في عالم البشر، ومنهاج البشر، ونظام البشر، وتقاليد البشر، وفلسفة البشر.. يُعتبر الملك، أو السلطان، أو الأمير، أو الرئيس.. هو الحاكم الأول في الدولة، وله الحق كل الحق، في إصدار القوانين، والتشريعات التي تضمن هيمنته، وسيطرته على شؤون الرعية.
وهذا الحاكم البشري الأول، ذو العلم القليل، وصاحبُ الهوى والمزاج المتقلب، والمتغير بين لحظة وأخرى.. وصاحبُ النسيان، وذو العواطف والمشاعر المتبدلة، وذو الغرائز التي تتشابه في جوانب منها مع البهائم، كالطعام، والشراب، والتكاثر، والنوم، وخروجِ الفضلات الغليظة والخفيفة من جسده، وشعورِه بالتعب، وحاجتِه إلى الراحة، وتعرضِه إلى الأمراضِ والأسقامِ، وإلى الخَرَفِ في آخر أيامه، ثم إلى الموتِ، ودفنِه في الترابِ في باطن الأرض، التي منها خُلقَ أولَ مرةٍ.
وفي قسم منها، تتشابه مع الملائكة، كالصفاء الروحي، والسمو عن الشهوات والملذات، والعلو إلى العلياء..
وفي قسم ثالث منها، تتشابه مع إبليس اللعين، في مكره، وخداعه، وخبثه، ونزغاته، ووسوسته، وهمزه، ونفثه، ونفخه، وتلبيسه، وتدليسه، وتزيينه الشر، وتحريضه على ارتكاب الموبقات والآثام.
هذا الحاكم ذو النقصِ الشديد في الكفاءات، والمواهب، والقدرات العقلية، وصاحبُ العيوب الكثيرة، والسلبيات العديدة التي لا تعد ولا تحصى، وصاحبُ النزوات، وقد وصفه ربه أدق وصف ﴿ إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ المعارج 19. وفي تفسير الطبري قال: ضَجُورًا. وجزوعاً، وحريصاً، وشحيحاً.
هذا الحاكم الذي يُصاب بالهيجان، والتوتر، والغضب لأتفه الأسباب، والعجلة في إصدار الأحكام والقرارات والأوامر كما وصفه خالقه ﴿ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا﴾ الإسراء 11. ولديه الميل، والرغبة الشديدة إلى الاستمتاع بالملذات الجنسية، والحسية، والمادية، والتمتع بالشهوات ما لذ منها وما طاب.
هل يقبل هذا الحاكم – وكل حكام الأرض مثله، مع اختلافات يسيرة بين حاكم وآخر- وهو بهذه الصفات والخصائص المتدنية، المعيبة، التي ذكرناها بشكل مفصل آنفاً.. أو هل يرضى من رعيته أو شعبه، أن يطيع بعض أوامره وأحكامه، ويترك أحكاماً أخرى، لا يلتزم بها؟!
أم أنه يأبى، ويرفض رفضاً قاطعاً من رعيته، أو من شعبه، عصيان ولو أمراً واحداً من أوامره، ويسن قوانين زاجرة، وعقوبات رادعة – مثل السجن أو الإعدام أو دفع غرامات مالية – على تركها؟!
إذا كان هذا الحاكم البشري الجاهل، الضعيف، كما وصفه الخالق ﴿ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا (٢٨)﴾ النساء. الهزيل، الناقص العقل، والمحدود العلم والمعرفة، والمحدود الإمكانيات، والمحدود العمر، ويعتور أحكامه الخطأ، والتعسف، والظلم، والتخبط ، ودائم التبديل، والتغيير في قوانينه، وأحكامه، وليس لديه من الكفاءات، والطاقات، والعبقريات، إلا القليل.. كما قال رب العالمين: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا (٨٥)﴾ الإسراء.
ومع ذلك، يصر على أن تُطبق أحكامه، وقوانينه، وتشريعاته، كاملة غير منقوصة، ويعاقب أشد العقاب على من يعصيه، أو يخالفه، في أمر من الأمور.
إذن، فماذا عن الخالق والبارئ، والمبدع للكون، بكل سماواته، وأرضه، وأفلاكه، ومجراته، وكائناته الحية.
هذا الخالق العظيم، الذي يعلم السر وأخفى، وهو بكل شيء عليم كما ذكر سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ النساء 176.
ويعلم ما تُضمر القلوب، وما تحدث الإنسان نفسه ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ غافر 19. وفي تفسير الطبري (يقول جلّ ذكره مخبراً عن صفة نفسه: يعلم ربكم ما خانت أعين عباده، وما أخفته صدورهم، يعني: وما أضمرته قلوبهم؛ يقول: لا يخفى عليه شيء من أمورهم حتى ما يحدث به نفسه، ويضمره قلبه إذا نظر ماذا يريد بنظره، وما ينوي ذلك بقلبه). (قال: حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ﴾ إذا نظرت إليها تريد الخيانة أم لا ﴿وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ إذا قدرت عليها أتزني بها أم لا؟).
ويعلم ما توسوس به النفس البشرية بل يعلم مستقبلاً ماذا ستتصرف وماذا ستعمل وبماذا تفكر وبماذا تخطط للمستقبل كما هو قال: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ ق 16. يقول الطبري: بأنه عرق العنق. وقد اختلف أهل العربية في معنى الآية، فقال بعضهم: معناه: نحن أملك به، وأقرب إليه في المقدرة عليه. وقال آخرون: بل معنى ذلك بالعلم بما تُوَسْوس به نفسه.
هذا الخالق الجليل، الذي خلق الإنسان من تراب، ثم من نطفة، ثم سواه إنساناً سوياً، وفي أحسن تقويم ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ التين 4.
فهو يعلم علم اليقين المطلق – الذي لا يعتوره أي شك، ولا أي خطأ، ولا أي نسيان ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ مريم 64. – بمكونات الجنس البشري، منذ بداية خلقه من نطفة، إلى أن يخرج طفلاً سوياً من بطن أمه.
فهو الذي صنعه وصوره وكونه ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ آل عمران 6. ويقول ابن كثير في تفسيره أَيْ: يَخْلُقُكُمْ كَمَا يَشَاءُ فِي الْأَرْحَامِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، حَسَنٍ وَقَبِيحٍ، وَشَقِيٍّ وَسَعِيدٍ.
﴿ وصَوَّرَكم فَأحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ التغابن 3. أيْ: خَلَقَكم في أحْسَنِ صُورَةٍ.
وقد أودع الله تعالى في الإنسان، كل المشاعر والعواطف، والأحاسيس والغرائز، والتمنيات والأمنيات، والأحلام والتطلعات إلى الأحسن والأفضل، والأفكار، وكل ما يحتاجه لعمران الأرض، وبنائها وكيفية بنائها على الطريقة الصحيحة.
فهذه الصنعة الربانية للمخلوق البشري، التي لا يملك أسرارها إلا الله وحده، ولا يعلم ما تحتاجه هذه الصنعة البديعة الرائعة، والفريدة من نوعها (المخلوق البشري)، من حاجيات ومتطلبات، للمحافظة عليها سليمة من الأذى، ومصانة من العطب، لكي تبقى في حلة قشيبة، جميلة، ولتظل آمنة من التحطم والهلاك، ولتنعم بالحياة الرغيدة الرضية السعيدة، الخالية من الشقاء والبؤس، والتعاسة، ومن نكد العيش، ومنغصات الحياة، ولأوائها، وأكدارها، إلا الله تعالى.
وبما أن هذا الخالق العظيم الكبير المتعال، يتمتع بهذه الأوصاف الكمالية، والعلم المطلق، بكينونة الإنسان، وطبيعته، وحاجياته.. ويتصف بالحكمة البديعة، والقدرات اللامحدودة، والإمكانيات اللامتناهية.
إذن، فمن حقه أن يعبده البشر كلهم، ومن حقه، أن يكون هو الحاكم الأول، وأن يكون تشريعه، وقانونه، هو المهيمن والمسيطر على حياة البشر كلهم.
ويقول الله تعالى مبيناً وموضحاً حقه المطلق، والكامل في حكم البشر، وأن له الأولوية الأولى في هذا الشأن، إذ لا يوجد حاكم آخر على وجه الأرض، يتصف بالأوصاف المؤهلة للحكم كما هي لله تعالى.. كما وأنه لا يستطيع أن يحكم كما يحكم الله ﴿ إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه﴾ يوسف 40.
(إن الحكم لا يكون إلا لله. فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته؛ إذ الحاكمية من خصائص الألوهية. من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته؛ سواء ادعى هذا الحق فرد، أو طبقة، أو حزب، أو هيئة، أو أمة، أو الناس جميعا في صورة منظمة عالمية.
(ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفراً بواحاً، يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة، حتى بحكم هذا النص وحده!
(وادعاء هذا الحق لا يكون بصورة واحدة هي التي تخرج المدعي من دائرة الدين القيم , وتجعله منازعا لله في أولى خصائص ألوهيته – سبحانه – فليس من الضروري أن يقول: ما علمت لكم من إله غيري؛ أو يقول: أنا ربكم الأعلى، كما قالها فرعون جهرة.
(ولكنه يدعي هذا الحق، وينازع الله فيه بمجرد أن ينحي شريعة الله عن الحاكمية؛ ويستمد القوانين من مصدر آخر.
(وبمجرد أن يقرر أن الجهة التي تملك الحاكمية، أي التي تكون هي مصدر السلطات، جهة أخرى غير الله سبحانه. . ولو كان هو مجموع الأمة أو مجموع البشرية .
(والأمة في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة الله؛ ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته. إنما مصدر الحاكمية هو الله.
(وكثيرون حتى من الباحثين المسلمين يخلطون بين مزاولة السلطة وبين مصدر السلطة. فالناس بجملتهم لا يملكون حق الحاكمية إنما يملكه الله وحده . والناس إنما يزاولون تطبيق ما شرعه الله بسلطانه، أما ما لم يشرعه الله فلا سلطان له ولا شرعية، وما أنزل الله به من سلطان) نقلاً من ظلال القرآن يوسف 50.
النتيجة العقلانية المنطقية
إن الله جَلَّ في عُلاه، له الحق الكامل المطلق، في حكم البشر.. من خلال تشريعه الذي وضعه للبشر في القرآن والسنة.
لأنه، هو الأقدر على تلبية حاجاتهم المعيشية، والأقدر على إقامة العدل، وتحقيق المساواة بين الناس، وإرساء نظام عالمي، تسوده السعادة والراحة، والطمأنينة، ويعم الرخاء والازدهار في الأرض، وتشيع المحبة والمودة بين البشر، أكثر بكثير من القانون البشري، القاصر العاجز، الجاهل بمعرفة الكينونة البشرية، ومتطلباتها، ورغباتها، والمشبع بالهوى، والانحياز لمصلحة الحاكم، فوق مصلحة الناس، والداعي إلى إشاعة الفاحشة، والرذيلة، والشهوات بين الناس!