23 ديسمبر، 2024 12:06 ص

الخلق أوتار وأنغام

قناعات لا تقبل التجديد تضع الحكمة في التيه، حينما تجمد المياه في قدح ليس بالإمكان سكبها أو إحلال مياه أكثر نقاء محلها، فلابد أن يكون هنالك سعة ما لاستقبال الجديد أو إمكانية لفسح المجال بإذابة الجليد لتدخل إليه مياه جديدة… كذلك الحكمة فإنها لا تأتي مع إعجاب الناس برأيها أو تصورها أنها تمتلك الحقيقة، حتى لو كان ما عندها حلا لزمان آخر ومكان آخر قد يكون بضع سنين فائتة.

العالم خلق بالحركة وأوتار تعزف أنغام الحياة فان جمدت لن تجد صوتا ولا لحنا وإنما صمت وبرود، والبحر ينفد ما لم يتحول بخاره إلى أمطار تتحرك لتسقط بعيدا وتعود نقية.

الازدواج بين حقيقة الأخلاق كمعايير والسلوك

إننا اليوم أمام بشر يحكم على العوارض والنوازل والظواهر وكل الناس بلا معايير إلا هوى نفسه، أي حكم ينطلق من الأنا وتفاعلات الغرائز بغياب الحكمة وفاعلية المنظومة العقلية أو جمودها كوصف أقرب يتناغم مع سياق مصطلحات المقال، وقد نجد شخصا يحكم بكل قسوة على مرتكب لخطأ هو ذاته يرتكبه بل يرى أن من يرتكبه متجردا من الأخلاق بسلوكه ولا يرى انه يقوم بنفس العمل أو قام به وان الإنسان عرضة للخطأ حتى بما ينكر من فعل له وللآخرين في مجتمعه، فلا أنبياء ولا خوارق أو تنزه عن الخطأ كما يربي جهازنا المعرفي الناس فنتعامل بشدة وصلابة بتنفيد التفاصيل من المعايير على الناس والحكم عليهم بسلبية غالبا، ومنتهى التساهل والتغافل مع ما نفعله نحن وقد انكرنا عليهم فعله بل اعتبرناها جرائم لا تغتفر ولابد من إيقاع العقاب بسببها فان تذكر المرء انه نفسه يرتكبها سارع بطرد ما تذكر من ذهنه.

التغيير سنة كونية

قد لا نحس أن يومنا ليس مثل غدنا ولا كأمسنا والكون يتحرك ويتوسع والأرض كما الشمس والكواكب تسير وهي تدور في نظامها لكن واقعا لا يتكرر اليوم بهذه التفاصيل الحركية والزمانية والمكانية، لماذا نقول هذا؟ الجواب لكي نفهم أن الثبات لا يعني التوقف عن الحركة أو الرتابة ليكون نظاما فما عندك من فكر أو آلية ما لم يتجدد ويعالج سيتوقف والتوقف جمود سواء التغيير أو الإيمان بأمر واتخاذ قرارات لا رجعة فيها أو أن الفهم الذي نفهمه اليوم هو الحق الذي لا يمكن أن يعاد النظر فيه.

لان المعنى القرآني يضع للزمان والمكان ورقي وتطور حياة الإنسان مكانة ومعيار لفاعلية المنظومة العقلية وحسن استخدامها والإبداع في مخرجات منظومتها وهي علم يخضع للتجربة والخطأ؛ لم نخلق لنعيش في الماضي وذنوبه أو حسناته بل خلقنا لتختبر منظومتنا العقلية ونبني المستقبل تلك هي المهمة التي يدفنها التخلف والجهل والجهالة.

ففي الوقت الذي تسارع المجرة في حركتها مواكبة للكون، لابد أن يسارع الإنسان في تنمية نفسه ككينونة وتناغم السلوكية مع نفسية ترتقي في الحس والتعامل وتوسيع مداركه كعقلية وتطوير حياته المدنية، وهذا ليس كلاما يقال، فآدم وحواء كانا على الأرض نفس الأرض فردان، اليوم يوجد عليها بضعة مليارات من البشر، هذا يتطلب مع تنامي الحاجات نتيجة المدنية وتنامي العدد البشري، وكله عمل وجهد يحتاج إدارة الموارد البشرية والطبيعية ومخرجات الإبداع البشري في تبسيط الحياة لكن بزيادة المتطلبات وبالتالي تزداد المصروفات والمستهلكات، فنحتاج لمزيد من فروع الإدارة، من إدارة الرعي والمزارع إلى إدارة الدول والحياة وما تحتاجه من قوانين، فلا يمكن أن تثبتالقوانين وان نجحت في ظرف زمني، ولا أن تستورد القوانين عبر العصور أوالأماكن، ولا أن تؤخذ الأيدولوجيات كقوالب ويطلب من الشعوب تأخذ شكل القالب للفكرة وما فيها، هذه كلها أخطاء قاتلة وأفكار قاتلة لنجاح البشرية في عمارة الأرض وإدامة السلالة، فكان التفوق العلمي مدعاة للكبر عند البعض لدرجة يقرر تصنيف البشر إلى طبقات وكيف يخطط بدل عيشهم ليخطط موتهم، وتوجيه المخترعات للإبادة والحروب وتخرج منها كمخرجات جانبية الاستخدام المدني، فمثلا يخطط لصناعة دبابة ومنها بالفكرة بلدوزر.

مجتمعنا

لا يمكن لنا كمجتمع إسلامي الثقافة المتعدد الأديان والمعتقدات أن نقدس المخرجات التي سرت في التاريخ ونجعل من الاجتهاد البشري مقدسا كأصل الدين، وإنما علينا أن نعلم إننا مكلفون وإننا بحاجة إلى قوانين واجتهاد وفهم جديد قادر على إدارة الحياة في عصرنا ولست مبالغا إن قلت لإنقاذ البشرية من هذا التردي الآدمي في القيمة رغم التطور التكنولوجي والتقني.

أن الحكمة لا تأتي مع جمود الفكر أو الظن بان صواب الآليات أو الفهم في زمن يبقى ذاته لكل وقت وعلينا أن ندرك ونفهم معنى صلاحية القرآن لكل زمان ومكان لأنه قابل للاستنباط وفق استقراء الواقع وليس هو بقالب ترتصف الناس داخله وإنما يتوسع بالفكرة في العقلية ويتطور بالآليات وفق قاعدة العدل والإحسان والعلاقات الحسنة والنهي عن الفحشاء والمنكر ليس بالقول والصوت العالي وإنما بأساليب علمية وقانونية تبقى توصف بالعصرية والتجدد.