في التاريخ الحديث للعراق، قلما ظهر تشكيل شعبي ترك بصمة بحجم ما فعله، الحشد الشعبي، فحين كان العراق يقف على حافة الانهيار وكانت مدن بأكملها تنهار أمام زحف تنظيم داعش، ولد الحشد من رحم الفتوى، ومن نبض الشارع، ومن وجع الخوف الوطني. لم يكن تنظيما سياسياً، ولا ميليشيا طائفية كما يسوّق البعض، بل كان صرخة وجود دافعت عن الأرض، والعرض، والمقدسات
الحشد… لحظة إنقاذ وطنية
تشكل الحشد الشعبي استجابةً مباشرة لفتوى الجهاد الكفائيالتي أطلقها المرجع الأعلى السيد علي السيستاني آلاف المتطوعين من مختلف محافظات العراق لبوا النداء، وألقوا بأنفسهم في ميادين القتال قبل أن تُعدّ لهم جبهات. كان وقتها الجيش منهارا، والسلاح نادرا، والعدو متوحشا… لكن الإرادة كانت أشد
شارك الحشد في معارك تحرير ديالى، صلاح الدين، الأنبار، والموصل، وقدّم الآلاف من الشهداء. كثير من المقاتلين كانوا من الفقراء، من ذوي الشهداء، من المهمشين الذين شعروا أن حماية الوطن تقع على عاتقهم وليس على حسابات الساسة ولأن التضحيات كانت عظيمة، صادق البرلمان العراقي على قانون ضم الحشد الشعبي إلى المؤسسة الأمنية الرسمية، تحت إشراف القائد العام للقوات المسلحة، مانحا إياه الشرعية القانونية كقوة عسكرية رديفة
الحشد… معادلة دقيقة بين التقدير والمحاسبة
الإنصاف يقتضي أن نفرق بين الحشد كمبدأ وتاريخ، وبين بعض التصرفات الفردية التي لا تعبّر عن روحه الأصلية. فالحشد الشعبي، حين ولد، لم يولد كتنظيم حزبي، بل كدفاع شعبي، وواجب المرحلة اليوم أن يعاد تأطيره بما يحفظ هيبة الدولة، ويضمن عدم استخدامه كورقة نفوذ في الصراعات الداخلية أو الخارجية
الحشد بحاجة إلى إصلاح… لا إلى إلغاء
يجب أن يخضع لهيكل موحد، وقيادة مركزية، وتدقيق إداري ومالي. يجب أن يكون جزءاً من منظومة الجيش لا فوقها أو خارجها. يجب أن يبقى حاميا للعراق، لا مدافعا عن أي فئة أو مشروع خارجي
بين المجد والخطر
الحشد الشعبي كان في لحظة ما ضرورة وجودية أنقذت العراق من الانهيار. لكنه اليوم يقف عند مفترق طرق، الأمر لا يتعلق بإلغاء الحشد، بل بإصلاحه وتوحيده وضبطه تحت مظلة القانون والدستور، حتى يحافظ على تاريخه المقاوم دون أن ينزلق إلى فوضى السلاح أو سطوة النفوذ،رإما أن يتحول بشكل كامل إلى مؤسسة أمنية منضبطة تحت سلطة الدولة، أو يبقى متشظيا بين السياسة والسلاح، ويصبح عبئا على فكرة الدولة المدنية
بين السيف والعلم… تبقى الدولة هي الأصل
الحشد الشعبي، بما له وما عليه، جزء من ذاكرة العراق الجديدة. لا يمكن تجاهل بطولاته، ولا إنكار تضحياته. كل من يعترض على رأيي الإيجابي تجاه الحشد الشعبي، أقول بكل وضوح: الحشد مهم، ووجوده لم يكن عبثا. لقد أثبت تميّزه، ووقف في اللحظة التي غابت فيها مؤسسات كثيرة، ويجب علينا أن نذكر هذا ولا نتهرب منه، فهذه حقيقة يجب ألا تُغفل ولا تُحجب تحت ضغط الأجندات أو المواقف المسبقة .