الحشد والدولة بين العقيدة والمخاطر: قراءة أمنية– سياسية في معركة السلاح والوصاية

الحشد والدولة بين العقيدة والمخاطر: قراءة أمنية– سياسية في معركة السلاح والوصاية

في ظل مشهد إقليمي معقّد ومليء بالمؤامرات والنزاعات ، تتصاعد الأصوات المطالبة بـ”حصر السلاح بيد الدولة”، وهي عبارة تبدو لأول وهلة مطلبًا سياديًا مشروعًا، لكنها تخفي في طياتها الكثير من التضليل والسذاجة، إن لم تكن تندرج ضمن أجندات مدفوعة أو مغفّلة… ؛  تُعيد إنتاج مشاريع التصفية والتفكيك التي أُريد للعراق أن يبتلعها منذ الاحتلال الأمريكي وحتى اليوم.

أولى الحقائق التي لا بد من الوقوف عندها هي أن المؤسسة العسكرية العراقية الرسمية، بكل تفرعاتها من جيش وشرطة، بُنيت على يد الاحتلال الأمريكي بعد 2003، وعلى أسس هشة بعيدة عن العقيدة الوطنية، بل خضعت قياداتها وتشكيلاتها لتدخل مباشر من المحتل، سواء في التأسيس أو التوجيه أو التمويل… ؛  فالعقيدة السائدة فيها – شئنا أم أبينا – هي عقيدة الوظيفة: الراتب، الامتياز، والرتبة، لا عقيدة الشهادة أو الدفاع العقائدي أو الوطنية السامية والواجب المقدس ... ؛ لكن هذا لا يعني خلوها من غيارى واحرار .

أما الحشد الشعبي، فقد وُلد في لحظة استثنائية من تاريخ العراق، بفتوى دينية عقائدية استجابت لخطر وجودي تمثل في اجتياح “داعش”، واستند إلى عقيدة الشهادة والفداء والتضحية والشعور العالي بالمسؤولية الوطنية والاخلاقية والانسانية ، ولم ينبثق من مشيئة المحتل ولا من رغبة الدولة، بل من حاجة العراقيين الاصلاء للدفاع عن أنفسهم وبلدهم ومقدساتهم… ؛  هذا الفارق الجوهري في البناء والمصدر… ؛ و هو ما يخلق التوتر السياسي والإعلامي والأمني بين الطرفين احيانا ، رغم أن كلاهما – في نهاية المطاف – من أبناء هذا البلد، وأحدهما يُكمل الآخر، لو صدقت النيات واستقامت الرؤية.

لكنّ المؤامرة لا تتوقف عند حدود السجال الداخلي… ؛  فالمنطقة كلها تعيش مرحلة من إعادة صياغة الخرائط بالقوة : سُوريا جُرِّدت من جيشها الرسمي، فتمددت المجاميع الإرهابية وتسلّط الكيان الصهيوني ، واشتعلت نيران الفوضى في كل زاوية ؛ لبنان اليوم مُهدد بمحاولة شبيهة لتفكيك قوة “حزب الله”، ليُصبح البلد بلا قدرة ردع أمام غارات الكيان وتوغلاته؛ واليمن يُحاصر ويُذبح لأن فيه من لا يزال يحمل السلاح دفاعًا عن نفسه في وجه تحالف غربي–عربي… .

والعراق، بكل أسف، ليس بمنأى عن هذا المخطط … ؛  فهناك إعداد متكامل من جهات دولية وإقليمية لتكرار السيناريو السوري–اللبناني، عبر الضغط السياسي والإعلامي والشعبي، تارةً باسم “السيادة”، وتارة باسم “الدولة”، وتارة أخرى باسم “حصر السلاح”… ؛  لكن أي دولةٍ هذه التي تُطالب باحتكار السلاح؟

هل هناك بالفعل دولة ذات سيادة حقيقية، أم أن العراق لا يزال خاضعًا للقرار الرئاسي الأمريكي رقم 13303 الذي يُجدد سنويًا – وآخرها في 22/5/2025 – ويجعل السيادة العراقية حبرًا على ورق؟

ليس الاحتلال الأمريكي وحده من ينهش السيادة، فهناك الاحتلال التركي في الشمال، والتوغل الأمني والاستخباري لبعض دول الجوار، والاحتلال السياسي من قبل أصحاب القرار المربوطين بعواصم الخارج، فضلًا عن المجاميع الإرهابية المحمية في مناطق كـ”وادي حوران”، والمخيمات التي ترعاها واشنطن في غرب العراق وشماله، إضافة إلى مرتزقة تجمعهم تركيا لخوض مغامرة محتملة في الداخل العراقي في الايام القادمة .

في ظل هذه التهديدات، من العبث – بل من الخيانة – المطالبة بتجريد البلد من آخر ما تبقى من أدوات دفاعه… ؛  نعم، حصر السلاح بيد الدولة هدفٌ سامٍ ومطلوب، لكن فقط حين تكون هناك دولة حقيقية : دولة ذات قرار مستقل، محصنة من الاحتلال والتبعية، وتعيش في بيئة إقليمية غير عدوانية… ؛  أما في الواقع الحالي، فإن كل دعوة لحل الحشد أو نزع سلاحه دون توفير تلك الشروط الموضوعية ، ليست سوى دعوة للانتحار الجماعي والابادة .

ولذلك، يجب الحذر من “الصفحات الصفراء” والنواشيط المأجورين الذين يُسوّقون هذه الدعوات المسمومة تحت شعارات براقة… ؛  فالحرب اليوم ليست حرب دبابات وطائرات فقط، بل حرب إدراك ومعنويات وتشويش على الوعي الجمعي… ؛  ومن أخطر أدوات هذه الحرب، تلك الأصوات التي ترتدي قناع الحرص على الدولة وهي تسعى لهدمها من داخلها.

إن المعركة الحقيقية ليست بين الجيش والحشد، ولا بين الدولة والمقاومة، بل بين من يريد عراقًا سيدًا قويًا حرًا، ومن يريد عراقًا تابعًا منزوع الإرادة والسلاح والكرامة… ؛  والتمييز بينهما اليوم لم يعد خيارًا فكريًا، بل أصبح واجبًا وطنيًا وأمنيًا وأخلاقيًا.

أحدث المقالات

أحدث المقالات