أرجو أن تصبر علي وتتابع معي لأن المنشور سيكون مطولاً ولكنك لن تندم على قراءته بعد إكماله.
منذ يومين ومواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية والمقاهي تضج بالحديث عن احتمالية تعرق العراق لحصار اقتصادي جديد بعد ما أطلقه #ترامب من تهديد فما هي حقيقة ذلك وما مدى جديته وما مستوى إمكانية حدوثه وما مدى خطورته ومن المستفيد من ذلك؟!
سأحاول الإجابة عن كل ذلك بتفصيل.
في البدء إن الكلام عن توجيه عقوبات للعراق أطلقه ترامب في تصريح منسوب له في طائرته الرئاسية- أو بالدقة وننقل هنا من موقع CNN الأمريكي بنسخته العربية “في محادثة مع الصحفيين على متن الطائرة الرئاسية، أثناء رحلة العودة إلى واشنطن من ولاية فلوريدا”- ولم يتحدث عن ذلك في تغريدة كما هو عادته في أغلب كلامه في الوضع الراهن فلذا فالحديث عن وجود تغريدة وحذفها غير مجدي.
قبل أن نذكر نصه ما قاله ونحاول شرحه، ينبغي الإجابة عن السبب الذي دعا ترامب لقول ذلك ولماذا انزعج لهذه الدرجة من العراق في حين كان غضبه موجه بشكل كامل لإيران؟
ترامب قال ذلك بعد القرار الذي صدر من مجلس النواب العراقي بخروج القوات الأمريكية من العراق وما تبعه وما سبقه من أحداث، فالقرار جاء على خلاف رغبة ترامب ورغم محاولاته العديدة للضغط لمنع صدوره والتي اتضحت كلياً فيما سرب لاحقاً وفي المقطع الفيديوي لرئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي الذي كان -بحسب رأيي- رسالة لمن كلفه ربما بمنع حدوث ذلك بأنه حاول ولم يتمكن!
القرار رغم الملاحظات عليه وعلى صياغته إلا إنه أزعج ترامب كلياً الذي حاول بكل ما يستطيع أن يصور للداخل الأمريكي وللعالم إن العراق حكومة وشعباً فرح بما جرى من جريمة!
أحدث التشييع التي جائت هي الأخرى صادمة له وهو كان يعول على الترحيب الشعبي الذي لم يظهر منه إلا محاولة بائسة في ساحة التحرير فرح بها وزير الخارجية بومبيو كثيراً لدرجة إنه شارك مقطعها الفيديوي بتغريدة فردت عليه إعلامية بأن ما جرى كان مدبراً من قبل المدعو فراس السراي ومقابل ثمن وتجدون تعليقها بالانكليزية رداً على تغريدة بومبيو، وما جرى في الناصرية للأسف -والذي له تداعيات سببته وسبق ونبهت عليها بمنشورعرضني لموجة كبيرة من التسقيط والاتهامات والتجاوزات- أقول ما عدا ذلك، فالتشييع كان مهيباً ومربكاً جداً لترامب وفريقه في كابينته الحكومية ومؤيديه من الأمريكيين والعراقيين!
نعود لتصريح ترامب، ماذا قال؟ وننقل هنا النص بالانكليزية من موقع (Bloomberg) الأمريكي ثم ننقل ترجمته، لكثرة الاختلاف في النصوص المترجمة المنقولة من قبل المواقع العربية،حيث قال:
“We have a very extraordinarily expensive air base that’s there. It cost billions of dollars to build. Long before my time. “We’re not leaving unless they pay us back for it,”
“If they do ask us to leave, if we don’t do it in a very friendly basis, we will charge them sanctions like they’ve never seen before ever. It’ll make Iranian sanctions look somewhat tame.”
الترجمة:
“لدينا قاعدة جوية باهظة الثمن للغاية. كلفت مليارات الدولارات للبناء. قبل وقت طويل من وقت تسلمي السلطة.
“نحن لا نغادر إلا إذا دفعوا لنا مقابل ذلك”
“إذا طلبوا منا المغادرة ، وإذا لم نفعل ذلك بطريقة ودية للغاية ، فسوف نفرض عليهم عقوبات كما لم يسبق لهم رؤية مثيل لها من قبل. إنها ستجعل العقوبات الإيرانية تبدو وديعة بعض الشيء “.
رابط التصريح من الموقع:
https://www.bloomberg.com/news/articles/2020-01-06/trump-vows-sanctions-on-ally-iraq-toughens-rhetoric-on-iran
معنى ما قاله ترامب، إنه يضع لخروج قواته الخيارات الآتية:
1- خروج مقابل دفع ثمن كلفة إنشاء القواعد الأمريكية بدون أي رد فعل أمريكي.
2- خروج بدون دفع أي شيء وبدون أي عقوبات إذا ما اختار الأمريكان بالخروج بشكل ودي.
3- خروج بشكل غير وبدون دفع ثمن القواعد وفي مقابل فرض عقوبات قاسية -حسب وصفه-على العراق في حال قرر الأمريكان الخروج بشكل غير ودي من العراق.
ويترتب على ذلك:
1- لا وجود لأي حديث عن حصار أو غيره! فضلاً عن إمكانية تحققه فالحديث عنه وعن إمكانية ومتطلباته وآثاره مجرد لغو! مع الاحترام لكل من كتب عن ذلك بحسن نية، وينبغي محاسبة من تعمد بث الدعايات عن ذلك وسبب بعض الهلع لأن ذلك يعتبر جريمة وفقاً للقانون العراقي.
2- لا توجد نية أمريكية لمعاندة القرار العراقي لأنه يعرفون إن ذلك غير ممكن قانوناً، فالقرار العراقي صحيح قانوناً بغض النظر عن باقي التفاصيل.
3- العقوبات هي واحدة من السيناريوهات المحتملة وليست قراراً.
4- طلب دفع أموال مخالف لنصوص الاتفاقيات الأمنية ويمكن مراجعة نص الاتفاقية من موقع مجلس الوزراء العراقي على الرابط:
http://www.cabinet.iq/PageViewer.aspx?id=8
عرفنا مستوى الجدية، فما مستوى إمكانية حدوث العقوبات؟
العقوبات التي قلنا إنها سيناريو محتمل فقط وليست قراراً، لن تكون قراراً دولياً بل ستكون قرار أمريكي فقط، وهذا واضح من النص أعلاه ومن ردود الأفعال الدولية المعلنة ومنها موقف ألمانيا على سبيل المثال، ولعدم وجود أي مسوغ قانوني له فالعراق لم يرتكب أي جريمة ليستحق ذلك بل أمريكا هي من فعلت ذلك بقتل مواطن عراقي ومواطنين أجانب على أرض العراق دون علم ورضا الحكومة العراقية وعلى خلاف الاتفاقيات، وإلى الآن لم تكتب مسودة هذا القرار -لتعرفوا مستوى التهريج الذي يصرح به فائق الشيخ علي!- وإليكم الدليل على ذلك من موقع الواشنطن بوست في مقال نشرته اليوم(7/1/2020):
https://www.washingtonpost.com/business/2020/01/06/trump-administration-begins-drafting-possible-sanctions-against-iraq-following-trumps-economic-threat/#click=https://t.co/2LRhK9vLuh
هذا السيناريو المحتمل- أي القرار الأمريكي فقط- والذي لم تكتب مسودته بعد صعب التحقيق واقعاً لأسباب عدة، منها:
1- عدم وجود مسوغ قانوني له.
2- الوضع الداخلي الأمريكي لا يشجع على احتمال حدوثه فالرأي العام أغلبه مع التهدئة وبعضه مع الضغط على إيران وليس العراق ولا وجود لأي رأي داخلي لمعاقبة العراق لذا تلقى الأغلبية هذا التصريح بالاستغراب الشديد.
3- وضع ترامب ومشاكله في موضوع العزل على الأرجح لن يسمح له بتنفيذ ذلك.
4- قرب الانتخابات الأمريكية (3/11/2020) ونية ترامب في خوض المواجهة لولاية ثانية إن لم يعزل أو يتخلى عنه الجمهوريون سيجعله يتردد في ذلك كثيراً، خصوصاً ما سببه له حدث جريمة القتل من حرج أمام ناخبيه وهو الذي كان يعدهم بعدم خوض حرب وبأن سلفه أوباما كان يهدد بالحرب على إيران لأسباب انتخابية!
5- ترامب هو “أكذب” رئيس دولة على الاطلاق وفقاً للاحصائيات المسجلة فقد سجل عليه المواقع الأمريكية الكذب بمعدل كذبة في اليوم على الأقل في 91 يوم من أول 100 يوم من حكمه! بل سجلت عليه المواقع الأمريكية أيضاً أكثر من 14 ألف كذبة لحد الآن!
https://www.nytimes.com/2017/04/29/us/politics/fact-checking-president-trump-through-his-first-100-days.html
بل إن تناقصاته في تصريحاته وتغريداته وتخليه عما يقوله بسهولة محل تندر وسخرية في أمريكا بشكل كبير، وفي بعض الأحيان يضطر لتصحيح الموقف من خلال أعضاء حكومته ومن أحدث هذه التصريحات التي عدل عليها-كذبها- وزير دفاعه هو تغريدته بخصوص ضرب المواقع الثقافية في إيران:
https://www.nytimes.com/2020/01/06/us/politics/trump-esper-iran-cultural-sites.html?smid=tw-nytimes&smtyp=cur
6- في حال تجاوز ترامب كل ذلك وتمت كتابة المسودة وعرضت فإنها ستتطلب موافقة مجلس النواب الأمريكي وهذا صعب التحقيق في الظرف الحالي.
ماذا لو تم تجاوز كل ذلك؟ وحدثت العقوبات فعلاً؟ فما مدى خطورتها وتأثيرها على الواقع في العراق؟
لا يمكن التكهن بذلك لعدم وجود مسودة ولأنه لا يمكن الاعتماد على مبالغات ترامب الكلامية، ولكن يمكن القول إن فرض العقوبات لا يمكن أن يكون إلا تدريجياً ولن يكون لها إلا تأثير ضئيل قياساً بالحصار السابق-لاختلاف الظروف ووضع الحكومة والمواطن العراقي- وبالعقوبات على إيران التي تطلب إنجازها سنوات!
وكل ما يقال عن تأثيرها هي مجرد تخمينات ومقارنات ومبالغات وسخرية لا أكثر.
لماذا فعل ذلك ترامب إذن ألا يدرك كل ذلك؟
ترامب مستعد لعمل وقول أي شيء يتصور إنه ينفع انتخابياً ويزيد من حظوظه لدى الناخبين ويظهره بمظهر قائد “أمريكا التي ستعود عظيمة” بحسب شعاره الانتخابي، وهذا يفسر الكثير من تصرفاته التي ومنها حادثه الإجرامي الأخير، إضافة إلى شخصيته النرجسية الواضحة والتي جعلته أكثر رئيس محل جدل في تاريخ أمريكا وأكثرهم كذباً وأكثرهم تخلي عن الأفكار والأشخاص وأكثر خلافات!
من المستفيد من تهويل الأمر؟
قلت في منشور سابق إن الحرب النفسية بدأت، ولأن النتيجة إلى الآن وبلغة أهل الرياضة هي (5 صفر) على الأقل لغير صالح ترامب وفريقه، فالتشييع وتوحيد الموقف في العراق وإيران إلا ما شذ والمواقف الدولية الرافضة لفعل ترامب والوضع الداخلي الأمريكي الرافض وغموض صور الرد المحتملة كل ذلك يعد انتصارات في الحرب النفسية ضد ترامب وفريقه ومؤيديه، فمن الطبيعي توقع لجوءهم بتوجيه أو بدونه للتهويل والكذب وتضخيم المواقف والتهديدات، فانتبهوا ولا تصدقوا كل ما يقال ولا تنقلوا دون تثبت.
أرجو أن اكون قد وفقت في توضيح صورة ما جرى، وأي نص غير واضح أو مصدر لبعض ما قلناه فيمكنكم السؤال عنه في التعليقات، وأرجو ممن يرى صواب هذا الكلام نشره على نطاق واسع بالإشارة لإسمي أو بدونه.