18 ديسمبر، 2024 4:06 م

الحكم بين التفويض والبيعة

الحكم بين التفويض والبيعة

لقد كانت البرجوازية الوطنية، بعد التحرر الصوري الذي غطى على الارتهان الدائم للمستعمر، حلم الجماهير في تحقيق الدولة العادلة، لكنها ما ان تسلمت السلطة حتى كدست الأموال في خزائن الأغنياء، وزادت من عوز الفقراء وبؤسهم، فاصبح التخلص منها هو الحلم الذي يلون ليالي الفقراء المظلمة، وتحركت جموع الكادحين تحت عناوين الاشتراكية والقومية وما الى ذلك من العناوين البراقة المحركة لمشاعر المعدمين في اتجاه تحقيق الدولة العادلة التي تضمن رفاهية المواطن، إلّا أن تلك الأحزاب بعد وصولها الى الحكم تحولت إلى أحزاب نخبوية يتربع على عروشها طواغيت يمارسون أبشع أنواع الدكتاتوريات بحق الشعب.

   يبدو أن ثمة دوامة من الاستهلاك والابتذال الذي يمارسه الحكم اتجاه الانسان، حاكما يمعن في الاستئثار بالسلطة على حساب كل المبادئ التي كان يتوسلها للوصول اليها، ومحكوما مطالب بالتصفيق للدكتاتور حتى ينفخه، أو البقاء مركونا على قارعة الطريق، إن لم يزج به في السجون، على قاعدة إذا لم تكن معنا فانت ضدنا، التي اشاعها صدام سني حكمه العجاف، فالحكم مظنة فساد، وكرسيه مكان للتلوث، وقد كان الإسلام محكما في رسم تصور للحكم بصيغة عقد بيع، طرفاه بائع ومشتر، فالبيعة هي صيغة عقد اجتماعي سبق نظريات هوب ولوك وروسو، لا يخلو من براغماتية، خالية من ذرائعية ميكافيللي، وفضائلية أكثر واقعية من جمهورية افلاطون ودولة هيجل

   إن البيعة في الإسلام عقد بين حاكم ومحكومين، لا يتنازل فيها أحد عن حريته، وانما ينظم الجميع سبل التعاطي مع الضروريات بما يضمن تحقيق اكبر قدر ممكن من الحرية للجميع، وأصدق أمثلة الحاكم العادل المبايع، الإمام علي بن ابي طالب (ع) ومفردات عدالته لا تحصى، منها موقفه من الخوارج، من حيث الدين لم يخرجهم من الإسلام، بل قال لهم أنتم إخواننا في الدين لكم ما لنا وعليكم ما علينا، ومن حيث الدولة لم يخرجهم من الرعية، أي المواطنة بلغة العصر، فلم يمنعهم من دخول المساجد لذكر الله، ولم يمنعهم العطاء الذي يستحقه كل الناس، وعندما شهروا السيف في وجهه قاتلهم، لبغيهم، وليس لكفرهم، ومن أمثلة الحاكم العادل عمر بن الخطاب (رض)، ففي سعيه لمنع الفجور تسور بيتا، علم أن سكانه يشربون الخمرة، فامسك بهم وهم متلبسون، فلما أراد إقامة الحد عليهم، حاجوه بانه عصا أمر الله، حيث لم يدخل البيوت من أبوابها ولم يستأذن، وعلى الرغم من شدته في الحكم التي تناقلها الرواة، انصاع لحجة دليلها من القرآن الكريم.

   إن الحكم عندنا، في عالمنا الإسلامي والعربي، افتقد صفة العقد بالانقلاب الأول على الحكم الراشد الذي قاده معاوية، في عام أطلق عليه الإسلام الرسمي عام الجماعة في أول عملية تزوير علني وممنهج للتاريخ، وحتى في الديمقراطيات الصورية التي شاعت في عالمنا فيما بعد، لو سلمنا بأنه عقد بين حكام ومحكومين، فإننا لا يمكن أن نسلم بأنه عقد بين أطراف متساوية متوازنة، فالمعلوم أن المترشحين للحكم يمتلكون من الثروة والقوة والنفوذ ما لا يمتلكه المحكومون.

وخلاصة ما أود قوله أن الإسلام دين وليس أيديولوجية سياسة، صاغ نظرية الحكم متمحورة حول البيعة، التي أجملها ليس عجزا عن التفصيل، وإنما بوصفها عقدا إداريا بين طرفين، يفصل على وفق ظروف واقعهما، فالحاكم ليس مفوضا من الله وإنما من الأمة، فوضته إدارة أمرها بشروط، يبقى حاكما ما دام ملتزما بها، فإن أخل بها خلع، وأول من أخل بشروط البيعة عثمان بن عفان (رض)، بسبب مجموعات الضغط الأموية المنتشرة في حاشيته، فقد أخل بمحاباته للامويين على حساب الامة، وعندما خلع استحدثت نظرية التفويض بقوله إن الحكم ثوب البسنيه الله، ولا يحق لاحد خلعه عني، وقد أراد علي عليه السلام تصحيح الخطأ عندما بايعة المتمردون على عثمان، فرفض الحكم مطلقا بقوله دعوني والتمسوا غيري، وعندما اصروا لم يقبل الحكم إلّا بشورى الأمة، كان موقف عثمان مدخل ألمح إلى نظرية التفويض التي تكلم بها معاوية علنا بعد انقلابه على الامة واستلابه للحكم.

   إن الإسلام لم يسم الحاكم وإنما وصفه، ولم يتدخل بشؤون الحكم الإجرائية وإنما كان رقيبا على شرعية الحاكم، يؤشر على الأخطاء من أجل تصحيح المسار، ومن ثم فليس هناك اسلام سياسي وإنما هي أحزاب سياسية تلتزم بما الزم به الإسلام الأمة، فليس هناك فرق بين حزب يصف نفسه إسلاميا وآخر يقول إنه وطني، إلّا بمقدار تصحيح الأخطاء على وفق الرؤية الإسلامية، وتقويم المسار بما يتفق وإرادة الإسلام، فالحكم لله والإمرة للناس.