الخزعلي يتوقع أن تنشب معارك بين عصائبه وبين جيش المهدي وتيار زعيمه وأبيه الروحي السابق، فيقول إنه لا يستبعد (صراعاً شيعياً- شيعياً). موضحاً أن ” هناك مخططات لإثارة صراع شيعي- شيعي بدأت مقدماته (بالظهور)، حيث يتم التخطيط لهذا الموضوع من جهتين: الأولى أميركا والثانية دول إقليمية”.
وهذا معناه أن رأس مقتدى قد يُحمل إلى طهران على أسنة رماح واحد من مريديه ومجاهديه السابقين. ويعني أيضا أن أهلنا في العراق الحزين على موعد قريب أو بعيد مع حروب جديدة لا تقل عن سابقاتها في خراب البيوت، تشعلها عصائب جديدة على عصائب قديمة، والعياذ بالله.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: أية وزارة أو سفارة أو مؤسسة تليق بالمجاهد الخزعلي وعصائبه العائدة من معارك (الجهاد) الأصغر في أوكارها السرية السابقة، هربا من وجه العدالة، إلى ساحات الجهاد الأكبر في عقر دار الشرطة والأمن والمخابرات والجيش، ليصبح، هو ومجاهدوه، قتلة مرخصين بملابس حكومية زاهية، وبأسلحة عسكرية مجازة؟. أما الجواب فهو ما يلي:
لأن السيد رئيس الوزراء معروفٌ بحرصه الشديد على وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، مثلما فعل من قبل حين استوزر للسياحة والآثار (معالي الوزير) محمد عباس العريبي الذي أطلق على بشار الأسد، أكثر من مرة، لقب (ضخامة) الرئيس، ويقصد (فخامة) الرئيس، فالمتوقع أن يستحدث المالكي وزارة جديدة تليق بزعيم العصائب، وتناسب وخبراته ومؤهلاته السابقة، ويسميها (وزارة الخطف والمفخخات والكواتم الوطنية).
ترى هل لدى أحد من قرائنا الكرام رأيٌ آخر في ديمقراطية السيد المالكي وصدق خطاباته المجلجلة عن سلطة القانون في دولة القانون؟ وهل لديه شك في أن السيد المالكي لا يتورع عن استخدام أي مقاتل، في حروبه الشخصية مع الخصوم والطامعين، حتى لو كان محملا بأنهار من دماء العراقيين؟.