كما توقعنا في مقالة سابقة ، فقد تم اعلان وقف اطلاق للنار في فلسطين اعتبارًا من ساعات الصباح الاولى من يوم الجمعة ٢١ / ٥ / ٢٠٢١ ؛ قام الامريكيون بتعطيل اي عمل اممي بشأن بشأن وضع حد لتصعيد العدوان الصهيوني على غزة ، من اجل منح الاسرائيليين فرصة التملص من اي وقف للعدوان بقرار اممي مشروط ليظهر نتنياهو باعتباره ” سيد الحلقات ” الذي يحارب متى يشاء ويوقف حروبه بشروطه ، غير ان الحسابات الختامية الموضوعية تتجاوز كل هذه التصورات ؛ هذا ليس كلام عواطف بل هو ناجم عن تحليل دقيق للمعطيات التي افرزتها جولة الحرب الحالية .
وفقاً للاهداف التي اعلنها الصهاينة على لسان نتنياهو ووزير حربه غانتس فان العملية العسكرية الاخيرة ضد غزة كانت تهدف الى ” اعادة حماس والجهاد الاسلامي الى الوراء عدة سنوات ” . مثل هذا الهدف كان قد اعلن في جولة الحرب على غزة عام ٢٠١٤ ، وقبل ذلك في جولات ٢٠٠٨ و ٢٠١٢ ، وتم تكرار ترديده في الجولة الاخيرة . تتمثل هذه ” الاعادة الى الوراء ” وفقاً لما يقوله الاسرائيليون ، في اضعاف البنى التحتية العسكرية بشكل جوهري من خلال تصفية الكوادر القيادية للمقاومة ، واستنزاف مخزونها من الصواريخ ، وتدمير الانفاق التي تستخدم لضمان تنقلات امنة وما تأويه من مقرات القيادة والقاعدة الصناعية العسكرية ؛ تقول المصادر الاسرائيلية ايضاً ان هذه الحروب تضعف القاعدة الشعبية لحركات المقاومة المسلحة ، كما تكسب الكيان الصهيوني مزيدًا من الدعم الدولي باعتباره يتصدر الجهد الدولي لمحاربة الارهاب . غير ان مراجعة متأنية للوقائع تفيد بعكس هذه الادعاءات ؛ في حرب عام ٢٠١٤ كانوا يتحدثون عن انفاق تسلل عبر الحدود فيما يتم الحديث اليوم عن مدينة انفاق ، يبلغ مجموع اطوالها حوالى ١٠٠ كم ، اقامتها المقاومة تحت ارض غزة ؛ لقد ازداد رصيد المقاومة من اعداد الصواريخ وتطورت تقنياً فأصبحت اكثر دقة وابعد مدى ، حتى بلغ حد تأثيرها في هذه الجولة من الحرب اصابة مئات الوحدات السكنية والحاق دمار كلي او جزئي فيها ، اضافة الى ايقاع مئات الاصابات في صفوف الصهاينة . اما الخسائر في صفوف الكوادر القيادية للمقاومة فلم تتوقف يوماً جراء سياسات الاغتيالات بمختلف الوسائل ، ولكن الاطر التنظيمية للمقاومة تكيفت مع هذا الواقع وكانت تعوض القيادات بسرعة حتى لم يلحظ احد يوماً ان فراغاً في القيادة قد حصل رغم اهمية الاسماء التي جرى تغييبها .
على مستوى الدعم الشعبي للمقاومة فأنه من السخف الحديث عن تآكله بفعل الحروب ؛ الفلسطينيون لم يذهبوا الى الحرب ، بل ان الحرب هي التي قدمت الى بلادهم منذ عام ١٩١٧ وحتى اليوم باشكال متفاوتة ؛ عندما تتوقف حروب السلاح تبدأ حروب العيش اليومية ، في ظل احتلال فاشي عنصري وصل به الامر الى عدم الاكتفاء بتصفية الوجود الفلسطيني الانساني ، بل تعداه الى اعدام عشرات ملايين اشجار الزيتون والعنب ، وقامت قوات العدو وقطعان المستوطنين باستئصالها باعتبارها رمزًا من اهم رموز الهوية الحقيقية للارض التي غرست فيها . الحرب ليست خياراً بالنسبة للفلسطينيين ، سواء كانوا من المنخرطين في اعمال المقاومة المسلحة او من الناس العاديين الذين يهتمون قبل اي شيء بتأمين لقمة عيش كريمة وتعليم وصحة لابنائهم ، وهي امال يرونها امراً يتبدد يومياً على ايدي المحتل واعتداءات المستوطنين من لصوص الارض . ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هو : هل يغيب ذلك عن حسابات العدو ؟ والجواب هو كلا ، والعدو قبل غيره يعرف ذلك ولكن الفساد الذي اصبح ينخر الحياة السياسية ، والمصالح الشخصية للقادة السياسيين ، اصبحت قيوداً تشكل الستار الذي يحجب الحقيقة عن العامة ؛ ان ما يجعل التباين بين الحقيقة والخطاب السياسي الموجه الى العامة قابلاً للاستمرار في الكيان الصهيوني هو غرور القوة والتفوق العسكري ، ولكن عندما يواجه العدو نكسة ما فان ذلك يتكشف ، وقد حصل ذلك في الماضي ، ولكنه سرعان مايتم احتوائه تحت ضغط الخوف من المحيط المعادي .
الموقف الدولي يتغير بدوره لصالح الفلسطينيين . من كان من الساسة الامريكان حتى وقت قريب يجرؤ على التحرك ضد الكيان الصهيوني وهو في حالة اشتباك مع المقاومة ؟ فيما لاحظنا خلال هذه الجولة من الصراع المسلح ارتفاع اصوات مهمة لصالح الفلسطينيين ، وفي داخل مؤسسات كانت قلاع مقفلة لصالح العدو مثل الكونغرس وحتى البيت الابيض ، اضافة الى تحول مهم في توجهات الراي العام اليهودي اللبرالي داخل الولايات المتحدة لصالح حقوق الشعب الفلسطيني ، واعتبار ذلك ضمانة امن لليهود في فلسطين المحتلة ورفض مشروع فرض الاذعان بالقوة التي يتبناها اليمين الصهيوني .
ان واحدة من اهم الظواهر التي افرزتها جولة الحرب هذه هي التقريب غير المسبوق بين الموقف الشعبي في كل من الضفة وغزة وفي فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨ ؛ وهنالك من المراقبين من يعتقد ان الداخل الصهيوني مهدد بمخاطر تطور عدم الارتياح المتبادل الذي يسود العلاقة بين الاقلية العربية والاكثرية اليهودية الصهيونية الى اشكال اخرى قد تأخذ صيغة الاشتباك او ماهو ابعد من ذلك ؛ هذا ان حصل فانه سيكون واحدًا من اكثر التهديدات جدية التي تواجهها ” اسرائيل ” من داخلها .
في المجمل العام يمكن القول ان جولة الحرب هذه لن تكون الاخيرة لان نصراً مؤزراً لم يحقق لاي طرف ، لكن غض النظر عن التحول المهم في الموقف الامريكي والدولي بشكل عام ازاء الصراع واطرافه امر لابد من اخذه بعين الاعتبار . لقد اتاحت وسائل الاتصال الحديثة والانترنت قنوات غير مسيطر عليها تظهر للعالم الحقائق بشأن هذا الصراع دون تعديل او تزويق ، وكما تطور الموقف الدولي ببطئ شديد ازاء نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا حتى بلغ الذروة بفرض عقوبات دولية رفضتها الولايات المتحدة وبريطانيا في البدء ، ثم تطور الامر من خلال اختراق جدار التمويه على الحقيقة على يد بعض اصحاب الضمائر من رجال الاعلام الغربيين ليصل حد تفكيك نظام الفصل العنصري وانشاء ديمقراطية راسخة تمتع فيها السكان الاصليون للبلاد بكامل حقوقهم الوطنية . ان عدداً من المحظورات الغربية في التعامل الغربي مع القضية الفلسطينية قد بدأ بالتفكك خلال جولة الحرب الاخيرة ؛ لقد ارتفعت اصوات مهمة تدعو الى ايجاد مكان للفصائل المسلحة مثل حماس في اي تسوية مقبلة للصراع ، وممن دعى لذلك هي المستشارة الالمانية انجيلا ميركل التي كانت تعارض حتى سنوات قريبة مبدأ المصالحة الفلسطينية بدعوى عدم جواز التعامل مع الارهاب . هذه صدوع اولية في جدار الموقف الدولي الذي كان ينحاز دون تحفظ نحو العدو الصهيوني .
مازلنا بعيدين عن رؤية تسوية تلبي الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني ؛ ومن المرجح ان نرى جولات اخرى من الصراع المسلح ، وسنرى ايضاً مزيداً من انخراط عرب ١٩٤٨ في اسناد مواقف المقاومة وتعديلاً ايجابياً بطيئاً في منحنى الموقف الدولي لصالح الفلسطينيين حتى تحين لحظة الحقيقة . لن نرى صلاح دين جديد على المستوى العربي ، ولكن تداعيات الصراع تعمل لصالح الفلسطينيين على المدى الابعد من لحظة الحاضر ..