لم يعد خافياً أن البعد الديني والمذهبي والإثني لما يحدث في المنطقة هو الذي يتم توظيفه. يعاد إنتاج التاريخ واستنزاف الدماء والطاقات والثروات منعاً لبناء المستقبل. بدلاً من حروب الاستعمار والاحتلال أصبحت أنظمة القمع وحروب التاريخ هي البديل. الحرية وامتلاك عناصر التقدم والأمن هي الممنوع الذي نعبث به جميعاً: حكاماً ومحكومين، ظالمين ومظلومين، راكبين ومركوبين. ممنوع قيام حكم وطني. وممنوع قول الحقيقة؟.. أية حقيقة.. حقيقة اتهام الأقليات بتشكيلها خطراً على المجتمعات وتضخيم ذلك الخطر إن وجد. الأقلية والأكثرية يمكن أن تكون خطراً على أوطانها بالجهل وسوء التصرف. لا توجد أقلية خطرة ولا أكثرية مؤتمنة. مفهوم الوطن ومسؤوليات المواطنة تتجاوز التعبير الديني والمذهبي والإثني إلى السلوك. وللتذكر وللتأكيد على أن المواقف هي أفعال وليس أقوال، وأنه (لاتزرُ وازرةٌ وزر أُخرى) سأروي للقارئ الكريم قصة الزعيم الوطني السوري المسيحي الراحل (فارس الخوري) لزمن الإنتداب الفرنسي لسورية. فقد وقف الخوري خطيباً في مناسبة وطنية وقال: إذا كانت فرنسا تريد البقاء في هذه البلاد بذريعة الدفاع عنا نحن الأقلية المسيحية فاشهدوا جميعاً أيها الإخوة أنني أسلمت، وأشهد أن لا إله إلا الله ولتخرج فرنسا. ضج الجمهور بالتصفيق ورفعوا الخوري على الأكتاف ومضوا به يهتفون: لا إله إلا الله فارس بكّـ حبيب الله. عبر فارس الخوري عن وطنيته بجملة نبيلة الهدف وعبر الجمهور عن اعتزازه بوطنية الخوري وثباته على موقفه الذي فضل فيه الوطن على الإنتماء الديني.. وبقي الخوري مسيحياً وطنياً صادق السيرة والحضور. بل رشحوه أهالي حلب وزيراً للأوقاف والشؤون الدينية. يعني ممثلاً عن المسلمين والمسيحيين وبقية الأطياف في الحكومة السورية.
يبني الوطن المواطنة الصالحة وليس الإنتماء الديني أو المذهبي أو العرقي دون أن يقلل هذا من احترام الإيمان. فمتى نخرج من القرون الوسطى..؟ أم إننا سنبقى نبكي عليها وعند حائط مبكاها. لأن الأقلية والأكثرية تعبيران سياسيان لا دينيان أو مذهبيان. بالمعنى السياسي يحكم الجميع قانون الأقلية والأكثرية. بالمعنى الديني أو المذهبي أو الاجتماعي يعيدنا قروناً إلى الوراء ويزرع بذور الصراع والحروب الأهلية وقد تجاوزها التاريخ. لكن غالبية حكامنا ووكلاؤهم (وعاظ ومخبرين) ينبشون قبورها ويكدون على إحياءها لأنها تفرق بيننا وتعزز قبضتهم علينا.