19 ديسمبر، 2024 12:18 ص

لقد اختار عبيد الله بن زياد عمرَ بن سعد اميراً للجيوش لأنه لم يكن مكشوف النصب والعداء لآل محمد كما في حال شمر بن ذي الجوشن , ولو اختار شمراً من بداية الامر لانسحب البعض من القادة الذين لم يكن لهم مذهب واضح لشكهم في عقيدة شمر , فكان مثل عمر بن سعد هو الأنسب لهذه المهمة بالاستناد الى حسده الباطني لآل الرسول ودنيويته , اذ علم ابن زياد ان قدمي ابن سعد ستجر الى الدماء رويدا . حتى ان ابن سعد بشّر أصحابه في كربلاء وهم يهجمون على الحسين بن علي سيد شباب اهل الجنة بالجنة , وهو تناقض . رغم ان بعض هؤلاء القادة كانوا يعرفون مقام ال محمد لا امامتهم العقائدية كأثر مباشر لتواجدهم في المجتمع السبئي مثل عمرو بن الحجاج الزبيدي .
وقد كانت القبائل حينئذ منقسمة على نفسها بين تابع للدولة وبين من يملك عقيدة , فكان الذين قادتهم الدولة الى الهاوية العقائدية , وكان الذين قادتهم العقيدة هم أصحاب التشيع لاحقا . فنجد مثلاً من قبيلة بني اسد حرملة بن كاهل ضد الحسين وهو الذي قتل رضيع الحسين بالسهم , فيما شيخها حبيب بن مظاهر ووجهها السياسي مسلم بن عوسجة مع الحسين .
ولما كانت جيوش ابن زياد ترتكز الى المادة الخام اسلامياً رأينا بعض جند ابن سعد يثوبون الى الحسين لما رأوا حاله واصحابه ليلة الطف . وهذه القبائل التي مع ابن سعد بانقسامها فكرياً وكونها على عقيدة الدولة كانت معركتها مع الحسين ضرورية لتعي من هم اهل البيت ومن هم خصومهم . لا سيما ان الحسين لم يترك منزلاً من المدينة حتى نينوى كربلاء الا خطب الناس ووعظهم إحياءً لأمر الله والتشيع وهي رسالته الحقيقية حينها .
وقد شهد مسلم بن عوسجة الرجل الإسلامي المعروف بأن شمر بن ذي الجوشن فاسق من عظماء الجبارين وان الله امكن منه , الا ان الحسين منعه من رمي شمر بالسهم لأنه كره ان يبدأهم بقتال , مما يكشف وضوح ان هؤلاء القوم لم يكونوا شيعة . وهذا ما كشفته مقالات قادة وجند جيش عمر بن سعد تجاه الحسين , والتي تجلت عن حقد وجهل كبير بمقامه العقائدي , ابتداءً من مقالة شمر التي تبشر سيد شباب اهل الجنة بالنار مروراً بمقالات جاهلة من مجموعة من الجنود ثم انتهاءً بقتلهم الحسين والتمثيل بجسده , ولو كانت فيهم بقايا ذرة من تشيع او انهم جاءوا خوفاً او طمعاً فحسب لقتلوه صمتاً خجلين . بل ان شمر بن ذي الجوشن لم يكن يفهم المعنى الديني والعقائدي لكلمات الحسين يوم كربلاء قبل المعركة وكان يعيش الاستفهام عما يقول الحسين حينها , وكان الحسين ينتقل الى بيان البعد النسبي لا العقائدي له ولأهل بيته افهاماً لمثله .
لهذا كانت خطب الحسين بن علي يوم كربلاء بثّاً للتشيع ومقدمة لعقيدة الامامة . وقد بيّن بوضوح ان هؤلاء الذين أتوا لقتاله هم بقايا من جيش الجمل وشذاذ الفرق الضالة التي حاربها ابوه من قبل تطلب بالثأر او انهم من آكلي الحرام جاءت بهم الدنيا وبعض من اليهود واهل الضلالة من اهل الكتاب , حيث قال ( .. وتداعيتم إليها كتداعي الفراش فسحقا لكم يا عبيد الأمة وشذاذ الأحزاب ونبذة الكتاب ونفثة الشيطان وعصبة الآثام ومحرفي الكتاب ومطفئي السنن وقتلة أولاد الأنبياء ومبيدي عترة الأوصياء وملحقي العهار بالنسب ومؤذي المؤمنين وصراخ أئمة المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين ولبئس ما قدمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون وأنتم ابن حرب وأشياعه تعضدون وعنا تخاذلون أجل والله الخذل فيكم معروف وشجت عليه أصولكم وتازرت عليه فروعكم وثبتت عليه قلوبكم وغشيت صدوركم فكنتم أخبث ثمر شجي للناظر واكلة للغاصب الا لعنة الله على الناكثين الذين ينقضون الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا فأنتم والله هم … ) .
لكنّ الحسين كانت وظيفته في كربلاء ليس الموت وانما بثّ الحياة من جديد , فكان يخطب في معسكر اعدائه لزرع روح الثورة وبيان مفاسد السلطة الحاكمة وانها لا عهد لها ولا شرف , فكان يبذر بذرة الثورة بين تلك القبائل التي جاءت لقتاله من حيث لا تشعر او تشعر . فكانت كلماته تهدف لما هو ابعد من كربلاء , لكنها آتت اكلها حتى في كربلاء ذاتها , فجاءه الحر بن يزيد الرياحي التميمي ويزيد بن مهاصر الكندي تائبين ثائرين ضد معسكرهما وهما من القادة , ويظهر من مقالة الحر لعمر بن سعد انه لم يكن يعي مقام الحسين العقائدي من قبل لكنّه انجذب لمقالة الحق العامة في فمه . وراح بعد كربلاء من خرج ليفوز برأس الحسين مثل مسروق بن وائل الحضرمي يحدّث الناس عن كرامات اهل البيت فيها .
ولا شك ان وجود بعض العقائديين في جيش الحسين كان له الأثر ايضاً في إيجاد زخم معرفي يخترق جيش ابن سعد والنواصب , ومن أولئك برير بن خضير احد وجوه القبيلة ذات العقيدة العلوية همدان . وقد كان هذا السريان العقائدي يتعمق اثناء سير قافلة الحسين كذلك في مناطق كانت بعيدة نسبياً عن الحواضر مثل السماوة اذ كان لهم شهيد في كربلاء هو عبد الله بن عمير الكلبي وزوجته البطلة ام وهب . وكذلك وهب بن حباب الكلبي وامه ذات العقيدة الصلبة .
مع بقاء المناطق الخام الابعد عن الطريق الحسيني جاهلة بمقامه , فهذا ابن حوزة التميمي يرى ان الحسين بن علي مصيره الى النار ! . فيما يزيد بن معقل يباهل برير بن خضير في دلالة انه كان يظن انه على الحق , جهلا . ومع ذلك كانت المباهلة ايضاً دلالة ذهنية لجيش عمر بن سعد لمعرفة الحق .
فيما كان الزعيمان في بني اسد حبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة المدخل العقائدي الأبرز لهذه القبيلة والذي حسم لاحقاً انقسامها ودفع النواصب للخروج منها , اذ انهم كانوا من اهم زعمائها ووجهائها ومقتلهم الى جانب الحسين خلق تساؤلات كثيرة لاشك داخلها افضت الى تنقيتها .
ومن اجلى معاني قول الحصين بن نمير عن صلاة الحسين بن علي واصحابه انها ( لا تقبل ) انه لم يكن يفهم من مقام الحسين الديني شيئا .
وهذا ما جعل الموالي من الانباط وغيرهم منقسمين في كربلاء وفقاً لانقسامات القبائل التي حالفوها , فالمعرفة كانت تخضع للأثر الجغرافي والقبلي كثيرا , البعض مع الحسين والكثير في جيش بني امية وكثير جداً لا خلاق لهم . لهذا نجد ان من يشتم الحسين ويضربه بالسيف على رأسه ويسلب البرنس هو مالك بن النسر الكندي , فيما رفضت زوجه ادخال سلب ابن رسول الله الى بيتها , وهكذا ظلت مثل هذه القبائل – ككندة – التي خضعت لزعامات مترددة بسبب الدنيا او ناصبية وتأثرت بالمحيط المعرفي العراقي بين المد والجزر في قربها من ال الرسول .
وقد صرّح الحسين بوضوح ان من يقاتلونه هم ( شيعة ال ابي سفيان ) لا شيعة ابيه علي بن ابي طالب . ودليل ذلك ان قبيلة موالية لعلي صراحة مثل النخع خرج منها مثل زحر بن بدر الذي قتل أبا بكر بن علي وسنان بن انس الذي ضرب الحسين , الامر الذي يعني ان معركة الطف الكربلائي كانت فاصلة بين حزبين وعقيدتين لا بين نسقين اجتماعيين . وقد كانت القبائل مختلطة متداخلة لا عقيدة متميزة لها حتى ذلك الحين . فنجد في بيت واحد خولي بن يزيد الاصبحي الذي جاء برأس الحسين ليسلمه لأبن زياد , وكذلك زوجته الأولى النوار التي غضبت لان زوجها لم يجيء بالذهب والفضة بل جاء بهذا الذنب , فيما زوجته الثانية العيوف بنت مالك ظلت تعاديه منذ جاء برأس الحسين حتى دلت عليه جند المختار فقتلوه .
ويكفي مقالة هذا الجيش الاموي للحسين بأنه يرد ( الحامية = النار ) بعد مقتله دليلاً على جهلهم بمقام اهل البيت . وسلب الحسين عند شهادته فعلة فوق رضا ابن زياد , وبالتالي هو دليل اخر على الجهل بمقام الحسين ولا يكون الا من الاعراب . فيما كان الموالون لأهل البيت لا يمنعهم المقام من اظهار ولائهم , فهذه امرأة من بكر بن وائل كانت زوجة لاحد افراد جيش عمر بن سعد حملت السيف نصرة لنساء ال بيت الرسول عندما داست الخيل صدر الحسين لتعبر اليهن , فردها زوجها .
ومن توزيع رؤوس أصحاب الحسين على القبائل التي جاءت مع عمر بن سعد نعلم حجمها في ذلك الجيش . فالمنافسة كانت بين هوازن وتميم , على اختلاف الرواية ان احداهما ذهبت بعشرين رأساً والأخرى بسبعة عشر , وهما قبيلتان اعرابيتان . فيما ذهبت كندة بقيادة ال الاشعث بثلاثة عشر رأسا . وذهبت اسد ومذحج – مشتركتين – بنحو ثلاثة عشر رأسا . وباقي الناس بأقل من ثلاثة عشر رأسا .
فيما كان العنوان العام للجيش الذي قاتل الحسين بن علي وحاصره وافجع المسلمين به أوضح في شعر الفضل بن العباس بن عتبة بن ابي لهب حيث عدد القبائل الرئيسة المشاركة في احد ابياته فذكر تميم وبكر والسكون وحمير , وهي قبائل تشترك في جزء كبير من البداوة او انها غير عراقية أصلا .