الحشد الشعبي وتنوع وتركيبات المليشيات والفصائل المسلحة والسلاح المنفلت والقانون ومن معه ومن يكون ضده والإشكاليات
غالباً ما تقوم الميليشيات المدعومة من إيران في العراق باستهداف وقتل الصحفيين والمتظاهرين، وأصبحت السجون “السرية” التي تديرها هذه الجماعات مصدر قلق للنشطاء وجماعات حقوق الإنسان والأمم المتحدة. وتكره هذه الجماعات أن يُنظر إليها من قبل السكان – الذين يهتمون بشدة بسيادة القانون – كونها تقوم بأعمال إجرامية، لذلك حوّلت هذه الجماعات القطاع القانوني في العراق إلى ساحة معركة.
ليس من المستغرب أن ترتكب الميليشيات العراقية المدعومة من إيران التي تطلق على نفسها اسم “المقاومة الإسلامية” مخالفات قانونية. فالجماعات التابعة لها غالباً ما تقوم باستهداف وقتل الصحفيين والمتظاهرين، وأصبحت السجون “السرية” التي تديرها الميليشيات مصدر قلق للنشطاء وجماعات حقوق الإنسان والأمم المتحدة. كما انخرطت الميليشيات في حملة تم فيها استخدام قذائف وصواريخ استمرت لسنوات واستهدفت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة العاملة في العراق بدعوة من الحكومة العراقية، مما أسفر عن مقتل وإصابة جنود من قوات التحالف ومدنيين محليين. وفي الآونة الأخيرة، لجأت العناصر التابعة للمقاومة إلى قصف شاحنات مدنية يقودها مدنيون عراقيون، لكن يُزعم أنها تحمل الإمدادات والعتاد إلى قواعد التحالف. ولا يقتصر الأمر على العنف فحسب، بل تجني الميليشيات أيضاً دخلاً من مجموعة من المصادر والأنشطة التجارية غير المشروعة، بينما تسمح سيطرتها المتزايدة على عناصر في الحكومة والمؤسسات العراقية باستغلال عائدات نقاط التفتيش ومراقبة الحدود ومشاريع الابتزاز. باختصار، لا تحترم ميليشيات “المقاومة” كثيراً القانون المحلي العراقي، أو الأنظمة التي تحكم القوات المسلحة العراقية وموظفي الحكومة، أو أي قانون دولي.
وهذا الإجرام يجعل هوس الميليشيات [بتطبيق] القانون مفاجئاً إلى حدّ كبير. ومع ذلك، تُخصص الميليشيات المدعومة من إيران – والعديد منها من المنظمات التي صنفتها الولايات المتحدة كإرهابية – الكثير من الوقت والجهود لنشر اهتمامها بالقانون ودورها كمدافعة عنه. يجب على صناع السياسة، الذين يسعون إلى حلول طويلة الأمد للمشاكل التي تطرحها “المقاومة”، فهم شبه الالتزام بالقانون موضع البحث من أجل وضع حدّ لأنشطة هذه الميليشيات ودعم محاولات الحكومة العراقية للوفاء بالتزاماتها الدولية لمنع الانتهاكات من قبل الجهات الفاعلة المرتبطة بالدولة.
لماذا يُعتبر القانون مهماً للمقاوَمة
يشكّل القانون والمسائل القانونية نقاط حوار متكررة للميليشيات العراقية وقادتها وقنواتها الدعائية. وتشمل المواضيع التي غالباً ما تجري مناقشتها مفاهيم مرتبطة بقانون النزاع المسلح – لا سيما فيما يتعلق بشرعية استهداف القوات الأمريكية – والمكانة القانونية للميليشيات نفسها باعتبارها فرعاً رسمياً للقوات المسلحة العراقية من خلال «قوات الحشد الشعبي»، وهي منظمة مظلة للميليشيات العراقية التي تنتمي إليها “المقاومة”. وهناك ثلاثة أسباب تبرر اهتمام الميليشيات الكبير بالقانون.
الحرب القانونية. تنجذب قنوات الميليشيات إلى إمكانيات استخدام المؤسسات القانونية المحلية والدولية لقمع وتشويه سمعة خصومها الأقوى منها عسكرياً. فالحرب القانونية (“استراتيجية استخدام – أو إساءة استخدام – القانون كبديل للوسائل العسكرية التقليدية لتحقيق هدف حربي”) في الشرق الأوسط ليست جديدة، غير أن استخدامها لدعم العمليات الناشطة في العراق هو ظاهرة متنامية. ويعتقد بعض المعلقين المرتبطين بالميليشيات أيضاً أن الولايات المتحدة تسعى إلى شن حرب قانونية ضد “المقاومة”.
السيطرة على الدولة. يتمثل الهدف النهائي للميليشيات في السيطرة على الدولة العراقية من خلال مجموعة من المكاسب الانتخابية وإقامة حوكمة ظل للسيطرة على السكان والموارد العراقية. ويعكس ذلك جهود «حزب الله» في لبنان. ولكن لتحقيق هذا الهدف، تحتاج الميليشيات إلى الشرعية والدعم الشعبيين – ويبدو أن استطلاعات الرأي القليلة المتاحة تشير إلى أن الدعم محدود. وتوفر كثرة المراجع حول الالتزام بالقانون قيمة دعائية، على الرغم من الانفصال عن الواقع.
النظرة إلى الذات. تَعتبر “المقاومة” نفسها على أنها مدافعة عن السيادة العراقية من جهة، ومطبقة للنسخة الإيرانية من “ولاية الفقيه” من جهة أخرى. ويمكن القول إن الدور المركزي الذي لعبته الميليشيات على أرض المعركة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» عامل أساسي لتحديد نظرة “المقاومة” الحديثة لذاتها. وكل ذلك يعني أن الميليشيات سترغب على الأرجح في أن يُنظر إليها كمدافعة عن القانون العراقي أو مُصلحة له وليس كمنتهكة ومدمرة له، على الرغم من الانتهاكات الجسيمة المتكررة.
وتمتد شرعية “المقاومة” إلى ما يتخطى مجرد مواضيع للنقاش، بل أصبحت جزءاً أساسياً من استراتيجية الجماعات لتحقيق أهدافها. ويجري تنظيم مؤتمرات قانونية في العراق للتوعية بشأن مواقف “المقاومة” القانونية وفكرها. وهي اليوم تهدد معارضيها باستمرار بمقاضاتهم قانونياً. وتشكل الحجج القانونية جزءاً متزايداً من عمليات المعلومات والدعاية الخاصة بالميليشيات.
المؤتمرات القانونية للميليشيات
يركز العدد المتزايد من المؤتمرات القانونية التي تنظمها الميليشيات والفروع التابعة لها عموماً على القضايا المتعلقة بمقاومة الولايات المتحدة والتحالف الذي تقوده. وتتعلق الموضوعات الشائعة بعدم شرعية الضربة الجوية الأمريكية في كانون الثاني/يناير 2020 التي أسفرت عن مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني وزعيم الميليشيات العراقية أبو مهدي المهندس. وفي كانون الثاني/يناير 2021، وكجزء من إحياء الذكرى السنوية لذلك الهجوم، استضاف «الحشد الشعبي» عدداً من الندوات القانونية تحت عناوين مثل “انتهاك سيادة العراق” و “اغتيال القادة”، حضرها أساتذة عراقيون في القانون الدولي، وأشرف عليها الطاقم القانوني للميليشيات.
كما تَعْقِد جماعات ميليشياوية اجتماعات منتظمة على منصات التواصل الاجتماعي مثل “تلغرام” تشبه شيئاً ما بين المؤتمر عبر الهاتف والبث الصوتي (“البودكاست”) ، حيث يناقش عدد قليل من المتحدثين البارزين القضايا والاستراتيجيات القانونية، والحرب القانونية، وحركات الشباب، وتقنيات “الحرب الناعمة”، بينما باستطاعة أولئك الذين تم الاتصال بهم التدخل والمشاركة. وتنطوي مثل هذه المؤتمرات والنقاشات على اعتراف متزايد بأهمية القانون والحرب القانونية في تحقيق أهداف الميليشيات. كما تكشف عن حركة مهتمة كثيراً بسلطة القانون العراقي وقيمته الدعائية، والقانون الديني، والقانون الدولي.
في آذار/مارس، أعلنت قناة “صابرين نيوز” الدعائية التابعة للمقاومة عن تشكيل «فريق مُجالد القانوني». وجاء في الإعلان “من منطلق إيماننا ورهاننا على شجاعة وأمانة القضاء العراقي، سيطلق فريق “صابرين نيوز”، بالاشتراك مع مجموعة من المحامين العراقيين المتطوعين، «فريق مُجالد القانوني» “لمقاضاة الجهات الاعلامية والسياسية التي اتهمت «الحشد الشعبي» المقدس وفصائل “المقاومة” [بمجزرة البو دور في محافظة صلاح الدين والتي … ]”. وفي حين أن تشكيل فريق معيّن يشكّل تطور جديد، إلّا أن التهديدات بالتقاضي أصبحت حيلة معيارية. وتمتد هذه التهديدات في بعض الأحيان إلى دعاوى تشهير حقيقية يتم رفعها في المحاكم العراقية.
الحرب القانونية وتفسيرات “المقاومة” لقانون الصراع المسلح
عندما يتعلق الأمر بالقوات الأمريكية في العراق، تستخدم “المقاومة” القانون لتشويه سمعة المهمة الأمريكية بنظر الجماهير العراقية والدولية، بينما تصوّر نفسها على أنها قائمة وفقاً للقانون (بتحريفها أي حقائق تثبت خلاف ذلك).
قانون الاحتلال. تدّعي “المقاومة” أن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة هو احتلال. وبصورة موسّعة، تجادل الميليشيات أنه بإمكان استهداف الولايات المتحدة بموجب القانون العراقي والدولي. على سبيل المثال، غالباً ما يلقي قيس الخزعلي (زعيم ميليشيا بارز، صُنَّف على لائحة الإرهاب من قبل وزارة الخزانة الأمريكية بتهمة “التورط في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان”) خطابات يذكر فيها أن “جميع الشرائع السماوية وقوانين الأمم المتحدة تجيز لأي شعب من الشعوب إذا تعرض لاحتلال أن يحمل السلاح ويقاوم المحتل”. وتمزج مثل هذه التصريحات بين عناصر من قانون النزاعات المسلحة، مثل انتفاضة جماهيرية، وبين مفاهيم النضال من أجل تقرير المصير وقانون الحرب. ولتعزيز موقفها، غالباً ما تستشهد الميليشيات العراقية بعملية التصويت في “مجلس النواب” العراقي في 5 كانون الثاني/يناير 2020، حين أيّد النواب الشيعة طرد القوات الأمريكية من البلاد (على الرغم من أن الميليشيات اعترضت حتى قبل ذلك التصويت على الوجود الأمريكي في العراق). ولم يكن التصويت ملزماً، نظراً لعدم وجود عدد كافٍ من أعضاء “مجلس النواب”؛ وتواصل [القوات] الأمريكية و [قوات] التحالف العمل على الأراضي العراقية بناءً على دعوة من الحكومة العراقية. ومع ذلك، يبدو أن الاعتقاد بأن التحالف الأمريكي هو “احتلال” يخلق تبريراً شبه رسمي لقانون الحرب في أعين الميليشيات لاستهداف القوات الأمريكية. وتعرّف “المادة 42” من “لائحة لاهاي” لعام 1907 الاحتلال على النحو التالي: “تُعتبر أرض الدولة محتلة حين تكون تحت السلطة الفعلية لجيش العدو ولا يشمل الاحتلال سوى الأراضي التي يمكن أن تمارس فيها هذه السلطة بعد قيامها”. إن الولايات المتحدة ليست جيشاً معادياً (كونها ضيفاً للسلطة السيادية في العراق)، ولا تمارس أي سلطة على الأراضي العراقية؛ لكن هذه الحقائق لا تمنع “المقاومة” من استخدام القانون الدولي الإنساني لتبرير الهجمات. وبالنسبة للميليشيات – إذا تم أخذ بياناتها في ظاهرها – فإن الولايات المتحدة هي قوة أجنبية معادية تحتل العراق في انتهاك للسيادة العراقية. وإذا كان هذا صحيحاً، فقد يعزز اعتقاد الميليشيات بأن لديها الحق في استهداف الولايات المتحدة بموجب نظرية الدفاع عن النفس (رداً على استخدام الولايات المتحدة المزعوم للقوة ضد وحدة أراضي العراق). ولكن لتجنب الشك، فإن الولايات المتحدة ليست قوة احتلال في العراق في الوقت الحالي.
مبدأ التمييز والسفارة الأمريكية. إن نقطة الخلاف الرئيسية في صفوف “المقاومة” هي ما إذا كان بالإمكان استهداف السفارة الأمريكية في بغداد قانونياً أم لا. وقد زعمت بعض الميليشيات – وخاصة «كتائب حزب الله» – علناً أنها لا ترى أنه بإمكانها استهداف السفارة كهدف غير عسكري. ولكن جماعات أخرى لها رأي مختلف: فبعض الجماعات، بما فيها «عصائب أهل الحق» ووكلائها، تشير إلى الموقع بـ “قاعدة التوحيد الثالثة”، وذكرت أن السفارة هي قاعدة عسكرية، تؤدي مهمة عسكرية، وبالتالي يمكن مهاجمتها. وقد استهدفت الميليشيات السفارة الأمريكية في مناسبات مختلفة خلال العام الماضي، على الرغم من أن جماعات “واجهة” تعمل كوكيلة للميليشيات الرئيسية (أو في الواقع مجرد جبهات ظاهرية وفرعية) تبنت هذه الهجمات أو لم تتبنَاها. وبغض النظر عن مرتكب الجريمة الحقيقي، فإن كل هجوم أطلق موجة من الانتقادات من «كتائب حزب الله»، أعقبتها انتقادات مضادة من الميليشيات الأخرى. إن أسلوب إعادة تحديد الأهداف التي يمكن القول إنها مدنية تحت أسماء عسكرية يتم النظر إليه أيضاً في تعامل الميليشيات مع الهجمات على مطار بغداد، والذي يشار إليه عادةً باسم “قاعدة فكتوري”. وسقطت صواريخ استهدفت المطار على مباني ومحطات مدنية. وتوحي الرغبة الواضحة في تعريف الأهداف ذات المهام المدنية كأهداف عسكرية بإدراك مبدأ التمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية الذي ينص عليه قانون النزاع المسلح على النحو المنصوص عليه في “المادتين 48 و52 (2)” من “الملحق (البروتوكول) الإضافي الأول” لـ “اتفاقيات جنيف” (التي وقّع عليها العراق) وينعكس في القانون الدولي العرفي. وربما تأخذ الميليشيات في الحسبان أم لا اللغة القانونية الدقيقة للمعاهدات، لكنها تعلم على الأرجح أن انتهاك هذا المبدأ الأساسي علناً قد يفقدها الدعم الشعبي.
عدم تحمل مسؤولية الإصابات في صفوف المدنيين. تحرص الميليشيات على تسليط الضوء على إخفاقات الولايات المتحدة في ممارسة مبدأ التمييز في استهدافها العسكري، مشيرةً إلى حالات سقوط ضحايا وإصابات في صفوف المدنيين نتيجة عملياتها العسكرية. لكن خلال العام الماضي، كانت غالبية هذه الإصابات ناجمة في الواقع عن صواريخ الميليشيات وعبواتها الناسفة. ففي تموز/يوليو، سقط صاروخ على منزل في بغداد، مما أدى إلى إصابة طفل. ثم في 28 أيلول/سبتمبر، أدى صاروخ استهدف القوات الأمريكية في مطار بغداد إلى مقتل سيدتين وخمسة أطفال في منزل مجاور. وفي 17 تشرين الثاني/ نوفمبر، قتل طفل وأصيب خمسة مدنيين بصواريخ استهدفت السفارة الأمريكية. وأثناء هجوم الميليشيات على القاعدة الأمريكية في أربيل في شباط/ فبراير، أخطأت جميع الصواريخ الـ 14 أهدافها بدرجة كبيرة، باستثناء صاروخين، وسقطت على مناطق مدنية في المدينة وقتلت مدنياً واحداً. وفي كل حالة – وغيرها – سارعت القنوات الدعائية إلى نسب الإصابات إلى الإجراءات الدفاعية الأمريكية على غرار الأنظمة المضادة للصواريخ والمدفعية والهاون. وفي الوقت الذي تتفاخر فيه الميليشيات وشبكاتها الدعائية عموماً بالهجمات الصاروخية، إلّا أن أي جهة لا تتبنى أحياناً العدد الكبير من هذه الهجمات التي تتسبب بوقوع إصابات مدنية أو يتم إنكارها باعتبار أنها “نُسبت إليها بشكل مضلل”. وعند أخذها مجتمعة، فإن ذلك يكشف عن وجود توتر معقد في استراتيجية الميليشيات: فمن ناحية، تشعر بالحاجة إلى مواصلة الضغط على الولايات المتحدة، إلّا أنها تخشى في الوقت نفسه رد الفعل الشعبي العنيف الذي ينتج عن قتل المدنيين.
وهذه فقط بعض الأمثلة التي تكشف فيها أقوال “المقاومة” وأفعالها عن علاقة معقّدة مع القانون. فمن جهة، تسعى الميليشيات إلى استخدام القانون الدولي (والمحلي) كأداة لتمكين الهجمات وتبريرها وكسلاح لتشويه سمعة القوات الأمريكية وتقييدها. لكن المجتمع العراقي المنسجم مع القانون وسعي “المقاومة” للحصول على المصداقية الشعبية يخلقان توتراً مثيراً للاهتمام. وفي حين أن الميليشيات ليست مقيدة بالكامل بقانون النزاعات المسلحة، إلّا أنها ليست حرة تماماً في التصرف أيضاً. فوقوع الكثير من الانتهاكات أو سقوط عدد كبير جداً من الضحايا المدنيين يخاطران بفقدان المزيد من الدعم (أو على الأقل التسامح)، مما يقلل من فرصة تحقيق الهدف طويل الأجل المتمثل في الاستيلاء على الدولة.
قانون «الحشد الشعبي» ومكانة “المقاومة” في المجتمع العراقي
قبل سنوات قليلة، كانت الميليشيات مثل «كتائب حزب الله» و «عصائب أهل الحق» غير قانونية بموجب “المادة 9 (1) (ب)” من الدستور العراقي. إلّا أن ذلك تغير منذ ما يقرب من خمس سنوات، عندما تم دمج العديد من الميليشيات الشيعية في العراق – بما فيها “المقاومة” المدعومة من إيران – بشكل قانوني في قوات الأمن العراقية من خلال “قانون «قوات الحشد الشعبي» رقم 40 لعام 2016”. و«قوات الحشد الشعبي» هي منظمة جامعة للعديد من الميليشيات، وجميعها تابعة اسمياً لسلسلة القيادة الحكومية العراقية. وتمنح العضوية شرعية قانونية وسياسية لميليشيات “المقاومة”، وقد ساعدت هذه الشرعية الميليشيات على اكتساب نفوذ سياسي واجتماعي أكبر من أي وقت مضى في السنوات الأخيرة. وللميليشيات أعضاء في “مجلس النواب”، حيث خاضت انتخابات عام 2018 بنجاح كبير، بينما يشغل قادة الميليشيات والمنتسبون إليها مناصب عليا في الوزارات. وحاول رؤساء الوزراء المتعاقبون وضع «قوات الحشد الشعبي» تحت سلسلة القيادة. لكن حتى تاريخ كتابة هذا البحث، ما زالت الميليشيات قوية كما كانت في أي وقت مضى.
وتفتخر الميليشيات المدعومة من إيران بشكل خاص بمكانتها القانونية الرسمية، وتحرص للغاية على الحفاظ على الوضع القانوني لـ «قوات الحشد الشعبي». وفي الوقت الحاضر، يبدو أن “المقاومة” تعتبر نفسها عنصراً قانونياً في الدولة العراقية من الناحيتين “الهجومية” و”الدفاعية”.
استخدام الدولة العراقية كدرع دفاعي. تدرك “المقاومة” أن مكانتها كعنصر في الدولة العراقية تُعقِّد الجهود لمواجهتها. فمن خلال الادعاء بأن الهجمات على ميليشياتها هي هجمات على الدولة العراقية، تسعى “المقاومة” إلى تقييد الولايات المتحدة مع بناء تعاطف شعبي. على سبيل المثال، في أعقاب الضربات الأمريكية، سلطت تصريحات “المقاومة” وحملاتها الدعائية الضوء على دور الميليشيات المستهدفة ضمن جهاز الأمن العراقي (ويجدر بالذكر أن إيران فعلت الشيء نفسه، ففي رسالتها مؤخراً إلى “مجلس الأمن الدولي” أشارت إلى الضربة الأمريكية “ضد القوات العراقية”). وفي أعقاب الضربة الجوية الأمريكية على مواقع «كتائب حزب الله» في سوريا في 25 شباط/فبراير (والتي جاءت رداً على هجوم الميليشيات على أربيل في 15 شباط/فبراير)، اعتادت القنوات الدعائية لـ “المقاومة” الإشارة إلى القتلى والجرحى بأنهم ينتمون إلى “اللواء 46” في «قوات الحشد الشعبي». وصحيح أن عناصر «كتائب حزب الله» تنفذ عمليات ضمن “الألوية 45 و 46 و 47” من «قوات الحشد الشعبي»، إلا أن الحكومة العراقية لم تأمر «قوات الحشد الشعبي» بالعمل خارج الحدود في سوريا أو تُصرّح لها بالقيام بذلك. بدورها، نشرت «هيئة الحشد الشعبي»، التي هي الهيئة الحاكمة لـ «قوات الحشد الشعبي»، بياناً أدانت فيه الولايات المتحدة بعبارات قانونية جاء فيه: “قبل أيام تعرضت قواتنا لاعتداء آثم من قبل القوات الأمريكية أسفر عن استشهاد أحد مقاتلينا… نعلن رسمياً أن قواتنا كانت ضمن خط الدفاع العراقي، و[نؤكد] أن هذا الاعتداء يُنبّئ بتطورات مستقبلية خطيرة يجب منع حدوثها. على السلطات المختصة وأولئك المعنيين القيام بواجبهم تجاه أبناء «الحشد الشعبي» الذين قدموا التضحيات ويواصلون تقديمها من أجل أمن العراق”. (وتتعارض مزاعم «هيئة الحشد الشعبي» بأن القوات التي استهدفتها الولايات المتحدة كانت “ضمن خط الدفاع العراقي” مع خطاب أرسلته سوريا إلى “مجلس الأمن الدولي” تدين فيه الضربة الأمريكية لوقوعها داخل سوريا). يذكر أن “المقاومة” المدعومة من إيران تهيمن على «قوات الحشد الشعبي» وتخضع لسيطرة أبو فدك، نائب رئيس هيئة أركان «قوات الحشد الشعبي» ومسؤول الاستخبارات السابق في «كتائب حزب الله». وتُستخدم خطابات مماثلة (مدعومة من تهديدات وأعمال عنف فعلية) كلّما حاولت الحكومة العراقية إصلاح «قوات الحشد الشعبي» أو اعتقال أفراد من ميليشيات فردية. لذا، ففي حين أن موقف “المقاومة” بأن وحداتها هي عناصر تابعة للدولة يوفر حرية التصرف والحماية للميليشيات، إلّا أنه يقيّد في الوقت نفسه ويحد من خصوم هذه الجماعات.
الوضع القانوني لـ “المقاومة” كأداة للسيطرة على الدولة. على غرار «حزب الله» اللبناني، يتمثل الهدف النهائي العملي لـ “المقاومة” العراقية في السيطرة على الدولة العراقية. وتسعى مختلف الجماعات والفروع التابعة لها إلى تحقيق ذلك بعدة طرق: بعضها يسعى إلى تحقيق مكاسب انتخابية (في انتهاك للحظر الدستوري العراقي على ترشح أفراد القوات المسلحة لمناصب منتخبة). وبعضها الآخر توغل إلى داخل الدوائر والوكالات الحكومية (حيث تمكنت «كتائب حزب الله»، على سبيل المثال، من السيطرة على هيئة الطيران المدني في العراق وعلى مناولة الأمتعة في مطار بغداد). وفي المقابل، أنشأت جماعات أخرى حركات شبابية وشرطة آداب شبه عسكرية تستهدف الشركات والأشخاص الذين تعتبرهم مسيئين. وبالتالي، فإن الحفاظ على الدور القانوني والسياسي المتنامي لـ «قوات الحشد الشعبي» هو جزء أساسي من عمل “المقاومة”. وفي حين لا تحظى الميليشيات الفردية بشعبية (حتى أن احتجاجات الشباب الشيعي كانت موجهة ضد الميليشيات)، إلا أن «قوات الحشد الشعبي» الأوسع نطاقاً تحظى باحترام للدور الذي لعبه مقاتلوها في هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية». فالشرعية والمكانة اللتان منحهما القانون لـ «قوات الحشد الشعبي» في عام 2016 ساهمتا في نزع صفة الجماعات الإجرامية المنظمة عن الميليشيات وسمحت لها بالإدّعاء بأنها جزء محترم من الدولة.
وليس من المفاجئ أن تحارب الميليشيات بضراوة للحفاظ على المكانة المنصوص عليها في قانون عام 2016. فالقادة يخشون محاولات المسؤولين الحكوميين – ولا سيما رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي – الرامية إما إلى حل «قوات الحشد الشعبي» أو على الأقل إصلاحها من أجل ضمان سيطرة سلسلة القيادة الرسمية على وحداتها الفرعية. (وبالفعل، إن الحكومة العراقية مُلزمة في الواقع بالقيام بذلك بموجب قانون مسؤولية الدولة). وتهدد الميليشيات باستعمال العنف ضد رجال السياسة الذين يحاولون إصلاح «قوات الحشد الشعبي». وقوبلت محاولات سلطات إنفاذ القانون لاعتقال عناصر الميليشيات المرتبطين بالهجمات الصاروخية أو الهجمات على المتظاهرين، باستعراض للقوة وشن حملات ضغط كبيرة كان هدفها إرغام الحكومة على إطلاق سراح المشتبه بهم، أو تسليمهم إلى “عهدة” «قوات الحشد الشعبي». وتضمن هذه الجهود لمنع الإصلاح التنظيمي أو المساءلة الفردية، بقاء القوانين والمحاكم والمؤسسات العراقية غير قادرة على السيطرة على الميليشيات.
الأهمية لصناع السياسة: مساءلة الميليشيات
على صناع السياسة فهم المواقف والتفسيرات القانونية لـ “المقاومة”. فبالنسبة للميليشيات، تُعتبر بيئة القانون والمعلومات ساحات معارك يجب السيطرة عليها، في إطار مهمتها لطرد المحتلين المتصورين وسط إحكامها القبضة على المؤسسات العراقية وإقامة نظام تهيمن عليه إيران. ولا يمكن للقادة العراقيين وشركائهم الدوليين السماح للميليشيات باحتلال المجال القانوني من دون مقاومة.
كشف خداع الميليشيات. تدّعي الميليشيات أنها تعمل في إطار القانون العراقي والدولي، وفي الدفاع عن السيادة العراقية. لكن هذا الادعاء غير صحيح وفقاً لأغلب المقاييس. يجب الطعن على نحو منتظم وعلني في السرديات القانونية لـ “المقاومة”. كما يجب تصنيف منتهكي الحقوق الفظيعة ومعاقبتهم من قبل الحكومات الشريكة بموجب تشريعات مثل “قانون ماغنتسكي العالمي” التي سنته الولايات المتحدة و”لوائح عقوبات حقوق الإنسان العالمية” في المملكة المتحدة. وحيثما أمكن، يمكن رفع دعاوى قانونية في المحاكم العراقية ضد قادة الميليشيات. ومن شأن هذه الإجراءات على أقل تقدير أن تجعل من الصعب على الميليشيات تقديم نفسها بشكل خاطئ على أنها قائمة بموجب القانون، وربما تقلل من فرص نجاحها الانتخابي في المستقبل.
إسناد مسؤولية الهجمات والانتهاكات [إلى الميليشيات] علناً. الميليشيات تكره الأدلة. فهي على يقين بأن تحميلها مسؤولية أفعالها علناً يضر بأهدافها. وهذا هو سبب قيام عناصرها بقتل الصحفيين والباحثين الذين يفضحون انتهاكاتهم، ويعملون بشكل متزايد على إخفاء الهجمات على التحالف خلف وكلاء ومجموعات “الواجهة”. على الحكومة العراقية وشركائها على السواء تمويل الصحافة الاستقصائية التي تركز على انتهاكات حقوق الإنسان والقانون. وإذ يقر صناع السياسة بأن العمل الصحفي الذي يغطي أخبار “المقاومة” محفوف بالمخاطر، فقد ينظرون في توفير تدريب للصحفيين المعرضين للمخاطر حول كيفية التصرف في بيئات عدائية.
فرض (وإنفاذ) العقوبات ضد منتهكي حرية التعبير. على العراق إصدار قوانين لحماية الصحفيين وفرض عقوبات على منتهكي الحق في حرية التعبير. يجب تكريس تمويل دولي ودعم استقصائي لمساعدة السلطات على تعقب المخالفين.
إنفاذ القوانين العسكرية العراقية. توفر القوانين العراقية بالفعل إطار عمل لمحاسبة الميليشيات. وعلى وجه الخصوص، لا يمكن السماح للميليشيات بالتمتع بالحماية التي توفرها قوات الأمن العراقية، دون الخضوع أيضاً للقوانين الملزمة لتلك التنظيمات. ويوفر “قانون العقوبات العسكرية” لعام 2007″ لائحة شاملة بالجرائم والعقوبات التي تسري على منتسبي القوات المسلحة العراقية المستمرين بالخدمة. وتنص “المادة 28 (1)” على معاقبة أولئك الذين يسعون إلى سلخ جزء من العراق عن إدارة الحكومة أو لوضع العراق أو جزء منه تحت سيطرة حكومة أجنبية. وتعاقب “المادة 29 (8)” من يفشل في أداء واجباته، أو يتصرف بدون سلطة، أو يتصرف لعرقلة الحكومة – وهي التصنيفات التي يمكن أن تنطبق على قتل أو نية قتل فرد من الجيش، أو عسكري متحالف، أو مدني. وتنص “المادة 5” على أن “الجرائم المرتكبة ضد القوات التابعة لجيش دولة حليفة أثناء قيام هذه القوات بعمليات عسكرية مشتركة تُعتبر جريمة ضد القوات العراقية عندما يكون هذا البلد قد أبرم اتفاقية متبادلة مع جمهورية العراق”. وفي حالة انتهاك القانون، يجب على كل من الحكومة العراقية والدول الشريكة، الإعلان على الأقل، عن عدم شرعية الخطوة المتخذة ويجب، من الناحية المثالية، العمل على محاسبة الجناة.
الاعتقال – والإدانة. بذل رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي جهوداً لاعتقال مرتكبي الهجمات، لكن في كثير من الأحيان تم الإفراج عن المشتبه بهم بعد أن ضغطت الميليشيات على السلطات. وغالباً ما لا تتسع سلسلة إسناد المسؤولية لتشمل كبار القادة والشخصيات السياسية. وإذا لم تكن هناك مساءلة عن الهجمات فمن غير المرجح أن تتوقف.
تعزيز النظام القضائي العراقي. طالما لا يحظى النظام القضائي العراقي بالحماية والتمويل بصورة كاملة، سيكون من الصعب محاسبة الميليشيات المارقة (التي غالباً ما تعمل بشكل مشابه لمؤسسات الجريمة المنظمة). ويمكن استقاء عِبَر النجاحات والإخفاقات والمزايا والمساوئ من تجارب الولايات المتحدة في إدانة الجماعات الإجرامية المنظمة، أو من تجارب المملكة المتحدة في إدانة الإرهابيين في أيرلندا الشمالية أثناء الاضطرابات. على الدول الشريكة مساعدة جهات إنفاذ القانون وأفراد النظام القضائي في العراق على تطوير أنظمة مماثلة – مخصصة للسياق العراقي.
إن الميليشيات العراقية المدعومة من إيران لا تلتزم بالقانون. ومع ذلك، تبغض “المقاومة” بأن يتم وصفها علناً بأنها تنتهك القانون. فهي تعلم بأن العراقيين يهتمون بسيادة القانون، وقد تبنّوا القانون كساحة معركة. ولكن من أجل احترام سيادة القانون وصونها في العراق على المدى الطويل، يجب منع الميليشيات فعلياً من القدرة على العمل دون مساءلة.
تُعتبر أرض العراق خصبة للفتن والقلاقل، ومؤخرا مليشيات مسلحة تسيطر على مفاصل الدولة مكونة “دولة داخل دولة”.
أحيانًا بعض المليشيات هناك تفتخر بالإرهاب علنًا، ما يؤكد أن العراق يواجه تهديدا متزايدا من المليشيات، التي تفرض سطوتها على الدولة، وبعضها ولائية، تأتمر بأمر الحرس الثوري الإيراني، وللأسف هي متمكنة من الوضع في العراق باستخدام السلاح وليس بقوة الإرادة الشعبية.
هذا ما أظهرته بعض التقارير الأمريكية، التي توضح أن بعض المليشيات سيطرت على إرث “داعش” في العراق.
وحاليا تجري في العراق عملية تشكيل المليشيات المسلّحة بسرعة تُثير قلق المدنيين وأوساط حكومية وبرلمانية عراقية، في وقت تحظى فيه بتأييد من الأحزاب الموالية لإيران.
وقد ارتفع عدد المليشيات المسلّحة في العراق، وفقاً لتقرير استخباري صادر عن ديوان استخبارات وزارة الدفاع العراقية، إلى 53 مليشيا في عموم مناطق جنوب ووسط العراق، فضلاً عن العاصمة.
وفاق عدد المسلحين الـ120 ألف مقاتل، غالبيتهم من الطبقة الفقيرة غير المتعلمة، ومن أعمار تتراوح بين 16 و40 عاماً.
الأشهر الثلاثة الماضية شهدت ولادة مليشيا واحدة كل شهر، وكل المليشيات لديها عامل مشترك واحد، هو الغطاء الديني المتطرف والتمويل، إذ تتلقّى كل مليشيات العراق موازنة من طهران تتراوح بين 100 و500 ألف دولار شهرياً، بحسب عدد أفرادها وثقلها على الأرض وما تحققه، كما أنها تقوم بعميلة تغيير ديمغرافي لصالح إيران، بل إن بعضها نفذ أكثر من 17 عملية تهجير وتطهير طائفي خلال أقل من عام، ما يجعل البعض يرى أن تنظيم داعش والمليشيات في العراق يوجد بينها تسخير ومنافع متبادلة وقت الحاجة، فكلا الطرفين يعي هدف الآخر في مناطق محددة دون سواها، أي إن هذه السياسة الوقتية تطبَّق في بعض المحافظات والمدن بحد ذاتها.
قالت منظمة العفو الدولية إن الميليشيات الشيعة التي تسلحها الحكومة العراقية، وتحظى بدعم منها، قد قامت باختطاف وقتل العشرات من المدنيين السنة، خلال الأشهر الأخيرة، مع إفلاتها التام من العقاب على جرائم الحرب هذه.
ويورد التقرير المعنون “إفلات تام من العقاب: حكم الميليشيات في العراق” تفاصيل مروعة للهجمات الطائفية التي تشنها الميليشيات الشيعة في بغداد وسامراء وكركوك، وهي التي ما انفكت تكتسب المزيد من القوة، وذلك ضمن ما يظهر أنه انتقام من الهجمات التي تشنها الجماعة المسلحة التي تطلق على نفسها اسم “الدولة الإسلامية”. وتم العثور على عشرات الجثث مجهولة الهوية في مختلف مناطق البلاد، وقد قُيدت أيادي اصحابها خلف ظهورهم ما يشير إلى وجود نمط من عمليات قتل على شاكلة الإعدامات الميدانية.
وفي معرض تعليقها على الموضوع، قالت كبيرة مستشاري شؤون موجهة اأزمات بمنظمة العفو الدولية، دوناتيلا روفيرا: “من خلال منح مباركتها للميليشيات التي ترتكب بشكل منتظم انتهاكات مروعة من هذا القبيل، يظهر أن الحكومة العراقية تجيز ارتكاب جرائم الحرب وتؤجج دوامة العنف الطائفي الخطرة التي تعمل على تمزيق أوصال البلاد. ويجب أن تتوقف الحكومة العراقية فورا عن دعم حكم الميليشيات في العراق”.
ولا زال مصير الكثير من الذين اختطفتهم الميليشيات الشيعة قبل أسابيع وأشهر غير معلوم إلى الآن. ولقد قُتل بعض الأسرى حتى بعد قيام عائلاتهم بدفع مبالغ الفدية التي قد تصل إلى حوالي 80.000 دولار وأكثر من أجل الإفراج عنهم.
وتعرض سالم، وهو أحد رجال الأعمال من بغداد، للاختطاف في يوليو/ تموز الماضي. ويبلغ من العمر 40 عاماً ولديه تسعة أطفال. وبعد أسبوعين على قيام عائلته بدفع فدية قوامها 60.000 دولار لخاطفيه، عُثر على جثته في مشرحة بغداد وقد تهشم رأسه و قُيدت يداه.
ولقد ساهم تنامي سطوة الميليشيات الشيعة في تدهور الأوضاع الأمنية عموما وخلْق مناخ من انعدام سيادة القانون. وأخبر أحد أقارب ضحية من كركوك منظمة العفو الدولية بما يلي: ” لقد فقدت ابنا ولا أريد أن أفقد المزيد من ابنائي. فلا شيء يمكن أن يعيده إلى الحياة، ولا أريد تعريض باقي أطفالي للخطر. فالله أعلم بما سوف يحصل بعد ذلك؟ فلا سيادة للقانون هنا، ولا حماية”. “. ويُعتقد أن قائمة الميليشيات الشيعة المسؤولة عن سلسلة عمليات الاختطاف والقتل تتضمن ميليشيا عصائب أهل الحق وفيلق بدر وجيش المهدي وكتائب حزب الله.
ولقد تنامى حجم سطوة هذه الميليشيات وقوتها منذ يونيو/ حزيران الماضي، أي عقب تقهقر الجيش العراقي وتنازله عن ثلث مساحة البلاد تقريبا لمقاتلي الدولة الإسلامية. ويرتدي عناصر الميليشيات الذين يصل تعدادهم إلى عشرات الآلاف أزياء عسكرية، ولكنهم يعملون خارج نطاق أي إطار قانوني، وفي ظل غياب أي شكل من أشكال الرقابة الرسمية عليهم.
وقالت دوناتيلا روفيرا: “من خلال تقاعسها عن محاسبة الميليشيات عما ترتكبه من جرائم حرب وغير ذلك من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فلقد أطلقت السلطات العراقية فعليا العنان لتلك الميليشيات كي توجه عنفها تجاه السنّة وتنكل بهم. ويتعين على الحكومة العراقية الجديدة برئاسة حيدر العِبادي أن تتصرف الآن كي تلجم الميليشيات وترسي قواعد سيادة القانون”.
وأضافت روفيرا القول إن “الميليشيات الشيعة تستهدف بوحشية المدنيين السنّة على أساس طائفي تحت مسمى مكافحة الإرهاب، وذلك في محاولة واضحة لمعاقبة السنّة على ظهور تنظيم الدولة الإسلامية وما يرتكبه من جرائم بشعة”.
فعند إحدى نقاط التفتيش المقامة في بغداد على سبيل المثال، سمع مندوبو منظمة العفو الدولية أحد عناصر ميليشيا عصائب أهل الحق وهو يقول ما يلي: ” إذا أمسكنا بأحد هؤلاء الكلاب (يعني السنة) قادما من تكريت فسوف نقوم بإعدامه. فجميع سكان هذه المنطقة يعملون مع داعش. ويأتون إلى بغداد لارتكاب جرائم إرهابية، ما يُحتم علينا إيقافهم”.
وفي الأثناء، ما انفكت القوات الحكومية العراقية بدورها ترتكب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان. وكشفت منظمة العفو الدولية النقاب عن أدلة تثبت ارتكاب التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة بحق المحتجزين.
بالإضافة إلى حدوث وفيات في الحجز بين السنة المحتجزين وفق أحكام قانون عام 2005 لمكافحة الإرهاب.
وتوفي محامي يبلغ من العمر 33 عاماً في الحجز؛ وظهرت على جثة الرجل الذي خلف وراءه طفلين آثار كدمات وجروح غائرة وحروق تتسق وتعرضه للصعق بالكهرباء. وثمة رجل آخر احتُجز مدة خمسة أشهر تعرض خلالها للتعذيب بالصعق بالكهرباء والتهديد باغتصابه بوساطة عصا قبل أن يُتم إخلاء سبيله دون تهمة لاحقا.
واختتمت دوناتيلا روفيرا تعليقها قائلة: “لقد أظهرت الحكومات العراقية المتعاقبة استخفافها المشين بالمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان. ويتعين على الحكومة الجديدة أن تغير المسار الآن وتنشئ آليات فعالة تكفل التحقيق في الانتهاكات التي ترتكبها الميليشيات الشيعة والقوات العراقية، ومحاسبة المسؤولين عنها”.
تحتاج الميليشيات التي توالدت في العراق بشكل فوضوي وامتلكت فائضا من قوة السلاح وتغلغلت في مفاصل الدولة وتمكّنت من الوصول إلى كثير من مواردها، للبحث بشكل مستمر عن شرعية مفقودة تحاول الحصول عليها من خلال إيجاد مبررّات قانونية وشرعية وأخلاقية لوجودها ودورها، لكنها تقع في تناقضات صارخة عندما تنغمس في أنشطة وأفعال مخالفة تماما للقوانين المحلية والدولية على حدّ سواء.
بغداد – لا تطلق الميليشيات الشيعية العراقية على نفسها تسمية “المقاومة الإسلامية” عبثا بقدر ما تعكس التسمية ذات الشحنة الأخلاقية والدينية رغبة في اكتساب شرعية ليس من السهل الحصول عليها بسبب ممارسات تلك الميليشيات والأسئلة المطروحة بقوّة داخل المجتمع بشأن مبرّر إنشائها ودورها والسند القانوني الذي يجعلها تستحوذ على جزء كبير من اختصاصات الدولة والحلول محلّها في أحيان كثيرة.
ولكنّ تلك الفصائل التي تتجاوز ارتباطاتُها حدود العراق بحدّ ذاته إلى إيران المجاورة تقع في تناقض صارخ عندما تجمع بين حمل السلاح واستخدامه خارج نطاق الدولة وبالطريقة التي تراها مناسبة لها وملائمة للمصلحة الإيرانية، ولا تتوانى في توجيهه صوب جميع من يخالفها الرأي ويناقض مصالحها من العراقيين أنفسهم من محتجّين ونشطاء سياسيين وإعلاميين وغيرهم، وبين التظاهر بالدخول تحت مظلّة القانون ومحاولة إيجاد تفسيرات مطاطة له، بل ادّعاء السهر على حمايته وتطبيقه.
وعندما كانت الحرب ضدّ تنظيم داعش، والتي شهدها العراق بين سنتي 2014 و2017، تتّجه نحو الحسم وكانت قد شاركت فيها الميليشيات بفاعلية ضمن هيكل تأسّس على عجل استنادا إلى فتوى دينية من المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني وأطلقت عليه تسمية الحشد الشعبي، برزت لدى كبار قادة الميليشيات الشيعية وعدد من السياسيين المدافعين عن تلك الميليشيات فكرة ضمّ الحشد إلى القوّات النظامية العراقية وذلك بهدف إيجاد مظلة قانونية له ومنحه شرعية دائمة تتجاوز المهمّة الظرفية التي تأسس لأجلها والمتمثّلة في حرب داعش.
وتمّ لاحقا تنفيذ الفكرة بشكل صوري لم يجعل الميليشيات تتخلّى عن ولائها لقادتها الحقيقيين وتدخل تحت سلطة الدولة وتأتمر بأوامر القيادة العليا لقواتها المسلّحة، بقدر ما استخدمت وضعها الجديد في المزيد من التغوّل وانتهاك قوانين الدولة بحدّ ذاتها ومضاعفة ضغوطها على المجتمع وتوسيع دائرة نشاطها لتشمل الانخراط في حماية النظام عندما استدعى الأمر ذلك وارتفع منسوب الغضب الشعبي من فشله وفساده وتحوّل إلى انتفاضة عارمة في وجهه.
كما أسندت الميليشيات لنفسها مهمّة “مقاومة” الوجود العسكري الأجنبي على الأراضي العراقية، والأميركي تحديدا على اعتبار أنّ الولايات المتّحدة هي العدوّ الأول في نظر إيران المشّغلة الأصلية لتلك الميليشيات.
وبالنظر إلى أنّ تلك القوات مدعوّة رسميا من قبل الدولة العراقية للمساعدة في مواجهة تنظيم داعش وإعادة بناء القوات العراقية التي كادت تنهار أمام زحف التنظيم، فقد اصطدمت الميليشيات التي تقول إنّها جزء من نسيج القوات النظامية بإشكال قانوني جعلها تحوّل جزءا من جهدها نحو إيجاد مسوّغات لتجاوز هذا التناقض والقفز عليه.
من المألوف أن يُرى قادة الميليشيات وهم يناقشون في المنابر الإعلامية مفاهيم مرتبطة بقوانين النزاعات المسلّحة
أصبح من المألوف أن يُرى قادة الميليشيات وأشخاص موالون لهم وهم يناقشون في المنابر الإعلامية العراقية مفاهيم مرتبطة بقوانين النزاع المسلّح. ونشر معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى تحليلا عن “العلاقة المتوترة” بين الميليشيات العراقية والقانون انطلاقا من سؤال: أليست الممارسات التي تأتيها تلك الميليشيات كافية لتجعلها خارجة عن القانون العراقي والدولي.
وجاء في التحليل الذي كتبه ثلاثة من خبراء المعهد هم كريسبين سميث وحمدي مالك ومايكل نايتس أنّه لم يعد من المستغرب أن ترتكب الميليشيات العراقية المدعومة من إيران والتي تطلق على نفسها اسم “المقاومة الإسلامية” مخالفات قانونية ترتقي إلى مستوى جرائم. فالجماعات التابعة لها غالبا ما تقوم باستهداف الصحافيين والمتظاهرين وقتلهم وأصبحت السجون السرية التي تديرها الميليشيات مصدر قلق للنشطاء وجماعات حقوق الإنسان والأمم المتحدة.
كما انخرطت تلك الفصائل الطائفية في حملة تم فيها استخدام قذائف وصواريخ استمرت لسنوات واستهدفت قوات التحالف الدولي العاملة في العراق بقيادة الولايات المتحدة وهي موجودة هناك بناء على دعوة من الحكومة العراقية، ما أسفر عن مقتل جنود من قوات التحالف ومدنيين محليين وإصابتهم. وفي الآونة الأخيرة، لجأت العناصر التابعة للميليشيات إلى قصف شاحنات مدنية يقودها مدنيون عراقيون، لكن يُزعم أنها تحمل الإمدادات والعتاد إلى قواعد التحالف.
ولا يقتصر الأمر على العنف فحسب بل تجني الميليشيات أيضا دخلا من مجموعة من المصادر والأنشطة التجارية غير المشروعة، بينما تسمح سيطرتها المتزايدة على مؤسسات الدولة العراقية باستغلال عائدات نقاط التفتيش ومراقبة الحدود وعدّة مشاريع تدار خارج نطاق القانون. وهي باختصار لا تحترم القانون العراقي أو الأنظمة التي تحكم القوات المسلحة العراقية وموظفي الحكومة أو أي قانون دولي.
ويضاعف التورط واسع النطاق في الجريمة بمختلف أنواعها هوس الميليشيات بالبحث عن غطاء قانوني، ولذلك تُخصص تلك الفصائل المدعومة من إيران، وبعضها مصنّف من قبل الولايات المتحدة منظّمات إرهابية، الكثير من الوقت والجهود لنشر اهتمامها بالقانون ودورها كمدافعة عنه.
وكثيرا ما يشكّل القانون ومسائله نقاط بحث ونقاش لدى الميليشيات العراقية وقادتها وقنواتها الدعائية. وتشمل المواضيع التي غالبا ما تجري مناقشتها مفاهيم مرتبطة بقانون النزاعات المسلحة لاسيما ما يتعلق بـ”شرعية” استهداف القوات الأميركية، والوضع القانوني للميليشيات نفسها باعتبارها فرعا رسميا من القوات المسلحة العراقية بحكم انتمائها إلى الحشد الشعبي.
ولا يخلو اهتمام الميليشيات بالقانون من وعي وتبصّر إذ تتوقّع تلك الفصائل أن يشنّ عليها خصومها حربا قانونية تنتقص من “شرعية” وجودها ونشاطها، ولذلك تحاول أن تكون هي المبادرة بشن تلك الحرب لتشويه سمعة هؤلاء الخصوم خصوصا إذا كانوا أقوى منها على غرار الولايات المتّحدة على سبيل المثال.
كذلك تحتاج الميليشيات إلى غطاء قانوني لتبرير سيطرتها على الدولة العراقية وإقامتها نوعا من حَوْكَمَة الظل للسيطرة على الموارد البشرية والمادية. وهي تستفيد في ذلك من درس تطبيقي بليغ تستمدّه من ميليشيا حزب الله في لبنان. ولكن لتحقيق هذا الهدف تحتاج الميليشيات إلى الشرعية والدعم الشعبي. ويبدو أنّ المزاج الشعبي السائد يظهر أنّ الدعم محدود، ولذلك يتمّ اللجوء إلى تكثيف الدعاية حول الالتزام بالقانون رغم أن الواقع يظهر عكس ذلك تماما.
وتسوّق الميليشيات لصورتها على أنها مدافعة عن السيادة العراقية من جهة، بينما تتوّجه للمجتمع الشيعي العراقي من خلال عرض نفسها كقائمة على تنفيذ النسخة العراقية من ولاية الفقيه المطبّقة في إيران.
يُعتبر الدور المركزي الذي لعبته الميليشيات على أرض المعركة ضد تنظيم داعش عاملا أساسيا لتحديد الصورة التي تنحتها لنفسها كمدافعة عن القانون العراقي وساهرة على تطبيقه وليست منتهكة له ومدمرة لسيادته، وذلك على الرغم من الانتهاكات الجسيمة التي تمارسها على أرض الواقع بشكل يومي ومتكرّر.
وعلى هذا الأساس يجري تنظيم مؤتمرات قانونية في العراق لـ”التوعية” بالموقف القانوني للميليشيات وشرح “فكرها” في المجال القانوني للجمهور. ورغم سرعة احتكام الميليشيات للسلاح في أبسط المواقف، فإنّ قادة تلك الفصائل لا يتردّدون في تهديد معارضيهم مرارا وتكرارا بتطبيق القانون ضدّهم ومقاضاتهم أمام المحاكم.
ويلحظ تقرير معهد واشنطن تركيز العدد المتزايد من المؤتمرات القانونية التي تنظمها الميليشيات والفروع التابعة على القضايا المتعلقة بـ”مقاومة” الولايات المتحدة والتحالف الذي تقوده. وتتعلق الموضوعات الشائعة بعدم شرعية الضربة الجوية الأميركية في يناير 2020 التي أسفرت عن مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني والقائد الميداني للحشد الشعبي أبومهدي المهندس. وفي يناير 2021 وكجزء من إحياء الذكرى السنوية لذلك الهجوم استضاف الحشد عددا من الندوات القانونية تحت عناوين مثل “انتهاك سيادة العراق” و”اغتيال القادة” أشرف عليها الطاقم القانوني للميليشيات وحضرها أساتذة عراقيون في القانون الدولي.
كما تعقد الميليشيات اجتماعات منتظمة على منصات التواصل الاجتماعي مثل تلغرام يقوم خلالها عدد محدود من المتحدثين البارزين بمناقشة القضايا القانونية في مظهر لمدى أهمية الحرب القانونية في تحقيق أهداف الميليشيات.
وفي مارس الماضي أعلنت قناة صابرين نيوز التابعة لميليشيا حزب الله العراق عن تشكيل فريق “مُجالد القانوني”. وجاء في الإعلان “من منطلق إيماننا ورهاننا على شجاعة القضاء العراقي وأمانته، يطلق فريق صابرين نيوز بالاشتراك مع مجموعة من المحامين العراقيين المتطوعين فريق مُجالد القانوني لمقاضاة الجهات الإعلامية والسياسية التي اتهمت الحشد الشعبي المقدس وفصائل المقاومة بمجزرة البو دور في محافظة صلاح الدين”.
وحدثت المجزرة المذكورة في وقت سابق هذا العام في المنطقة الواقعة قرب تكريت مركز محافظة صلاح الدين شمالي بغداد وراح ضحيّتها ثمانية أشخاص ستة منهم من نفس العائلة. واتهم سكان محلّيون ميليشيات الحشد الموجودة في المنطقة وقالوا إنّ العملية نفّذت في إطار عملية انتقام وترهيب للسكان المطالبين برحيل الحشد عن منطقتهم وإسناد مهمّة تأمينها لقوات الجيش والشرطة.
وبلجوء الميليشيات لاستخدام القانون ضدّ خصومها فإنّ صاحب أيّ صوت ناقد أو معارض للميليشيات أو مشهّر بجرائمها يغدو في ورطة حقيقية، فهو إذا لم يخضع لسطوة سلاحها ويتعرّض لأذاها، فإنّه سيتعرّض لـ”المساءلة” القانونية أمام قضاء لا يسلم من الخضوع للولاءات والتكيّف معها، وفي أقل الحالات يتجنّب القائمون عليه إثارة الميليشيات خوفا من انتقامها الذي جرّبته فئات اجتماعية كثيرة من حقوقيين ونشطاء سياسيين وصحافيين، بل حتى رجال جيش وشرطة.
رداء المقاومة الفضفاض
لعبة مسايرة القوانين شكليا لا تحجب حقيقة أن الميليشيات تتورّط في جرائم أثناء ممارستها ما تسميه مقاومة.
بعيدا عن خصوماتها ضد المجتمع العراقي تشمل الميليشيات الولايات المتحدة الخصم اللّدود لحليفتها إيران بمعركتها القانونية الممهدة لاستهداف مصالحها داخل الأراضي العراقية.
وهنا تحديدا تأتي فاعلية تسمية الميليشيات بـ”المقاومة”، حيث يتمّ بصورة موسّعة الترويج لاستهداف تلك المصالح والأهداف العسكرية والدبلوماسية بموجب القانون العراقي والدولي. وعلى سبيل المثال غالبا ما يلقي قيس الخزعلي الزعيم الميليشياوي البارز والمصُنَّف على لائحة الإرهاب من قبل وزارة الخزانة الأميركية بتهمة التورط في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان خطابات يذكّر فيها بأن “جميع الشرائع السماوية وقوانين الأمم المتحدة تجيز لأيّ شعب من الشعوب إذا تعرض لاحتلال أن يحمل السلاح ويقاوم المحتل”.
وتمزج مثل هذه التصريحات بين عناصر من قانون النزاعات المسلحة وبين مفاهيم النضال من أجل تقرير المصير وقانون الحرب. ولتعزيز موقفها غالبا ما تستشهد الميليشيات العراقية بعملية التصويت في مجلس النواب في الخامس من يناير 2020 حين أيّد النواب الشيعة طرد القوات الأميركية من البلاد. لكنّ القرار الذي تمّ التصويت عليه لم يكن ملزما للسلطة التنفيذية.
وتواصل القوات الأميركية وقوات التحالف الدولي ضدّ داعش العمل على الأراضي العراقية بناء على دعوة من الحكومة العراقية. ومع ذلك يساعد نشر الاعتقاد بأن التحالف هو قوة احتلال في خلق مبرر للميليشيات لاستهداف القوات الأميركية.
لكنّ الحرج والحاجة إلى التبرير يكونان أكبر عندما يتعلّق الأمر باستهداف الميليشيات لمقرّ السفارة الأميركية في بغداد. وقد اعترفت بعض الميليشيات علنا بأنه ليس بإمكانها استهداف السفارة، لكن فصائل أخرى لها رأي مختلف إذ ترى عصائب أهل الحق على سبيل المثال أن السفارة هي قاعدة عسكرية تؤدي مهمة عسكرية، وبالتالي يمكن مهاجمتها.
وقد استهدفت الميليشيات السفارة بالفعل في مناسبات مختلفة خلال العام الماضي واستخدمت في ذلك حيلة بسيطة تتمثّل في نسبة الهجمات إلى فصائل غير معروفة من قبل وهي في حقيقتها ليست سوى واجهات للميليشيات الكبيرة تستخدمها للإفلات من المحاسبة وتجنّب الحرج القانوني، إذ لن يكون من السهل تبرير استهداف فصائل تنتمي ولو شكليا للقوات المسلحة التابعة للدولة لمقر دبلوماسي لدولة أخرى.
وينطبق أسلوب تصنيف منشآت مدنية كأهداف عسكرية لتبرير استهدافها من قبل الميليشيات على مطاري بغداد وأربيل فالأول يشار إليه عادة باسم قاعدة فكتوري. وقد سقطت على المطارين صواريخ وقذائف عدّة مرات وطالت مباني مدنية داخلهما وفي محيطهما. ويكشف تعمّد تعريف الأهداف ذات المهام المدنية كأهداف عسكرية إدراكا لمبدأ التمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية الذي ينص عليه قانون النزاع المسلح على النحو المنصوص عليه في المادتين الـ48 والـ52 ثانيا من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف التي وقّع عليها العراق.
وربما لا تأخذ الميليشيات في الحسبان اللغة القانونية الدقيقة للمعاهدات، لكنها تعلم على الأرجح أن انتهاك هذا المبدأ الأساسي علنا قد يضعها في حرج.
غير أنّ لعبة مسايرة القوانين ومحاولة التكيّف معها لا تحجب حقيقة أن الميليشيات تتورّط في جرائم أثناء ممارستها ما تسميه “مقاومة” فصواريخ الميليشيات وعبواتها الناسفة التي تقول إنّها تستهدف بها أهدافا عسكرية مشروعة كثيرا ما توقع قتلى في صفوف المدنيين وتلحق أضرارا بممتلكاتهم. ففي يوليو الماضي سقط صاروخ على منزل في بغداد ما أدى إلى إصابة طفل.
وفي سبتمبر أدى صاروخ استهدف القوات الأميركية في مطار بغداد إلى مقتل امرأتين وخمسة أطفال في منزل مجاور. وفي نوفمبر قتل طفل وأصيب خمسة مدنيين بصواريخ استهدفت السفارة الأميركية. وأثناء هجوم الميليشيات على القاعدة الأميركية في أربيل في فبراير الماضي أخطأت جميع الصواريخ الأربع عشرة التي تمّ إطلاقها أهدافها بدرجة كبيرة باستثناء صاروخين، وسقطت على مناطق مدنية في المدينة وقتلت مدنيا واحدا.
وفي كل حالة من هذه الحالات سارعت القنوات الدعائية للميليشيات إلى نسبة الإصابات إلى الإجراءات الدفاعية الأميركية على غرار الأنظمة المضادة للصواريخ. وفي الوقت الذي تتفاخر فيه الميليشيات وشبكاتها الدعائية عموما بالهجمات الصاروخية، إلّا أن أيّ جهة لا تتبنى أحيانا العدد الكبير من هذه الهجمات التي تتسبب بوقوع إصابات مدنية أو يتم إنكارها باعتبار أنها “نُسبت إليها بشكل مضلل”. وعند أخذها مجتمعة، فإن ذلك يكشف عن وجود توتر معقد في استراتيجية الميليشيات: فمن ناحية، تشعر بالحاجة إلى مواصلة الضغط على الولايات المتحدة، ومن ناحية ثانية هي تخشى في الوقت نفسه رد الفعل الشعبي العنيف الذي ينتج عن قتل المدنيين.