في واحدة من مهازل الزمان ان يَحكُم العراق عِدّة أصناف من الميليشيات والجماعات الاسلاميّة والحركات المُسلّحة، حتى أصبحت الدولة قائمة على الفوضوية يحكمها مجموعة من الوصوليين والفاسدين، الأمر الذي كلّف العراق وشعبه أفدح الخسائر، وتأثّرت بُنيَتهُ الأجتماعية والأقتصادية والثقافيّة وتراجعت الى قرونٍ خَلتْ، من سفك دماء بريئة الى النهب والسلب، الى طائفية وقتل وتهجير ومذهبية، وحتى إنتهاك الأعراض وقتل النفس المُحترمة التي حرم الله، وارتكبت هذه المليشيات بحق الوطن والشعب والدين والتأريخ والأنسانيّة بغض النظر عن مسمّياتها وإنتماءاتها ما تقشَعرُّ له الابدان من ألوان الجرائم وأشكالها، وأدارَت البلاد كيفما شاءت وكيفما أرادت، وأحتكمت للسلاح وتصرفت بمنطق المافيا، والتي فرضت سيطرتها بالتخويف والقمع، ولبعضها صولات وجولات في ميادين الجريمة المنظمة من قبيل تهريب النفط والسلاح وتقاضي الرشاوى وفرض الأتاوات والى حدِ الآن . هذا ما يحدث عندما تفتقر الدولة للمركزيّة والقرار الحازم . صمَتت الحكومة فترة من الزمان عن هذه الميليشيات وجرائمها وغظّت الطرف وهي ترى بأم عَينها تنامي هذه الجماعات وتوالد خلاياها حتى أنتشرت في مدن العراق تحت عدة مُسمّيات وعدّة رايات وشعارات حتى أستفحل أمرها وبات يصعب معالجتها، فقررت الحكومة في خطوة تُعَد سابقة خطيرة وتجربة فاشلة مع واحدة من هذه الظواهر، في أحتواء بعض هذه الميليشيات بِضمّها الى المؤسسة الامنية والعسكرية للدولة، بُعَيْد معركة صولة الفرسان، بالأضافة الى ما يُعرف (بالدمج )، وهو قرار أثبتت التجربة فشله، فهذه المليشيات ليس لها ولاء معيّن ولا تضع نصب اعينها الا المصلحة والمنفعة الخاصة والأنتماء ومصالح المنتمين اليها، وتتصرف بمنطق العصابة . وأنضم أليها الآلاف من الهمج والرعاء والمجرمين والبعثيين وأرباب السوابق، ومن المغشوشين والمُغرر بهم بذرائع وشعارات الدينيّة والوطنية، وليس على أساس المباديء الوطنيّة والأنسانيّة والعقيديّة الصحيحة، حتى بلغ من سطوتها أنها باتت تتحكم في السياسة والقرار الوطني، وتوجه الحكومة في مراحل سياسيّة معيّنة الى إتخاذ مواقف تريدها وتخدم مصلحتها هي، ومن يعارض جزاؤه الاختطاف والقتل والتعذيب او التهديد. ولم يسلم من ذلك حتى الأعلامي والصحفي أو أي أنسان آخر تجرء ان يذكر بعض تصرفاتها الذميمة .
في هذه الأيام تتناقل وسائل الاعلام العراقية عن قرب انطلاق عملية عسكريّة واسعة ضد الجماعات المسلحة في عموم محافظات العراق وديالى، جاء هذا على خلفيّة تطهير صخراء الأنبار من جماعة داعش المُسلّحة،وحسبما افاد قائد عمليات دجلة عبد الامير الزيدي، عن (انباء العراق) . وقال ان القوات الامنية لديها من القدرات والامكانات ما يمكنها من دحر “ داعش” وكل التنظيمات المسلحة المحظورة .
في هذه الاثناء تتجدد تساؤلات قديمة طالما تسائلها العراقيين عن موقف الحكومة من الميليشيات والجماعات والتنظيمات العراقية المسلحة الشيعية والسنية، الأسلامية والعلمانية، العربية والكردية، فضلاً عن التكتلات والتشكيلات والأحزاب الدينية الاخرة والتي قسم منها تدعمها مرجعيات واحزاب سياسية؟ .
يحاكي هذا القائد العسكري ذلك السؤال القديم ويجانب حقيقته عن قرب انطلاق عملية عسكرية واسعة ضد الجماعات المسلحة في عموم محافظات العراق ..
فهل ستطال هذه الحملة كل الاحزاب والميليشيات والتيارات والجماعات المسلحة السنية والشيعية في العراق؟ ام انها تشمل التيارات والجماعات المسلحة السنية فقط ؟ ام ان هذه الحملة العسكرية تشمل حتى الميليشيات والتيارات والجماعات المسلحة الشيعية؟ .
ومامعنى قوله: انطلاق عملية واسعة ضد الجماعات المسلحة في عموم محافظات العراق؟
يضم العراق حاليا اكثر من 60 ستون تشكيل مُسلّح بين حركة وحزب وتيار وتنظيم وميليشيا وتكتل مُسلّح حسب الإحصائيّات .. فهل ياترى جميع هذه الجماعات المسلّحة مشمولة بهذه الحملة العسكرية .. ام أنها فقط محصورة بجهة او جماعة معيّنة ..؟
وهل الخيار العسكري هو الوحيد أمام الحكومة والدولة .. أم أن هناك خيارات أخرى افضل ممكن ان تُجنّب البلاد دماء ومآسي وويلات أخرى الشعب العراقي في غنى عنها ..؟
اسئلة بديهيّة من إفرازات هذا الخظم تحتاج الى أجوبة مُقنِعَة ….
في رأينا اوّل هذه الخيارات من اجل بناء الهيكلية وأعادة النظام وأستتباب الأمن وسيادة القانون على الجميع، ودون مميزات او تفضيل لجهة مهما كانت مرجعيّتها دون أخرى، أو لفرد من أفراد المجتمع أياً كان دوره ومنصبه دون آخر غيره، ومن اجل صيانة العراق والحفاض على وحدة شعبه، على الحكومة في خطوة حازمة وصارمة ان تَحُل وتُجرّد من السلاح جميع الميليشيات والحركات والتيارات المُسلّحة، والأحزاب والتكتلات والتشكيلات الأسلامية والغير اسلامية المُسلّحة، مهما كان شعارها وهدفها وأنتمائها ومرجعها، بعد هذا ممكن أن تُعيد الدولة الهيبَة والمركزيّة وسيادة القانون وتحقيقه، وتُعيد للشعب حريّته وأحترامه وأمنَه وسلامه . وعلى الحكومة العراقية أن كان فعلاً يهمُها أمر العراق وشعب العراق، والجهات العراقية الأخرى، النخب الوطنيّة والمُثقفة الشريفة من كتّاب وباحثين وأكاديميين وسياسيين واجتماعيين وأقتصاديين .. الخ، النخب المثقّفة والواعية : تظافر الجهود وتسخير كل الطاقات والقنوات الاعلامية والمحافل الاجتماعية والثقافية والمؤسسات المدنية الرسميّة وغيرها، التعبئة والتحشيد الى توعية وتثقيف هذه الجماعات وباقي فئات الشعب وفق أُطُر وبرامج ديمقراطية واجتماعية مدنية وبث الروح الوطنية والتحظر المجتمعي، بما يعزز حالة الصحو والأنفتاح والوعي الثقافي والوطني والديني، ونبذ الفرقة والأحتراب، وعلى الحكومة ان تبذل جهود اكبر ومنافذ أوسع بفتح آفاق تعاونية جديدة مع هذه الجماعات ومع باقي كل مكونات الشعب العراقي، والمحاولة من جديد بغرس الثقة وروح التفاهم بين الحكومة والشعب والتعويض عنه، من خلال ماتقدّم له من خدمات وخيارات جيدة تتماشى مع حالة التغيير الحاصلة في البلاد على مستوى الحاضر والمستقبل .