-1-
ذكرت كتب التاريخ :
أنْ الذين قَتَلهم الحجاج صَبْراً بلغوا مائة وعشرين ألفاً ،
وأنَّ الذين ماتوا في سجنه بلغوا خمسين ألفاً من الرجال، وثلاثين ألفا من النساء ،
منهن ستة عشر ألفا مجردة !! ،
وكان يحبس النساء والرجال في موضع واحد ، ولم يكن للحبس ستر يستر الناس من الشمس في الصيف ، ولا من المطر والبرد في الشتاء..!
(مروج الذهب/ج3/ص137)
ما معنى ان تكون المرأة المسجونة مجردة ؟
اي انها عارية تماماً ،وحين تكون كذلك وهي في موضع يغص بالرجال ، فان ذلك يعني انحداراً اخلاقيا فظيعا مرفوضاً بكل المعايير والموازين …
تلك هي بعض فظاعات الحجّاج …!!
ومع ذلك فلا يعدم الباحث أنْ يجد من يحاولُ الدفاع عن الحجاج ويدعو الى قراءة جديدة في ملفه ..!!
تماماً كما ينبري البعض للدفاع عن فرسان الفشل وقادة الدجل من محترفي السياسة في الساحة العراقية ..!!
ولا ندري ما الذي يُعمي العيون عن رؤية الحقائق، ويُعطّل العقول من ادراك الواقع ؟
أهي السذاجة المتناهية ؟
أم هي المحاولات البائسة لتلميع صورة الغارقين الى الأذقان بالخطايا والأخطاء ، رداً للجميل حيث اعتمدوا الانتهازيين وأبعدوا المخلصين الأكفاء ؟
أم هي الكلمات الجوفاء التي دُفع ثَمَنُها بسخاء فأطلقتها (أبواقٌ) بعيدة كل البعد عن الحفاظ على شرف الكلمة وصدقها ؟
وأيّاً كانت الخلفية لذلك، فهي لا تخرج عن كونها فقاعات في مستنقع الباطل والرذائل .
وقديماً قيل :
وعينُ الرضا عن كل عَيْبٍ كليلةٌ
كما أنَّ عَيْن السخط تبدي المساويا
ويكفي ان نُذّكِر :
( أنَّ المرء يُحشر مع مَنْ أَحبَّ )
فالمدافعون عن الطغاة والظلمة يحشرون معهم، يصطحبونهم في الدرك الأسفل من النار .
-2-
إنَّ طاغيةً من طراز (الحجّاج) لم يكن يخطر على باله يوماً ، أنَّ اراقته لدم فقيه صالح – كسعيد بن جُبير – يمكن أنّ تُودي بحياته ، وتختمها شرَّ خاتمة ..!!
كانت العزّة بالإثم مالِئَةً كلَّ جوانب نفسهِ وعقله ..، وكان يحسب أنَّ الدنيا منقادة اليه لَيصنع ما يشاء ، دون أنْ يرتّد عليه إجرامُه الفظيع ..!!
ولكنّ قضية (سعيد بن جُبير) قلبت كل المعادلات والحسابات …
-3-
في عام 94 هجرية
ظفر الحجاج بسعيد بن جُبير ،وحين جيء به اليه قال له :
ما اسمك ؟
قال :
اسمي سعيدُ بن جُبير ،
قال الحجّاج :
بل شقيُّ بن كُسَيْر ،
قال :
أبي كان أعلم باسمي منك
وهو رد بليغ على أستخفاف الحجاج به .
قال الحجاج :
” لقد شقيت وشقي أبوك “
إنَّ الطغاة لا يملكون الاّ الشتيمة والجريمة ..!!
قال سعيد :
” الغيب انما يلعلمه غيرُك “
قال الحجّاج :
لأبدلنّك بالدنيا ناراً تلظى “
وهذا هو منطق الجبابرة الذين يتجاوزون كلّ الخطوط الحمراء ،وبكلّ صلف ووقاحة .
قال سعيد :
” لو علمتُ أنَّ ذلك بيدك ، ما اتخذتُ إلهاً غيرَك “
انه ردُّ مُفحم ، ولكنْ أنّىي للطاغية أن يفتح قَلْبَه وسَمْعَهُ لصوت الحقّ .
قال الحجاج :
ما قولك في الخفاء ؟
قال سعيد :
لستُ عليهم بوكيل
قال الحجاج
فاختر أيَّ قتَلْه تريدُ أنْ أقتلكَ
قال :
بل اختر ياشقيّ لنفسك
فو الله ما تقتلني اليوم بقتلَه، الا قتلتُكَ في الآخرة بمثلها .
أرأيت كيف يكون الشموخ والصمود ، وكيف يخاطب الأبرار الفجّار ؟
انها ملاحم تاريخية كُتِبت بأحرف من نور
وحين أمر الحجاج باخراج (سعيد بن جبير) ليقتل ، ضحك سعيد ، فأمر الحجاج بِرَدّه ، وسأله عن ضحكه
فقال :
عجبتُ من جرأتك على الله ،
وحلم الله عنك ،
فأمر به فَذُبح ،
فلما كبَّ لوجهه قال :
أشهد أنْ لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، وان محمدا عبده ورسوله ،
وأنّ الحجّاج غيرُ مؤمن بالله ،ثم قال :
اللهم لاتسلط الحجاج على أحد يقتله من بعدي ، فذبح واحتز رأسه .
وقد استجاب الله دعوتَه ،
ولم يعش الحجّاج بعده الا خمس عشرة ليلة .
ويروى انه كان يقول بعد قتله لسعيد :
مالي ولسعيد بن جبير ؟
كلما عزمتُ على النوم أخذ بحلقي .
ومنذ ذلك اليوم وحتى هذا اليوم ينادي المؤمنون الذين يصطلون بنيران الطغاة :
متى تصل النوبة الى سعيد بن جُبير ؟!!
*[email protected]