” إذا فقدنا مصر الفاطمية ،فلن نسمح لأنفسنا بأن نفقد سوريا ” العلوية ”
تلك مقولة وإن تقال همساً أو ضمناً ، لكنها قد تفسر المواقف التي تتخذها معظم القوى السياسية الشيعية بكافة فصائلها وتباين أقاليمها ومرجعياتها ، من الوضع السوري ، ولايشذّ عن ذلك سوى القليل من بعض علماء الدين الشيعة والمثقفين الذين خفتت أصواتهم أمام تلك المواقف الكاسحة في اصطفافها إلى جانب بشار الأسد درجة تعتبر وجوده بات يتعلق بوجود الشيعة عموماً وإن ذلك “الحصن ” المنيع هو خطّ الدفاع الرئيس ، ليس عن الوجود السياسي للشيعة وحسب ، بل عن وجودهم الإجتماعي والديني كذلك .
ماالذي جعل المواقف الشيعية تندفع بهذا الاتجاه من دون توقف ولو جزئياً لإجراء مراجعة نقدية أو تأملية تأخذ في الاعتبار احتمالات سقوط الأسد ؟ ألا يتناقض ذلك مع أولى مبادىء علة السياسة وعلمها التي ينبغي أن تطرح مواقفها طبقا لمجالات شاملة في رؤيتها لطبيعة الحدث وتفاعلاته في جوانبه المختلفة وبالتالي تضع مخططاتها وفق تراتبية لاتُحشر فيها داخل أمكنة ضيقة من أحادية الرؤية .
لايمكن للأسد أن يعود إلى حكم سوريا كما كان يفعل ،بات ذلك بحكم البداهة ، فهذا النوع من الأنظمة أصبح خارج المسارات الطبيعية لتطور الحياة ، إذ ماليس منطقياً أن تعود فيه أمور شعب في منطقة حيوية كسوريا ، إلى القرون الماضية من التاريخ البشري حيث الشعوب بأكملها مُلك للحاكم يقتل منها مايشاء ويستعبد من يشاء ،والمشكلة هنا لاتتعلق بخلاف ذي طبيعة سياسية يمكن أن يتفق على تعديلات إجرائية تتجاوز ماحصل ، لتستأنف بعدها البلد سيرها الطبيعي ،ولا هو مجرد حدث يجري تجاوزه أو المرور عبره ، إنها معادلة لايمكن الخطأ في فهم محصلاتها مهما شهدت من مطبّات وتعرجات : شعب لم يعد لديه شيء يخشى أن يخسره ، في مقابل نظام يخشى من خسارة كل شيء ، والمشكلة إن ذلك الشعب ليس أعزل تماماً ولا معزولاً كذلك ، رغم أن مايتلقاه من دعم ، قد لايتساوى مع مايحصل عليه نظام جير كل مالديه وما يأتيه من اجل سحق المعارضين لحكمه .
في قراءة متأنية للمشهد السوري ، ورغم مايحيط به من إلتباسات متداخلة وغبار كثيف إقليمياً ودولياً ، إلا أن المراهنات على بقاء النظام بمقدار ماتبدو مكلفة على أكثر من صعيد ، فإنها كذلك تشي بما لايكفي من بعد نظر سياسي ، إذ ربما كان مشبعاً بالآيديلوجيا والشعارات التعبوية أكثر من رؤيته الإستراتيجية ،إلا أن ذلك لايعني التسليم من قبل النظام والقوى الداعمة له بتلك الصورة القاتمة من دون ترتيبات بديلة تنتج ربما تعادلاً استراتيجياً بمعنى ما ، يضمن من خلالها حصة تبقى لتلك الأطراف قبل التفكير بالموافقة أو المساومة على رحيل رأس النظام .
الأثمان قيد النظر ، وقد طرح احتمالها منذ الأسابيع الأولى من الأحداث السورية ( راجع : مشاهدات سورية بعيون عراقية – جريدة المواطن –أيار 2011) إقليم فيدرالي علوي يهيمن على الساحل إمتداداً من بانياس وطرطوس ،مروراً باللاذقية وشمالها حتى الحدود التركية .
ليس هناك من معوقات كبيرة يمكن أن تعترض حلاً كهذا ، فهو من جهة يتيح للسوريين التخلص من الحكم الحالي وبالتالي الحفاظ على ماتبقى من سوريا وحقن المزيد من الدماء ، ومن جهة أخرى يفصلون بين ما يمكن أن ينشأ من احتقانات وصراعات حتى في حال سقوط نظام الأسد ، أما الأطراف الداعمة (إيران وروسيا وحزب الله ) فتضمن كذلك نسبة كبيرة من مصالحها ، إذ ستحتفظ روسيا بقاعدتها البحرية على المتوسط مع حليف موثوق ومرتبط معها باعتبارها حامية وداعمة ،فيما تستمر إيران بامتدادها الاستراتيجي على المتوسط وبتطويق تركيا والبقاء بتماس مع أوروبا ، في مقابل محاولات تركيا تطويق إيران بتوثيق علاقاتها مع إقليم كردستان العراق وامتداداتها مع الجمهوريات الناطقة بالتركية على حدود إيران الشمالية والشرقية (تركمانستان – قرغيزستان – أوزبكستان – الخ ) بل حتى إذربيجان ذات الإكثرية الشيعية ، بدأت خلافاتها مع إيران تطفو على السطح – ربما بتأثيرات تركية وإن بشكل غير مباشر- .
أمام كلّ تلك التعقيدات ، تظهر إيران صلابة متزايدة في الموضوع السوري ، وقد تكون على استعداد للدخول في حرب مباشرة إذا شعرت بأن النظام سيسقط بيد المعارضة المسلحة من دون تفاهمات مسبقة تذهب إلى حلّ للإقليم العلوي ، لكن إيران بالمقابل تعيش حالة استنزاف حقيقية في سوريا ،وبالتالي فإطالة أمد الصراع سيؤلمها أكثر في مقابل أرجحية لخصومها – خاصة في الجانب الإقتصادي ) لذا تبدو مستعجلة لفرض وقائع على الأرض تدفع الأطراف المقابلة إلى مفاوضات للتسوية المأمولة .
تركيا هي الطرف الإقليمي – الوحيد ربما – الذي يقف بوجه تحقيق تسوية من هذا النوع ( الاقليم العلوي ) خشية انعكاساتها على وضعها الداخلي ، لذا لابد من تقديم ضمانات دولية – أمريكية / روسية على وجه الخصوص – بأن تسوية من هذا النوع ، ستنحصر داخل سوريا وحسب ،وبالتالي فالتعامل مع الإقليم المزمع إقامته ، لن يختلف في العلاقة المستقبلية مع تركيا عن إقليم كردستان العراق ، الذي استطاعت مدّ جسور التعاون معه رغم إمكانية تأثيره على أكراد تركيا .
الاتفاق الذي عقدته تركيا مع أوجلان وحزب العمال الكردستاني ،قد يأتي كخطوة استباقية لاحتمالات تطور الوضع في سوريا ، فلكي لاتقع تركيا بين كماشتين ( كردية / علوية ) يمكن استغلالهما من قبل إيران أو حلفائها ، لذا سارعت لتسوية الملّف وأخراجه من حلبة الصراع ولو مؤقتاً الى أن تتبلور الأمور وتتوضح الاتجاهات اللاحقة التي يمكن اتخذاها وفقاً لتطورات الوضع في سوريا ، حيث سيكون لتركيا دور مميز وفاعل في سوريا مابعد الأسد ، إن كان على الصعيد السياسي بتحالف مؤمل مع الحكومة الجديدة التي لاشك سيكون للإسلاميين – على النموذج التركي – دور محوري فيها ، أو في إعادة بناء ماهدمته الحرب في سوريا حيث ستكون للشركات التركية الأولوية لأكثر من عامل وسبب .
الحسابات التركية تبدو على قدر من الواقعية ، إذ لاتغرقها الشعارات الضخمة ولم تضع نفسها كذلك في زوايا حرجة ، إذ تركت لنفسها حرية المناورة منذ أن تيقنت بأن سوريا لحظة انطلاق الأحداث ، لن تعود إلى ماكانت عليه من حكم الحزب الواحد أو القائد مطلق الصلاحيات ، فأسوأ الاحتمالات وأدناها ، قد يكون تشكيل حكومة أو هيئة رئاسية تحدّ من صلاحيات الأسد ويكون لأنصار التقارب مع تركيا صوت مقرر فيها ، أما أفضلها ، فيكمن في انتصار كامل للمعارضة مايسمح لتركيا أن تكون طرفاً وسيطاً وموثوقاً يضع بصماته على الترتيبات اللاحقة ،وربما انتقلت إلى تحالف استراتيجي يحلّ مكان إيران بشكل كامل ، لذا تتصرف تركيا بعقل بارد .
إيران في المقابل ، وضعت نفسها في برزخ من المراهنات غير الواقعية بنسبة واضحة ، فأفضل احتمالاتها يتمثل في عقد تسوية تبقي النظام إلى عام آخر ليصار من ثم إلى إيجاد حالة بديلة عن بشار الأسد بشخصه ، على أن يتم ذلك في ظلّ وقف لإطلاق النار يتيح لإيران ترميم بعض ماتصدع من صورتها وإعادة جدولة مواقفها على ضوء النتائج ،وإن لم يعد ذلك ممكناً ، يجري العمل على الدفع باتجاه الإقليم العلوي كما أسلفنا ، لكن إن لم تسر الأمور إلى ضمان أو تفاهم لإنجاح ذلك المشروع ، ستجد إيران نفسها في وضع أكثر حراجة وحساسية ، حيث لا يبقى أمامها سوى الدخول في حرب غير مضمونة النتائج ، أو الانسحاب من الميدان بإسلوب ” الذئب الجريح ” كما يعرف في التكتيك العسكري ، ومن ثم العودة بأساليب أخرى كما يحدث مع مصر – مع اختلاف المشهد والمعطيات – .
لكن أمام إيران ملفّات أخرى لاتقلّ أهمية ، فهناك شيعة البحرين وشرق السعودية وزيدية نجران وحوثيي اليمن ، وكلها ستتأثر بانعكاسات مايجري في سوريا ، لقد وضعتها عموم المواقف الشيعية في مساندتها لنظام بشار ، في مكان غير مريح ،لقد أعطت المبررات الكافية للنظام في البحرين أن يقمع المعارضة بشكل سافر إن أراد ، وذلك تماثلاً لما يجري في سوريا ،مستعيناً بقوات درع الجزيرة وجّموع المتطوعين من متشددي السنّة ، كذلك ستفعل القوات السعودية في سحق أي تحرك معارض يقع في مناطق الشيعة (حائل – القطيف – الإحساء) أو الزيدية ( نجران وعسير ) عندها ستجد إيران نفسها في مأزق أكثر دقّة ربما ، إذ ان الأحداث تقع على مقربة منها بحيث لايمكنها السكوت ، وتدخلها عسكرياً قد يكون بمثابة فخّ لضربها من قبل أمريكا وحلفائها للانتهاء من ملفّها النووي أولاً ومايثيرها نظامها من توترات ثانياً .
ماذا عن العراق ؟ هل سيبقى جامعاً للكرات في ساحة تزدحم باللاعبين ؟ أم يكون المشجع الوحيد لطرف يبعثر مصادر قوته ولايجد طريقاً لتسجيل الأهداف في مرمى خصومه ؟ أم يتحول إلى مصارع فاشل يقتحمه ثور مزهواً بانتصاره ، فينطحه بقرنيه ليرميه ممزقاً خارج الحلبة ؟
مجدداً نعود إلى مزاد الاحتمالات ، أحلاها مرّ أمام العراق ، لكن أرجحها (مصارع فاشل) فدور جامع الكرات لم يعد ممكناً ولا مسموحاً به ،إذ إنه بات نوعاً من حياد فات أوانه ، وأما كونه المشجع الوحيد لفريق لايملك من مقومات الانتصار أكثر من خصومه ، فقد ضاع وسط هتافات التشجيع القادمة من كلّ مكان للفريق الآخر ، وفي هذه المعمعة ،لم تعد قوائم الكرسي تحته ثابتة متينة ، ولاتعرف حكومته أين تيمم وجهها ، فالجيوش تتدفق عليه من الشمال دون أرادته أو حتى إستئذانه ، أما المنطقة الغربية ، فقد بات تحديها يتزايد بإطراد ،ومن جهة الجنوب ، الأمراء المتربصون بشماتة ، والمملكة التي تسخر منه تحت عباءتها وتلقي ب(نصائحها) علناً ، فيما يهزه خصوم الداخل من تلاليبه مهددين بخنقه أو تمزيق ثيابه .
لقد جرد العراق نفسه – ممثلاً بقواه السياسية وأحزابه الحاكمة – من معظم مصادر قوته ، وباتت أشجاره عارية وسط عواصف متصادمة تصيبه بالدوار ، فماذا تراه فاعلاً ؟