23 ديسمبر، 2024 9:57 ص

الحضارة بين التمدن والتحضر

الحضارة بين التمدن والتحضر

الحلقة السادسة والأخيرة في سلسلة حلقات (في الدولة المدنية)
الحضارة لغة إيراد الشيء و وروده ومشاهدته , والحضر : خلاف البدو ؛ والحضور ضد الغيبة وهو الشهود.
ويعنون بالحضارة : الإقامة في الحضر ,والحاضرة هي المدن والقرى والأمصار التي تبنى بها المساكن الثابتة ويستقرون فيها فلا يرحلون والعرب في مساكنهم كانوا طائفتين : بادية رحل وحاضرة مستقرون . فالحضارة نتاج للنشاط الإنساني بمختلف صوره المادية والمعنوية وتعني بمعنى آخر (( حضور إنساني في عالم يتقدم ))
وإذا كان (التمدن هو تكدس مادي متطور) فإن التحضر هو الإستفادة القصوى من التطور المادي والتعامل الأمثل مع ما يوفره التمدن من مقومات وأدواة وأجهزة ورفاهية والتحول من إستهلاك المدَنية إلى التعامل الإيجابي مع المدنية وإنتاجها حينها يؤثر (التحضر) على سلوكية الفرد والمجتمع ويرتقي به ويطوره ويطور عوامل الإنتاج فيه ويحوله إلى صانع حضارة أو مساهم فيها ؛ فالتحضر هو البرنامج العملي لإنتاج المدنية والتعامل الإيجابي معها ؛ وإذا كانت المدنية (كما يفترض) تمهد للتحضر فما يلبث التحضر أن ينتج مدنية جديدة بقوانين وسلوكيات وعلاقات جديدة فالتحضر هو روح المدنية ومنتجها في ذات الوقت و جوهر التحضر هو فاعلية الإنسان وإنتاجيته وإيجابيته وهو فلسفة التمدن .
عندما يؤثر التمدن على سلوكية المجتمع وينقله إلى سلوك أكثر تحضراً ورقي ويغير قوانينهم بما يمكنهم من إستثمار التقدم الحضاري والمشاركة فيه عندها يكونون جزء من الحضارة وليسوا متعارضين معها أو مجرد مستهلكين لها .
وما لم يطور التمدن من روح الإنسان وسلوكه وعوامل إنتاجه يبقى عنصراً مستهلكاً في مجتمع مستهلك للحضارة متمدنُ غير متحضر! ما يلبث أن يتآكل ويرتد . وقد يخلط بعض الناس بين الحضارة والمدنية أو التمدن, فيجعل التمدن هو الحضارة, مع أن التمدن صوره من صور الحضارة وثمرة من ثمارها . والحضارة لا تستثمر بالوارد الإقتصادية فحسب بل هي تستثمر في الإنسان والطاقات البشرية وتنميتها وتقدم الرفاه المتحضر.
وقد لا يستطيع مجتمع ما أن يساهم في رقي الحضارة وتطورها المادي التكنلوجي لكنه سيكون جزء من هذه الحضارة إذا ما ساهم في رفدها بالرقي الإجتماعي الأخلاقي والروحي الذي تحتاجه أي حضارة على هذه الأرض للبقاء والإستمرار والنمو والتطور وأن يكون جزء من حركة الحضارة ونموها لا متعاكساً معها ومع هذا فمجتمعاتنا الإسلامية تمتلك الكثير من الطاقات المادية التي لا تستغني عنها الحضارة المعاصرة من طاقات بشرية متطورة تساهم الآن فعلياً
في رسم الحضارة المعاصرة (خارج بلدانهم) كما أنها المصدر الأساسي للطاقة في العالم لكن لابد من التحرك من مجرد مجهزي الطاقة للدول المتحضرة إلى مساهمين في صناعة الحضارة وجزء من تطورها الإجتماعي والثقافي والحضاري.
وللتدليل على ذلك فإن أغلب بلدان العالم العربي هي من البلدان الثرية وبالذات السعودية والعراق ودول الخليج والجزائر وليبيا ( مصر لها مواردها العظيمة في الزراعة والسياحة والطاقة البشرية الغير مستثمرة بشكل صحيح) وفي أغلب هذه البلدان مدن كبرى غاية في التطور وعظيمة البنيان (دبي ؛ الرياض ؛ الدوحة ؛ القاهرة ؛ وهكذا كانت بغداد؛…) ولقد أكد التقرير الصادر عن معهد التمويل الدولي (مقره واشنطن)، ونشرته صحيفة الشرق الأوسط أنه رغم الارتفاع الكبير في عدد سكان الإمارات خلال السنوات الأخيرة فقد حافظت على مركزها المتقدم في لائحة الدول الثرية، إذ احتلت المركز الثالث في العالم العربي لجهة الدخل الفردي الذي بلغ نحو (45.7 ألف دولار عام 2012) ، بينما احتلت قطر المركز الأول، والكويت المركز الثاني. وذكر التقرير أن السعودية حافظت على مركزها الأول من حيث ناتجها المحلي الإجمالي الذي بلغ نحو (640 مليار دولار) نتيجة ضخامة إنتاجها النفطي الذي بلغ معدله نحو 9.8 مليون برميل يوميا وهو من أعلى مستويات إنتاج المملكة منذ أن بدأت تصدير النفط قبل نحو 70 عاما. في حين وصل الناتج المحلي الإجمالي للإمارات إلى أعلى مستوى له العام الماضي وهو (375 مليار دولار) مقابل 352 مليار دولار عام 2011، أي بزيادة بلغت 6.5 في المائة ليبلغ أكثر من ضعف مستواه عام 2006 عندما وصل إلى 181 مليار دولار!. وخلص التقرير إلى أن ناتج الإمارات شكل نحو ربع إجمالي الناتج في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والذي بلغ (1.5 تريليون دولار) لعام 2012م ، بينما بلغت نسبة الناتج الإماراتي نحو 13 في المائة من إجمالي الناتج في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجاءت مصر في المرتبة الثالثة من حيث الناتج الإجمالي الذي بلغ (257 مليار دولار) عام 2012م ، بينما احتلت الجزائر المرتبة الرابعة بقيمة (197 مليار دولار) ، وجاءت دولة قطر في المرتبة الخامسة بقيمة (182 مليار دولار)،تلتها دولة الكويت في المرتبة السادسة بـ(178 مليار دولار). ولقد بلغ إجمالي الناتج المحلي لكل فرد في قطر : 98،814 $ لتكون أكثر دول العالم دخلاً (إحصاء 2015م) وتليها لكسمبورغ – إجمالي الناتج المحلي لكل فرد: 78،670 $ و سنغافورة – إجمالي الناتج المحلي لكل فرد: 64،584 $ النرويج – إجمالي الناتج المحلي لكل فرد: 54،947 $ و بروناي – إجمالي الناتج المحلي لكل فرد: 53،431 $ و الولايات المتحدة – إجمالي الناتج المحلي لكل فرد: 53،101 $ . ولك المقارنة الدور الحضاري بين دور قطر وبروناي و لوكسمبورغ (هي إحدى دول البنلوكس. تقع في غرب أوروبا، بين كل ألمانيا، فرنسا وبلجيكا وتُعد إحدى أصغر دول أوروبا مساحةً وسكاناً) وسنغافورة والنروج والولايات المتحدة الأمريكية ؟! .
نعم (العراق والسعودية ودول الخليج قاطية والجزائر)هي دول ثرية مدنية بلا أدنى شك ولكنها لازالت مستهلكة للمدنية وغير منتجة لها رغم كل هذه الإمكانيات
الخيالية! وجميعها لم تبلغ بعد مستوى الحضاري الطبيعي الموازي للتحضر الغربي في الإنتاج والقيادة ؟!
ويمكننا مقارنة إنتاجية الموظف العربي قياساً بالموظف الأوربي والياباني حيث يصرح وزير الخدمة المدنية السعودي خالد العرج : أن إنتاجية الموظف الحكومي في السعودية لا تتعدى الساعة الواحدة يوميا و ينجز شهريا بين 20 و 21 ساعة فقط ، وبالتالي الدولة تدفع تكلفة ورواتب لا تحصل على مقابلها كعمل ! وكشف الاتحاد العربي للتنمية البشرية في تقرير أن معدل إنتاجية العامل العربي هو من أقل المعدلات في العالم، بسبب التخلف الاقتصادي . وأشار الاتحاد إلى أن ساعات العمل الحقيقية للعامل أو الموظف العربي خلال الدوام اليومي لا تزيد على 18 دقيقة، إذا طرح من ساعات الدوام الرسمي الوقت الضائع . وعلى سبيل المثال لا الحصر أشار الاتحاد إلى أن متوسط إنتاج العامل المصري 30 دقيقة في اليوم، والجزائري 22 دقيقة، والسوداني 20 دقيقة .
أن إنتاجية الموظف الحكومي في أغلب الدول العربية لا تتجاوز ٢٥ دقيقة من أصل ٨ ساعات عمل يومية! (أقل من نصف ساعة من أصل ٨ ساعات يومية)، ما يعني 6٪ فقط من الطاقة القصوى التي يمكن الوصول اليها وبمعنى آخر تعتبر هذه الإنتاجية أقل ب ١٥ مرة من الإنتاجية حيث وصلت انتاجية الموظف الحكومي في دول أوروبا وأمريكا وكذلك بعض دول شرق اسيا المتطورة الى اكثر من ٧ ساعات يوميا من أصل ٨ ساعات وهذا بالتأكيد ينعكس تماما على المواطن بالإيجاب نظير خدمته بشكل سريع ومتحضر.. وتتنافس دول أوربا الغربية و الولايات المتحدة الأمريكية واليابان على تصدر جداول الإنتاجية في العالم وبمختلف المجالات حيث كانت زيادة الإنتاجية في القطاع الزراعي في نهايات القرن العشرين بمعدل لا يقل عن 1%، في حين كانت زيادة هذه الإنتاجية في القطاعات غير الزراعية بمعدل لا يقل عن 2%
وبينما كان سيدني غوليك وهو مبشّر أمريكي عاش في اليابان بين 1888-1913 يصف المواطن الياباني بالكسل وعدم الاكتراث بالوقت في بداية القرن العشرين، ولم تكن تلك وجهة نظر شاذة لدى الغرب تجاه المواطن الياباني. فقد كان الرأي السائد عنهم في الغرب أنهم شعب كسول وغير مكترث وأخلاقيات العمل لديه ضعيفة جدا. وأن هذا الضعف مرتبط بالثقافة والتقاليد اليابانية التي لا يمكن أن تتغير والتي لن تمكنهم من التحول لدولة صناعية متقدمة. وفي بداية القرن العشرين (1913) كان متوسط دخل الياباني حوالي 1300 دولار، بينما كان المتوسط العالمي 1500 دولار، ومتوسط دخل المواطن الأمريكي حوالي 5300 دولار. ثم أخذت هذه النسب بالتزايد والنمو واليوم يحتل الياباني أعلى مراتب الدخل بالعالم وأكثره إنتاجية . لم تتغير مدنية اليابان بل الذي تغير هو شكل النظام الإقتصادي حينما كانت هناك رغبة لدى الحكومة والشعب للتغيير والتحضر .
وهكذا نجد أن التطور لم يكن واحداً في الدول الرأسمالية، ولم يكن واحداً في الزمن حتى في الدولة الواحدة. ففي بريطانية مثلاً عادت إنتاجية العمل في عام 1920 إلى ما كانت عليه عام 1890. في حين تطورت بعد هذا التاريخ في الثماني عشرة سنة
بنسبة 16%. وحققت اليابان قفزات عالية بين عامي 1920و1938، وتقدمت بسرعة لم يعرفها بلد في العالم عقب الحرب العالمية الثانية بين عامي 1948و1960.
السنة الولايات المتحدة الأمريكية إنكلترة ألمانية اليابان
1890 100 100 100 100
1900 122 107 100 144
1910 138 110 107 166
1920 142 100 – 228
1929 172 116 90 166
1938 182 132 127 547
1948 223 132 – 314
1960 295 161 166 747
جدول اتجاهات تطور المخرجات في الساعة/ العامل
الرقم القياسي
1890
=
100
وهكذا تنتقل المدنية إلى التحضر ومن بعدها تدخل التنافس على التقدم والتحضر وليس التحضر مجرد زيادة في الإنتاج فيمكن أن تكون الزيادة في الإنتاج على حساب إنسانية الإنسان وليس تحضره ورقيه إذا ما تجاوزت حدودها الإنسانية المعقولة كم يحدث مثلاً في الصين إذ تقول الصحافة التي تسيطر عليها الدولة، (يبدو ان الصين تواجه اليوم وباء اسمه الافراط في العمل اذ يموت قرابة 600.000 شخص سنويا من الارهاق في ادائه، وفقا لصحيفة «تشاينايوث» اليومية) . بل إن الحضارة هي توفير أرقى عيش مناسب للإنسان مع كفالة كل حقوقه المدنية والإنسانية .

[email protected]