الدرس الافتتاحي للفلسفة في عيدها العالمي
” أن تكون فيلسوفا لا يعني أن تعلم الكثير من الأشياء بل أن تكون دقيقا في كل شيء”
سقراط
لم يتفق الفلاسفة على الكثير من الأمور بما في ذلك تعريف النشاط الذي يقومون به، فالجميع يمنح لنفسه تصورا مخصوصا وطريقة في البحث ينفرد بها عن غيره ويضع لمنطلقاتها نتائج يزعم اكتشافها بنفسه.
غير أن هذا الاختلاف والتباين بين الفلاسفة حول طبيعة مجهودهم ونوعية الشغل الفكري الذي يقومون به لا يلغي وحدة الهدف والمصير والرغبة المشتركة في تدبير المدينة واستهداف حياة جيدة خالية من الشقاء.
لا تقتصر الفلسفة على النظر في العالم وإبراز الحضور الإنساني وتصور مجتمع أفضل وإنما هي فعالية إبداعية فيه ونشاط خلاق وقدرة تحررية وأيضا درب نحو تحقيق السعادة وتمكين الناس من الخير العام.
إن التباس المصطلح التقليدي للحكمة مرده الإشارة إلى معرفة الحقيقة وممارسة الفضيلة الأخلاقية في ذات الوقت وترتب عنه تشكل تأويلين للفلسفة: التأويل الأول يتصور الفلسفة بأنها معرفة عقلانية وبحث متواصل عن المعقولية ويمثله علماء الطبيعة الإغريق في القديم وهيجل والتيار الوضعي والتوجه اللغوي الأنجلوساكسوني، أما التأويل الثاني الذي كان سقراط قد دشنه وواصله كانط والوجودية فإنه يعتبر الفلسفة مسلكية إيتيقية عن المصير الحقيقي من خلال نقد المعرفة وتعلم الفضيلة والالتزام بها في الحياة اليومية.
إذا كان صحيحا وجود فلاسفة عرفتهم البشرية ومفكرين أحرار دون أن يتمكنوا من بناء فلسفات ومذاهب ولم يكتبوا مؤلفات ويدونوا نصوصا ويوثقوا أفكارهم ولم يحفظوا أقوالهم في كتب على غرار سقراط فإن الفلسفة الأولى تبلورت حول تاريخ حافل من الشخصيات المفهومية والتطور المعرفي والتجارب العقلية.
لم تصبح الفلسفة مهنة ولم يتحول الفيلسوف إلى مدرس إلا ضمن نظام الأجرة في الحضارة الرأسمالية ولما تم إدراج محبة الحكمة ضمن البرامج الرسمية للتعليم في مختلف المستويات إلى جانب بقية المواد.
غير أن هذا التوظيف الاجتماعي والإدماج التربوي أفقد الفلسفة دلالتها الأصلية ورونقها الفكري وهالتها الجمالية وحولها من امتحان دقيق لقدرات الإنسان على البحث العقلي الى تلقين مدرسي لعدد من التعاليم.
لماذا يجد الإنسان نفسه في حاجة ماسة إلى دراسة الفلسفة ومطالعة كتب الفلاسفة؟ وفي أي سن تزداد هذه الرغبة ؟ وما الغرض من ذلك؟ هل يوجد هدف محدد أم الأمر يتعلق بالفضول وحب الاطلاع والمعرفة؟ ماذا عن الفلسفة ؟ وماهي العبارة التي تتناسب أكثر مع التصور الفلسفي الذي يخص الإنسان المعاصر؟ وكيف يمكن للفلسفة أن تدرب على حب الحياة؟ ومتى يوجد فيلسوف يكون قريبا من هذا التصور؟ ومن هو الفيلسوف الأبعد؟ وأي دور حقيقي يؤديه الفلاسفة؟ وماهي الفكرة الموروثة الأكثر إنارة في الفلسفة؟ وما طبيعة التفسير الذي تقدمه الفلسفة النقدية للواقع المعاصر؟ ومتى ينال الفيلسوف حق المواطنة عندنا؟
في البداية تقوم الفلسفة في معناها الواسع بوضع مجموعة من الأفكار والمبادئ في نسق واحد والحرص على بناء نظرية محورية للعالم وتشييد علم عقلاني بالطبيعة وتفسير متساوق للواقع وإيجاد رؤية شاملة في الإنسان. إلا أن الدرس الافتتاحي في الفلسفة التطبيقية يقوم بالتحريض على الدخول الطوعي إلى مختبر الفلسفة النظري بالانخراط الملتزم في الممارسات الجديدة للتفكير الفلسفي لتأهيل إلى طلب الحكمة للذين ليسوا بفلاسفة. لا تقتصر الفلسفة على التفكير العميق في التجارب الفعلية للوعي الإنساني ولا تنحصر في النظر إلى ظواهر الطبيعة وأحداث التاريخ وأحوال المجتمع وأنظمة السياسة وشيم الأخلاق وإنما تنتج المعنى من كل هذه التجارب وترسم الدروب المضيئة بغية تخليص البشرية من الجهل والبؤس والتفاوت والظلم والألم واللاإنسانية وغرس قيم العدالة الاجتماعية والمساواة التامة بين الفئات والجهات.
إذا كانت حضارة إقرأ قد عرفت ميلاد العديد من الفلاسفة وتشكل جملة من المذاهب الفكرية والاتجاهات التنويرية والكثير من الأنساق المعرفية والنظريات العلمية فإن بروز فيلسوف واحد في الأزمنة المعاصرة يقتضي الكثير من الجهود ويتطلب التغلب على العراقيل ومواجهة المشككين والرد على القوى المعارضة.
ليس الفيلسوف بالضرورة هو من يشيد عمارة شاهقة من الإشكاليات والمقولات والتعليقات ومن يصوغ التصورات في مرجعيات وأنساق وعقائد ومن أَلَّف الكتب والموسوعات وإنما يكون متفلسفا في الممكن ويتحرك ضمن التاريخي ويلوح بالنسبي وينهمك في النقد الذاتي والمراجعات القاسية بصورة مستمرة.
لذلك يمكن للفيلسوف أن يحاول اختراع الأفكار وتشريع القيم ووضع القوانين والإشارة إلى المناهج وأن يشارك في التغيير الاجتماعي عن طريق الانتماء العضوي والانحياز للقوى الثورية ويساهم في التقدم. ألا تظل الفلسفة في وضع طوارئ معرفية واستنفار وجودي طالما بقي الإنسان في حال مطاردة لإنسيته؟