في العاشر من محرّم عام 61 للهجرة، وقف جيش الإيمان كلّه أمام جيش الكفر والنفاق والظلم كلّه. جيش الإيمان كان قليلا في عدته، نحيلاً في قوامه، معدودا في صفوفه كفتيل نورٍ نحيلٍ وسط ظلام دامس. أما جيش الظلم والنفاق فكان كبير الحجم، سمين العدة، عديد الصفوف متخماً بالسواعد والسلاح والخيول؛ يختلط غبار جلبته بالظلام فيرسم وجه عسكره ومنهم مجتمعين يرسم وجه السلطة التي قادتهم، في مشهدٍ موحشٍ مظلمٍ مغبرٍ، كأنّ الجيشُ المظلم وحشٌ خارجٌ من أصقاع جهنم يعيثُ في الأرض فساداً وخرابا. كانت هذه السلطة الشيطانية، وبجلبة جيشها الدامس، رغم ضخامتهما و وحشيتهما وقوتهما، خائفين من ذلك الوميض النحيل من النور، فخبطاه خبط عشواء بمخالب النفاق والظلم والجحود، يريدان طمسه، لينطفئ إلى الأبد ويكون الظلام في الأرض سرمدا، فيكون إحتفال الظلم والظلام إحتفال الجحيم الأبدي على أنغام إبليس، في عالمنا الدنيوي!
حين بُعث الرسول برسالة الإسلام، وقف الأموييون بكل قوتهم ضد النبي وأتباعه القلائل. فعمدوا كل مكرٍ حازوه، وكل سبيل بصروه، ليطفئوا نوره إطفاء الشيطان نور الله بنفخته. فتدرجوا في القوة من شديد إلى أشد، وخداعٍ إلى أحط منه سبيلا. وما مكروا مكراً إلا وكان عاقبة مكرهم أنهم دُمروا، فلاذوا بالإسلام وهم يتهاوون فيفنون، ليتشبثوا بالبقاء فينظروا مكراً ويدبروا من جديدٍ أمرا. وحين فتح المسلمون مكة، لم يبق أمام كبير الأمويين وقومه سوى أن يدخلوا الإسلام مرغمين أذلاء، بعد أن حاربوه ثلاثة وعشرين سنة بكل ما أوتوا من قوة وعديد وعناد. وما لبث أن اشتدت سواعد الإسلام، وانكفأت ثعابين الشرك، وتوارت ضباع الكفر والظلم نحو جحور الظلام. وحين دخل المسلمون مكة فاتحين مزهوين بالنصر والإباء، وقد طُردوا منها قبل عشرٍ أذلاء، تحت وطأة الضرب والملاحقة وسلب كل ما ملكوا، وفي لحظة فوران الغضب والإنتقام وإلحاح العدالة، إذْ واتتهم الفرصة؛ أصدر النبي عفواً عاماً عن الظالمين المعتدين، الذين أذاقوا المسلمين صنوف الشر وأنواع الظلم وألوان العذاب. كان هذا فريداً في التأريخ كلّه، وسابقة في عالم السياسة والحروب، وخيراً وليداً لم تر عيون الأرض مثله أبدا.
الظلمة والمعتدون الذين عفى النبي عنهم، سمّوا بالطلقاء ومسلمة الفتح. وما مرّ الكثير من الوقت، حتى دبّ هؤلاء الطلقاء بين المسلمين يستجمعون قواهم، ويلملمون غزل نسيجهم المنقوض، ويرممون أوكارهم وجحورهم. وحيث أوصى النبي المسلمين مراراً وتكراراً، وهو يذكرهم على مر السنون والأيام، يضع لهم القواعد ويرسخ البنيان، أصبح مقصده واضحا كالشمس لا يختلف عليه إثنان، أن النبي بوحي من ربه يريد علياً خليفة له من بعده ووصيا على المسلمين، وأنّى لهم أفضل منه علماً و ورعاً وتقوىً وحكمة؟! وإذْ لم يكن للطلقاء دورٌ في المجتمع الجديد، ولم تكن لهم كلمة في تقرير مصائر الدولة والمجتمع، فنسجوا كرّة أخرى في الخفاء مكرهم الجديد القديم، على منوال معاداة النبي وأهل بيته، فعمدوا إلى رجال كان لهم عليهم سطوة ومنّة ومكانة تبجيل في نفوسهم كانت قد نمت من عرى و وشائج القبلية وطبقيتها، منذ أيام الجاهلية حيث كان الأموييون جبّارين غشماء. وفي لحظة حرجة ومؤلمة وحاسمة، آوان وفاة النبي وإنشغال علي وقرابة النبي بتجهيز كفنه، ذهب الناس إلى السقيفة تحت أنظار ومراقبة الطلقاء، ليشكلوا النظام السياسي الجديد الذي لم يُحسب فيه لأهل بين النبوة أدنى حساب، بل وتعرضوا للإجحاف والإقصاء ومصادرة الحقوق، حتى بلغ بالقوم الإستيلاء على أرض ميراثٍ كان النبي تركها لبنته فاطمة وهي أم الحسين الذي كان النبي يشم رأسه ريحانةً يرويها بدموعه، مدركاً أن أمته ستذبحه وتهدر دمه كما أخبره الوحي. وكان المشهد مؤلماً، حيث جلبة الرجال عمدت بيت بنت رسول الله المفجوعة برحيل والدها الأعز الأكرم، وفي يدهم أعواد كالرماح تشتعل رؤوسها ناراً، وهم يطوقون بيت المفجوعة يريدون جرّ بعلها والمعتصمين ببيتها، للإقرار بنظام سياسي صنعوه على عكس ما أمر به النبي! فكانت الكارثة، إذْ سالت المصائب تتوالى، ودوائر الفتنة تتسع كقطع الليل المظلم. و وقعت المصيبة الأعظم فوق رؤوس عترة النبي الذين كساهم أمام الناس برداءٍ ليشرح لهم آية التطهير التي نزلت فيهم خصيصا، قلادةً حول أعناقهم، يُعرفون بها على مر الدهور والأزمان. وعبر سنين، ندم الذين صنعوا النظام السياسي وتمنوا لو أنهم لم يفعلوا، لأنهم رأوا بأم العين كيف تخرج الفتن بقرونها عقابيلَ لمقدمة لم يرسمها الوحي الإلهي.
المصيبة كانت عظيمة فوق رؤوس أهل بيت النبوة، فماتت فاطمة مفجوعة حزينة، لم تتحمل مشهد وفاة والدها وأي والدٍ يأتيه الوحي من السماء، يشير إلى فاطمة ويقول لها: أنتِ بضعة مني فمن آذاك فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله. وبموتها، بُعيد وفاة النبي بشهور قلائل، تركت فاطمة ريحانتي النبي، الحسن والحسين، يتامى وهما طفلان لهما أقل من ثمانية أعوام من العمر! وحيث عاد الطلقاء أقوياء، وهم يتسترون بعباءة الإسلام، وأخذوا مدناً وأمصارا، يهيئون الواقع لتلقف كرة الخلافة بأي ثمن فكان لهم ما أرادوا؛ دبّروا الحرب والإغتيال والموت لعلي وأهل بيته وأصحابه، كما دبرّوا للنبي وأهل بيته وأصحابه في أمس غير بعيد. وحين استتب لهم الأمر والحكم، بدأ الوجه الحقيقي لهم خلف قناع الإسلام الذي لم يقتنعوا به يوما وهم يحاربونه لربع قرن في مكة والمدينة. وتجلّى ذلك في تبديلهم سنّة النبي، وهو أمرٌ أنبأه الرسول إلى المسلمين في حياته، أن رجلاً من بني أمية سيكون أول من يبدل سنته. وتوالى التبديل في الدين، وتعاظم الظلم والجهر بالعصيان والذنوب، وصار الإسلام بعد عزٍ ذليلا غريبا، حتى بكى أنس حزنا وكمداً على تبديل الدين قائلا: لم أعد أعرف شيئا مما كان على عهد النبي غير الصلاة التي أحدثوا فيها ما أحدثوا! وتمت ملاحقة الصالحين الأتقياء، وأبعدوا وعذبوا وقتلوا تقتيلا. وكان على رأسهم أبا ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وإبن مسعود، والحجر بن عدي وآخرون كُثر دفعوا حياتهم ثمناً للتمسك بخط النبي. كان نور النبي ورسالته بعد متقدين يتشعشعان، لكن قطع الليل المظلم، وغيوم الظلم والإنحراف، والتبديل في الدين بالإتكاء على السلطة والقوة قد هيمنّ في سماء الإسلام، وكأنّ الجاهلية عادت فخيمت على الناس، وكأنّ مشركوا أمس المحاربون للنبي ورسالته في طريقهم نحو نصر نهائي.
في ثنايا هذه الظلمات والغيوم والتقهقر، وتحت أثقال الآلام والحيف والإجحاف الذي لحق ببيت النبوة، وإذْ تراكم الخوف والحزن واليأس والإستياء لما فعله الطلقاء وأعوانهم، من ظلم وتبديل وإطلاق للشر وقتلٍ للخير، وحيث قل أنصار الحق وعمّ الخوف والجبن والوهن، إمتطى الحسين نور رسالة جدّه، وخلفه أهل بيته يحملون مشاعل هداية الإسلام، وبضعة أعوان على الحق انضموا إليهم على مضض بعد أن كادوا لا يعرفون أن هذا هو نور الحق، فكان موكب الحسين إلى كربلاء قافلة من نور نبوي يشتعل بنبض الإيمان والعزم على تبديد الظلام وإشراق الحق، لتزول قطع الليل المظلم، فكانت ملحمة عاشوراء الحد الفاصل بين النور والظلمات، كسورٍ ضُرب بينهما باطنه في الرحمة وظاهره من قبله العذاب.
في عاشوراء انقسم العالم الإسلامي، وكان العالم الحي الوحيد في الكرة الأرضية، إلى ثلاثة دوائر. الدائرة الأولى الظلمة وأعوانهم، وكانت الدائرة الأكبر والأعم. ودائرة أصغر بكثير، وهم اليائسون الذين فضلوا الصمت والإنزواء، لأنهم كانوا فقدوا الأمل وأرادوا إقناع الحسين لينضم إلى دائرتهم. وكانت هناك دائرة صغيرة جداً، تكاد لا ترى من شدة صغرها وضعفها الظاهر، في أحشاء إمبراطورية مترامية الأطراف، بعظيم قوتها وأساطيلها وجيوشها وأموالها وعدتها. هذه الدائرة الصغيرة الأصغر هي دائرة الحسين وأهل بيته. فكانت المواجهة الملحمية الكبرى في عاشوراء بأرض كربلاء، بين فئة قليلة من نحو سبعين فتيةٍ آمنوا بربهم وزادهم هدى يقودهم الحسينُ قامة نور وإيمان، وإمبراطورية تمتد من جزيرة العرب إلى آسيا شرقاً وإلى أصقاع أفريقيا وإلى تخوم أوروبا، وكانت أعظم دولة في الأرض قاطبة. في هذه المواجهة التي لم يكن فيها أدنى موازين التكافؤ والتوازن، ولا حتى بصيص أملٍ بتقبل أدنى معقولية للمشهد، انتصر ذلك الفتيل النحيل من النور على الجيش العرمرم من الظلم والظلمات، في بطولة مازالت مستمرة، ونورٍ مازال يشع، ونبض مازال حيّا بينما تلك الإمبراطورية ليست سوى أطلال رماد، ولا حتى رماد!
في عاشوراء، سجل الكون أعظم مفارقة في تأريخ البشرية، حيث جيش كبير من الظلمات يبارز وميض نور نحيل ليطمسه وليطفئه بمخالب الظلم. على أرض المعركة كسب الظلام جولة الضرب، فظن أنه طمس النور إلى الأبد. لكن دم الحسين وأصحابه تناثر في الفضاء، ليشعل السماء نورا وشهباً بدد الظلام الذي غطى أعين الناس، وأظهر الدين من جديد وفق صورته النبوية، بعدما كاد يناله التشويه والإنحراف والتبديل. وبينما بقي النور يشع السماء، بدأ يرسل الشهب على تلك الإمبراطورية حتى أحرقها وحوّلها رماداً، وطغاتها جثثا تلاحقهم اللعنات على مر العصور. أما الحسين فمازال نور هداية يهدي الناس إلى الحق وشهاباً رصداً للطغاة والظالمين، يبدد الظلمات ويرسم الحدود بين الحق والباطل في كل زمان ومكان.
العاشر من محرم عام 1447 للهرة النبوية الشريفة.