19 ديسمبر، 2024 12:08 ص

الحسين موحّد المسلمين

الحسين موحّد المسلمين

يتعمد تجار الدين من معممين وسياسيين إغفال أن الحسين – كشأن جميع آل بيت النبوة – هو قاسم مشترك بين جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم وتباين رؤاهم , فما من مسلم لا يحمل محبّة جارفة للحسين مستمدة من محبته للنبي محمد ومن السيرة البطولية لهذا الإمام التي جاوز عطرها المحيط الإسلامي ليتضوّع في رحاب الإنسانية وينعكس ذكرى نورانية خلّدها عمالقة الفكر والنضال من أديان وأجناس مختلفة ؛ وأنا واحد ممن يظنون أن الأحداث التاريخية التي وقعت في هذا الشهر قبل ما يزيد عن ألف عام إنما هي  سياسية واجتماعية حملت بالأساس مطالب العدل الإجتماعي وحفظ روح الرسالة المحمدية , بيد أن الطقوس التي التصقت بها بعد قرون على وقوعها والتي تتطور موسماً بعد آخر , والروايات والأساطير التي يجري تداولها حداءً ونوحاً , ما هي إلا قشور فيها الوجد وفيها السقم , فيها الحزن النبيل وفيها التفجع المصطنع , فيها البذل الروحي الصافي وفيها الاتجار والتنفّع ؛ والغريب أنه في عصر التنوير وسيادة العقل فإن جميع المتحلقين حول مشهد الطقوس الحسينية يتعمدون تجاهل مغزى ما جرى في تلك الأيام الحزينة , فالكهنوت المترزق من تلك المأساة يجعل منها أسطورة فداء أشبه برؤية النصارى لقصة المسيح ابن مريم , ويلفق لها تفاصيل تبعدها عن المقبول والمعقول وتخرجها من سياقها الإجتماعي والسياسي والنضالي الذي هو جوهر عظمتها , من جهة ثانية فإن وعاظ السلاطين ومزوّري الفتاوى يرون فيها قصاصاً وعِبرة لكل خارج على السلطان واجب الطاعة حتى وإن أكل أموالنا وجلد ظهورنا على حدّ تعبيرهم !
ولقد كانت موقعة الطفّ – وليس ما قبلها – الثغرة التي اتسعت على طول التاريخ وبفعل الغرض السياسي للتحول إلى صدعٍ باعد بين فريقين رئيسين من المسلمين , وكانت مظاهر الخلاف إلى عهد قريب محتملة وتدور تحت ظلّ الدين الحنيف , لكن ما حدث منذ نهاية القرن الماضي كان مفاجئاً وباعثاً على الحيرة ومدعاة لأسئلة لم تجد بعد جوابها الشافي , فإذا بثقافة التكفير التي ظننا أننا تركناها خلفنا في عصور الظلام تُبعث حيّة من قبرها , وإذا بدعوات الإبادة بين الطائفتين تجد لها أنصاراً وجماهير ووسائل إعلام تغذيها وتؤججها يوماً بعد آخر حتى وصل الحال اليوم أن الفريقين الرئيسين من المسلمين باتا متحرّفان لقتال بعضهم بعضاً مستقوين بأطراف دولية أجنبية متشوقة لرؤية قلب الوطن العربي – العراق وبلاد الشام – مفتتاً طائفيا وغارقاً في بحر من الدم يبتلع أبناء التاريخ والوطن والدين والمصير الواحد .                    
لم يعد من جديد يُقال في ندب الإمام الحسين وصحبه الأبطال ولا في توصيف وقائع معركة الطف , فقد قيل ما فيه الكفاية طيلة ما يزيد عن ألف سنة , وبات ضرورياً وملحّاً في أحوال محتقنة ومنذرة بالشر استبدال دعوة التوحيد وأفكار التنوير بالطقوس المستمدة من ثقافات هندية وايرانية ومسيحية قديمة , عسى أن تنجح هذه الدعوة ببركة شهادة الحسين في جمع المسلمين على كلمة سواء فلا تتحقق مخاوف رسول الله على مصير المسلمين , عندما أبدى خشيته من أن يعودوا من بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض !                                                                                                
من المسلّم به أنه ما من خلاف ذي بال يبرر الحاجز الدامي الذي يكاد يرتفع كالطود بين الطائفتين , فهم جميعا يقرّون جميع الفروع التي عُلمت من الدين كالصلوات المفروضة والزكاة والصيام وزمانه , والحج والكعبة ومكانها , والقبلة واشتراطاتها , وكذلك جميع الأمور الثابتة في القرآن والسنّة لدلالة قطعية , ويقرون بالشهادتين ويؤمنون بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدَر خيره وشره ؛ وصحيح أن هناك خلافاً في تفاصيل فقه بين الطائفتين , لكنه لا يبعد كثيراً عن الخلاف بين فروع المذهب الواحد , فعلى سبيل المثال أخذ القضاء المصري بآراء انفرد بها المذهب الشيعي في بعض المسائل منها جواز الوصية للوارث في حدود الثلث , ومنها وقوع الطلاق طلقة واحدة حتى إذا اقترن بلفظه أو الإشارة إليه عدة طلقات . إن ما يأخذه مذهب على الآخر من خطل في الأحكام وانحراف في التكييف الفقهي سيجد مثيلا له في تراثه , فعلى سبيل المثال أجد نفسي متفقاً مع الذين يرون أن أحكام زواج المتعة متهافتة ولا تصمد أمام جوهر الدين و روح العصر , لكن أحكام هذا الزواج لا تُخرج القائل به عن ربقة الإسلام , فضلا عن أنه يوجد في مذاهب أخرى ما يماثله تخلفاً وعسفاً بكرامة المرأة , من ذلك مثلا أن الإمام الشافعي قد ذهب إلى أنه يحلّ للرجل أن يتزوج ابنته التي جاء بها من سفاح لأن نسبها لم يثبت منه فلا تكون مضافة إليه شرعا ! وعلى سبيل المثال أيضاً نقرأ في كتاب السيوطي ” الإتقان في علوم القرآن ” أن القرآن الكريم هو معاني الآيات فحسب , وأما ألفاظها فمن الرسول محمد , وفي ظني أن قولا كهذا يصل بصاحبه إلى حافة الكفر ؛ بالمقابل نقرأ في كتاب ” الكافي ” للشيخ الكليني قولاُ للإمام الصادق يزعم فيه أن القرآن الذي نزل به الوحي على النبي محمد يزيد سبعمائة وسبعاً وثلاثين آية عن القرآن الذي نتلوه , وأن الباقي مخزون عند آل البيت , علماً أن كتاب ” الكافي ” هو أحد الكتب الأربعة المعتبرة في أصول المذهب الشيعي !                                                         
والشاهد أن تراث المذهبين قد أوغل بالقدم , وجرت كتابته في ظروف لا تتوفر فيها ضمانات الأمانة في النقل وعلى وجه اليقين فإنها غير منزهة عن الغرض , وأنه ليس بوسع أحدهما ادعاء الكمال والتفرد بامتلاك حقيقة الدين , فما هومبرر الصراع بين أتباعهما وخاصة في زمننا هذا ؟ إذا كنا سنحاسب الطوائف بما يفعله عوامهم وسفهاؤهم فإن حسابنا – من باب الإنصاف – يجب أن يكون عسيراً للجميع إذ لا توجد طائفة لا يصدر عن عوامها وسفهائها الكثير مما لا يقرّه الإسلام اللهم إلا إذا مطلوبا تحقيق غرض سياسي  تخطط له وتموّله دول وقوى ذات مصلحة في تأجيج صراع لن يصل لغاية ولن ينتج عنه سوى نشر الخراب في ربوع الأوطان وسفك بحور من دماء المسلمين !                                              
تبقى مسألة أحقية الإمام علي بالخلافة التي يقال – بغير دليل مقنع – أنها المحور التي اختلف حوله المسلمون منذ عهد الخلافة الراشدة , والتي اتخذ منها أصحاب الغرض السياسي منذ صدر الإسلام وحتى يومنا هذا سلّماً للتزعم وسبباً للترزق وقد تفرّع عن تلك المسألة قضية الطعن بصحابة رسول الله وبالذات أبي بكر وعمر , ولست أجد هنا أجد أفضل من الإمام جعفر بن محمد – الصادق – ليتولى المرافعة في هذه القضية ودحض افتراء المغرضين , لقد كان هذا الإمام العلّامة كآبائه يعتبر الطعن في الشيخين مخالفاً للسنّة النبوية , وهو الذي روى عن أبيه الإمام محمد بن علي نقلا عن جده علي بن الحسين بن أبي طالب أن نفراً من أهل العراق قد زاروه وقالوا في أبي بكر وعمر , فلما فرغوا دار بينهم الحوار التالي :           
ــ سألهم الإمام : ألا تخبروني من أنتم ؟ المهاجرون الأولون ؟                                                                   
ـــ قالوا : لا                                                                                                                           
ــ قال الإمام : فأنتم الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم .                                                                         
قالوا : لا                                                                                                                              
قال : أما أنتم فقد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين , أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عزّ وجلّ فيهم : ( والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا , ربنا إنك رؤوف رحيم )  اخرجوا فعل الله بكم !                                                                                                      
وروى جابر الجعفي – وهو شيعي جعفري – أن الإمام محمد بن علي بن الحسين قال وهو يودّعه عائداً إلى العراق : ” أبلغ أهل الكوفة أني بريء ممن تبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأرضاهما ” ثم قال أن من لم يعرف فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقد جهل السنّة .                                                                                      
ثم يروي جابر الجعفي عنه أيضاً أنه قال له : ” يا جابر , بلغني أن قوماً بالعراق يزعمون أنهم يحبوننا ويتناولون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما , ويزعمون إني أمرت بذلك , فأبلغهم إني إلى الله منهم بريء , والذي نفس محمد بيده – يقصد نفسه – لو وليت لتقربت إلى الله بدمائهم !                                                                                          
بل إن الإمام محمد بن علي كان يتأسى بأعمال أبي بكر وعمر , فقد سأله عروة بن عبد الله عن حلية السيوف , فقال :” لا بأس فقد حلّى أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه سيفه . فقال له عروة :” وتقول الصدّيق” ؟ قال فوثب واستقبل القبلة ثم قال :
” نعم الصدّيق , فمن لم يقل له الصدّيق فلا صدّق الله له قولاً في الدنيا والآخرة ” .                                            
……………………………..
……………………………..
لست أجد أفضل من هذا الحديث يُتلى على الناس في ذكرى استشهاد سبط نبيهم , حيث تُستلهم روح الدين كما أكمله الله , وتعمّ نعمة العقل كما أتممها الله ؛ إن الظروف الحرجة التي يمرّ بها العراق و التي تهدد وحدته وكيانه , ويستطيل عليه فيها من لا يتحرج من المجاهرة بمطلب تقسيمه حتى لو كان الثمن بحراً من الدم مستعيناً بالقوة الأميركية وبالدعم الاسرائيلي , تتطلب الارتفاع الواعي إلى استلهام المعنى الباسق لملحمة شهادة الحسين وأهله ورفاقه , تلك الشهادة التي جاءت ثمناً للثبات على المبدأ , ومقايضة نادرة في تاريخ الإنسانية بين الإخلاد للأرض ومباهج دنياها , وبين السمو بالروح ترفعاً عن الذلة والدنايا تطلعاً لارتقاء المعارج للقاء من تطمئن بذكره القلوب .