حينما يتم الحديث عن المليشيات في العراق، لابد وأن يشير ذلك إلى نشوء بعض منها إلى ثمانينيات القرن الماضي، كمنظة “بدر” وغيرها، التي شاركت في القتال إلى جانب القوات الإيرانية ضد الجيش العراقي، خلال حرب الثماني سنوات، كما إن لها مساهمات كثيرة في تعقيد المشهد العراقي بعد الاحتلال الأمريكي، حيث تكاثرت على نحو غير مسبوق، حتى بلغت أكثر من خمسين فصيلاً مسلحاً .لكن هذه المليشيات عادت إلى مسرح الأحداث وبقوة، لتشكل جدلا واسعا على الساحة السياسية العراقية، بعد تعاظم دورها واكتسابها مزيدا من السلاح والقوة، إثر مخطط لا تخلو يد إيران من وضع السيناريو له، خاصة مع تزامن دخول تنظيم داعش إلى الموصل ومناطق أخرى، وإصدار الأوامر للجيش بالانسحاب وعدم المواجهة، من قبل رجل إيران “الأقوى” في العراق رئيس الوزراء السابق “نوري المالكي”، المتهم بتنفيذ هذا المخطط، وبالتالي تسليم أكثر من نصف العراق للتنظيم، منتصف عام 2014، لتصدر على وفق ذلك فتوى “الجهاد الكفائي”، بحجة مقاتلة تنظيم داعش، حيث جمعت تلك الفتوى شبابا غالبيتهم من العاطلين عن العمل والمحتاجين وأصحاب السوابق، تحت هذه العباءة باسم “الحشد الشعبي”، خدمة للمشروع الإيراني في العراق والمنطقة المتمثل بـ”تصدير الثورة”.
ورغم أن الدستور العراقي، يمنع تشكيل أي فصيل ميليشياوي مسلح غير القوات العسكرية النظامية، لكن رئيس الوزراء “حيدر العبادي” قد أضفى الشرعية على هذه المليشيات، بجعلها تنظيماً مرتبطاً به، ما يعني حصولها على الرعاية تمويلاً وتسليحاً، وهذا لم يمنعها من ارتكاب جرائم وممارسات طائفية ضد المدنيين، بحجة مقاتلة تنظيم داعش في المدن التي تم تحريرها.
ومع محاولات شرعنة هذه المليشيا وجعلها قوة نظامية الى جانب القوات العراقية، إلا أنها لم تخفِ ولاءها لإيران، وجاهرت بذلك على لسان عدد من زعمائها بأنهم جزء رئيس من المشروع الإيراني المعني بتصدير “الثورة الإسلامية”، ودلالات هذا الأمر واضحة للعيان، من خلال مساعي العبادي بجعل “الحشد” نموذجاً يفوق جهاز مكافحة الإرهاب، من حيث التنظيم والارتباط، إضافة إلى تشكّله من قيادة وهيئة أركان وتصنيفات عسكرية مقاتلة أخرى. وتزامن ذلك مع حملة تعبوية طائفية من الأحزاب الحاكمة لتضخيم دور هذه المليشيا عبر وسائل الإعلام في المعارك ضد داعش، مقابل إهمال يبدو متعمداً لدور الجيش العراقي .
ولم يأت ذلك من قبيل المصادفة، فزعيم مليشيا “بدر” هادي العامري قال في وقت سابق، إن الحشد الشعبي تمكن من بناء قوة لا تضاهيها قوة في البلاد. وسبقته دعوات إيرانية عديدة على لسان قادتها العسكريين، من بينهم الجنرال “محسن رفيق دوست” مؤسس الحرس الثوري الإيراني، إلى تكرار تجربة الحرس الثوري في العراق، على أن تساهم طهران مباشرة في تسليحه وتدريب عناصره.
ولعل من أولويات إيران في ذلك، أن تجعل “مليشيا الحشد” في المستقبل، قوة قتالية كونها مدربة ومهيئة عقائديا، لتصبح حليفها الأول، عابرا للحدود، وما يؤكد ذلك إصرار “الحشد” على المشاركة في معركة تحرير الموصل، باعتبارها معركة إيران الإستراتيجية في المنطقة، بهدف إتمام ممرها البري الذي يخترق العراق بدءا من ديالى المتاخمة لها، مروراً بالأنبار غرباً والموصل شمالاً، وصولاً إلى سوريا ومن ثم البحر المتوسط، الذي من شأنه أن يوطد أقدام إيران في المنطقة، وأن يعطيها مساحة أوسع للتواجد في أراضٍ عربية جديدة غير المتواجدة فيها أصلاً من جهة، ومحاصرة دول الخليج العربي، من جهة أخرى.