إن مدى الحقوق والصلاحيات الممنوحة لمختلف أجهزة الدولة ونظام ممارستها يثبتان بوساطة الدستور ويحددان بالتشريعات التي تصدرها الدولة والأعراف والتقاليد المرعية في المجتمع . وتعتبر الأحكام الدستورية بمثابة العامود الفقري في النظام القانوني للدولة ، فهي التي تحدد الاتجاهات الرئيسية لفعاليات الدولة التي تعتبر قاعدة لنشاط جهازها بأجمعه ولكل هيئة من هيئاته على انفراد . وأما وظيفة أية هيئة في الدولة فيقصد بذلك إيضاح دور ومكانة وغرض ووسائل تلك الهيئة كجزء خاص من جهاز الدولة الكلي.
ويمكن القول ، بأن القانون يعتبر أهم أدوات سياسة الدولة ، وهذا يعود إلى الدور الكبير الذي تلعبه الدولة في المجتمع والنشاط الإنساني عامة ، فالدولة تتدخل في كل شيء وهي موجودة في كل مكان ، وترتبط جميع المشاكل الأساسية لتطور المجتمع الاقتصادي والاجتماعي بالدولة ودورها المتزايد وبمسألة تطورها ونظرتها للمجتمع ومراعاتها للمصلحة العامة أو انحيازها إلى فئة دون أخرى من خلال النصوص القانونية وتطبيقاتها معاً.
إن الديمقراطية لاتقوم فقط بإعلام الحقوق الواسعة للمواطنين وحرياتهم بل إن الديمقراطية تقوم عندما تضمن الدولة تطبيقها الفعلي بتوفير الإمكانيات المادية والأدبية . وإذا كانت الديمقراطية تعني المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وبدون تفريق بسبب الجنس أو اللون أو الدين ، فإن الديمقراطية لاتكون موجودة فعلاً إذا لم تواكبها حرية حقيقية للفرد تتجلى في التحرر من ربقة الاستغلال والفقر والبطالة . لأن هذه الحريات هي قاعدة الحريات الأخرى ، إنها تمنح الإنسان الثقة بالمستقبل وتولد لديه ظروفاً واقعية لازدهار شخصية الفرد وتمكنه من المشاركة الفعالة في بناء المجتمع وتقدمه وحل مشاكله.
وعلى الرغم من أن للقانون قيمة ذاتية في مواجهة نظام الاستبداد والطغيان، إلا أنه لايجوز البحث في جوهر القانون وأسباب ظهوره وتطوره من خلال النصوص القانونية ذاتها بمعزل عن الحياة الاقتصادية والسياسية للمجتمع ، ذلك أن القانون يمكن أن يفهم فقط كنتاج للظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة في المجتمع ، فليس القانون هو الذي يكون المجتمع بل المجتمع هو الذي يضع القانون الذي ينظم علاقاته . ويمكن القول وبدون مبالغة أن القانون كائن اجتماعي يولد ويتطور ويفنى كسائر الكائنات الأخرى.
إن الصفة المميزة للدستور من وجهة النظر التشريعية هي البساطة والوضوح ، ولكن من الخطأ اعتبار أحكام الدستور مجرد بعض مبادئ الانطلاق العام للنظام القانوني في الدولة ، لأن الدستور في حد ذاته يعتبر قانوناً بل هو القانون الأساسي للدولة ويعمل بصورة مباشرة ، ومن المعلوم أن القوانين الجارية يجب أن تتوافق أحكامها بصورة تامة مع أحكام الدستور نصاً وروحاً.
إن البحث في مدى تطابق أحكام القوانين المتعلقة بالحريات العامة ، كلٌ على حدة ، وهي أحكام تقع في عدة قوانين ، ولكن كمبادئ عامة فإن الدستور ينص على حقوق وواجبات المواطنين في أحكام مخصوصة ، ومن هذه الحقوق: الجنسية ، والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ، والحريات الشخصية، وحرمة المساكن ، وحق الملكية ، وحرية العمل ، وحرية الاعتقاد والدين والشعائر الدينية ، وحق الاجتماع ، وحق مخاطبة السلطات العامة ، وسرية الخطابات والمراسلات ، وحق العمل والتنظيم النقابي ، وحق التعليم ، وحرية الصحافة والمطبوعات ، وحق تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية.
ولم تأت أغلب الدساتير على تنظيم هذه الحقوق تفصيلاً وإنما تشير إجمالاً إلى المبادئ الأساسية والاتجاهات العامة لهذه الحقوق والحريات باعتبارها حقوقاً دستورية يضمنها الدستور ولكن في حدود القوانين الخاصة التي تصدرها السلطة التشريعية تحقيقاً لهذه الغايات وهي التشريعات التي تتضمن الأحكام التفصيلية والتنظيمية لكل حالة.
ولايمكن أن تراعي النصوص القانونية أحكام الدستور لفظياً بل يجب أن يكون النص القانوني موافقاً ومطابقاً للنص الدستوري بنصه وروحه ، وهذا يتطلب وجود حكومة فعالة تجعل القانون محل احترام الجميع – حاكمين ومحكومين – وأن تهيأ الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلاد واللازمة لحماية المجتمع وتقدمه وحل مشاكله ، وهذا يعني وجود سلطة تنفيذية لها سلطات ووسائل كافية لتقوم بالتزاماتها بفعالية ونزاهة ، كما يتطلب وجود هيئات تشريعية منتخبة انتخاباً حراً ونزيهاً وديمقراطياً ، وفي معزل عن مناورات السلطة التنفيذية وأجهزتها المتعددة . كما يتطلب وجود سلطة قضائية مستقلة تباشر وظيفتها بحياد ونزاهة وبدون خوف أو وجل لإحقاق الحق وإزهاق الباطل ودفع الأذى والضيم ورد كل منحرف إلى جادة الصواب.
وكما أسلفت ، فإن القوانين التي تنظم أحكام حريات المواطنين عديدة ، ويكفي أن نذكر بعضاً منها ، ويأتي في مقدمة هذه القوانين القانون الجنائي وقانون الصحافة والمطبوعات وقانون الأحزاب.
فبخصوص القانون الجنائي ، فإن المبادئ الأساسية في التشريع الجنائي والتي يتوجب مراعاتها – براءة المتهم حتى تثبت إدانته – بحكم قطعي صادر عن محكمة مختصة وأن توفر للمتهم محاكمة عادلة وعلنية ، وأن يمكّن من الدفاع عن نفسه بالذات أو بوساطة محام وأن لايخضع المتهم أو الشهود إلى أي نوع من الضغط المادي أو المعنوي في التحقيق أو المحاكمة ، وتتجلى أهمية هذه الحقوق في مدى تنفيذ هذه الأحكام في إجراء المحاكمات عملياً ، ولايكفي توافرها لفظياً . فإن الخروج على روح هذه القوانين والتقاليد يعد خرقاً لحريات المواطن ، ذلك أن حقوق المتهم أثناء الإجراءات الجنائية – حتى إذا تضمنتها النصوص القانونية ، فقد تصبح وهمية إذا لم تستند إلى أنظمة لها من روحها وتقاليدها ما يحد من ممارسة بعض السلطات المستمدة من أصل قانوني ولكنها مستمدة على وجه الخصوص من أجهزة وهيئات لها تقاليد السلطة التنفيذية وتتبع أوامرها.
وفي مجال حرية الصحافة والمطبوعات ، فإن هذه الحرية لها في بعض البلدان منزلة العقيدة وتفصح عنها بأسمى العبارات ، ولكن في الواقع العلمي وعند ممارسة هذه الحريات المعلنة على الملأ لانجد لها تطبيقاً في الواقع . إن جميع الدول التي تدّعي الديمقراطية – عن حق أو باطل – تؤكد إيمانها بحرية الصحافة ولكن في الواقع العملي أحياناً يثبت أن هذا الأيمان نظري . إن حرية الصحافة وكما يعرف أهل الاختصاص ، هي دائماً محل خلاف .. أين تبدأ ؟ وأين تنتهي ؟ ومهما يكن الأمر فقد أثبت الواقع أن هذه الحرية لاتمثل إلا جانباً من جوانب حرية الفرد ، بمعنى أن حرية الصحافة مصدرها حق المواطن في الحرية . الحرية في أن يكتب ، والحرية في أن يقرأ … والحرية في إعلان رأيه للآخرين وحرية الإطلاع على رأي الآخرين.
إن وجود نصوص قانونية تكفل الحريات العامة والفردية لايكفي وحده إذا لم يواكب هذه النصوص تطبيق عملي لهذه الحريات على أيدي سلطات الدولة المختلفة ، تطبيقاً يحترم القانون نصاً وروحاً ، وتكفل السلطة التنفيذية أعماله ، كما تكفل السلطة القضائية ملاحقة كل من تسول نفسه الاعتداء عليه.
[email protected]