قد يبدو هذا المقال مستفزًا للكثيرين، بل وخطيرًا في توقيته ومضمونه، خاصة حين يصدر من مفكر وسياسي شيعي يعيش في قلب النظام، وما يزال يطالب بإصلاحه من الداخل.
وإني أعلم أن ما سأقوله اليوم سيُحمّل على أكثر من وجه، وقد يستثمره البعض لتأجيج نار الطائفية أو تعزيز انقسامات ما زلنا نحاول تجاوزها منذ عقود. لكنني أكتبه لأن الصمت لم يعد خيارًا، ولأن مواجهة الحقائق المؤلمة هي أول الطريق نحو التغيير.
ورغم موقفي الثابت في رفض المحاصصة، وسعيي المتواصل لتغيير آليات إنتاج السلطة في هذا النظام المعطوب الذي بُني على مبدأ تقسيم العراقيين سياسيا إلى مكونات شيعة سنة كورد ثم أقليات ، فإنني مضطر للحديث من داخل هذا الواقع السياسي المفروض علينا، والمحصن دوليًا من قبل الولايات المتحدة وإيران، لأسباب معقدة ليس هذا مقام تفصيلها.
فلنبدأ من الشمال.
البيشمركة، تلك القوة التي بدأت كـ”ميليشيا كردية مقاومة”، تحوّلت تدريجيًا إلى ذراع عسكرية للحزبين الكرديين الرئيسيين – الديمقراطي والاتحاد الوطني – ثم تحولت إلى مؤسسة رسمية تُموّل من ميزانية الدولة العراقية، وتُصرف رواتبها من أموال الشعب العراقي، لكنها، فعليًا، لا تخضع للدولة الاتحادية إلا شكليًا.
مهمتها الأساسية؟ حماية الكورد، ليس كمكون عراقي، بل ككيان سياسي وجغرافي مستقل في عقيدة الحزبين، وتحديدًا في مناطق النفوذ الخاصة بكل حزب: السليمانية للاتحاد، وأربيل ودهوك للديمقراطي. أما خارج الإقليم، فالمناطق المختلف عليها – التي يسميها الكرد “كردستان الكبرى” – فتصبح ساحة صراع ناعم أو مسلح لفرض النفوذ.
أما الحشد الشعبي، فقد بدأ أيضًا من رحم المقاومة، حينما تشكّل أولًا بجيش المهدي، ثم تشظى إلى فصائل متعددة، تغذت على الدعم الإيراني المباشر بعد 2003، وتحوّلت إلى قوة ضاربة في لحظة انهيار الدولة أمام تنظيم داعش.
وفي خضم هذا التهديد الوجودي، اكتسب الحشد شرعيته الدستورية كقوة رديفة للجيش. لكن الفصائل المنضوية فيه ظلت – في الغالب – تدين بالولاء لقياداتها العقائدية المرتبطة بالمشروع الإيراني، أو تخضع لأوامر سياسية تابعة للسلطة الشيعية الحاكمة. ومع مرور الوقت، أصبح الحشد هو الحامي الأبرز لهذه السلطة، يحميها من خصومها، ويحفظ لها توازنات الردع، تحت شعار “حماية الشيعة”، وفق تصريحات صريحة لقادته.
نأتي الآن إلى السؤال الجوهري: فمن يحمي السنة؟
تاريخيًا، شكّل السنة العمود الفقري للنظام السياسي السابق، وكان لهم جيشهم، وأجهزتهم الأمنية، ودولتهم التي حكموا بها العراق لعقود. وبعد 2003، وُضعوا فجأة في خانة “العدو المحتمل”، وتم تفكيك كل أدوات قوتهم، العسكرية والسياسية والاقتصادية، في ظل حملة اجتثاث قاسية، وبرنامج إعادة تشكيل للدولة أُقصوا منه عمدًا.
وبينما أُجيز للبيشمركة أن تبقى وتتسلح، وللحشد أن يتشكل ويتوسع، كان أي كيان سني مسلح يُصنّف تلقائيًا ضمن “الإرهاب”، سواء كان بقايا بعث، أو فصائل مقاومة، أو حتى تشكيلات عشائرية. وحتى التجربة الوحيدة التي حاولت أن تُنظَّم ضمن حشد رسمي (مثل حشد الدفاع أو الحشد العشائري)، تم تهميشها، أو التحكم بها بمركزية شيعية، فلم تتحول إلى مؤسسة سنية مستقلة وفاعلة.
النتيجة؟ أن السنة، وبخلاف الكورد والشيعة، لا يملكون قوة مسلحة تعبّر عنهم أو تحمي مناطقهم، ولا مؤسسة أمنية خالصة تمثلهم، ولا حتى سلطة محلية تمتلك القرار السياسي أو الأمني الحر.
وهنا تبرز الاحتمالات المخفية، أو ما يمكن تسميته بـ”المعركة المقبلة على ورقة الحماية السنية”.
هل يعود الجيش العراقي ليكون مظلة الحماية الوطنية الوحيدة لكل العراقيين؟ أم سيتحول تدريجياً إلى أداة بيد القوى السياسية الكبرى للسيطرة على المناطق السنية باسم الدستور؟
أم أن المشروع الحقيقي هو تمكين قوى سنية جديدة، شابة وطموحة، بدعم خارجي واضح، لتكون هي “الحامي السياسي” للسنة في المرحلة القادمة؟
حين نسمع عن صعود شخصيات مثل محمد الحلبوسي، وتلميحات متكررة إلى ترشيحه لرئاسة الجمهورية أو حتى رئاسة الوزراء، ونتأمل حراكه داخل بغداد ومناطق الوسط، بدعم واضح من بعض القوى الدولية والإقليمية، ندرك أن هناك من يسعى لإعادة تشكيل البيت السني من بوابة السياسة لا السلاح… ومن بوابة السيطرة على العاصمة لا الموصل والأنبار فقط.
لكن هذا المسار – إن صدقت نواياه – لن يكتمل من دون أداة حماية، سواء كانت دستورية (كالجيش)، أو قانونية (مثل قوى أمن داخلي مستقلة)، أو حتى “حشد سنّي شرعي” بموافقة الدولة والمجتمع الدولي.
إذن، من يحمي السنة؟
أهو الجيش؟ أم الدولة؟ أم مشروع جديد تحت الإعداد؟
أم أننا مقبلون على مرحلة تُفرض فيها الحماية من الخارج، كما حصل للكورد في 1991، وللشيعة بعد 2003؟
هذا هو السؤال الذي لا يجرؤ أحد على طرحه بوضوح، لأن الجواب عنه قد يقلب كل التوازنات التي بني عليها العراق الجديد.
لكننا، إذا أردنا إصلاح الدولة حقًا، فلابد أن نبدأ من هذه الأسئلة الصعبة، ونتوقف عن التجميل… فالدولة التي لا تحمي أبناءها بعدالة، ستُنهكهم بالطائفية، وتُغرقهم بالدم، ثم تبيعهم للناجين من حولها.