لقد اعتادت شعوب العرب والمسلمين أن يتسيدها غصباً حاكم واحد غالباً، يمسك زمامها بحبال استعمارية، من خلال التنصيب المباشر، أو من خلال انقلاب عسكري.. وتُمرَّر الأمور ما بين حكومة تخدم شعبها، وحكومة تستغله.. إلا أن الجميع مشترك بسمة واحدة هي التفرد وإلغاء دور الشعب في السلطة، بتجريم التحزب مطلقاً، وممارسة نظام الحزب الواحد.. وتحت شعار ( من لم يكن معنا فهو ضدنا )، مارست الدكتاتوريات الحزبية آثامها الخفية والمعلنة.
وربما كان العراقيون أكثر شعوب العرب والمسلمين معاناةً من آثار تسلط الحزب الواحد، لدرجة أن الشعب العراقي كله أصبح بعثياً يوماً ما، ومع ذلك لم يسلم من ظلم وتعسف حزب البعث.. ومن هنا بدأت عقدة العراقيين من التحزب والحزبية، وهي عقدة جعلت العراقي بطبعه وفطرته ينفر من التحزب والأحزاب، وينبذها ساخراً من المتحزبين، فضلاً عن انضمامه إلى حزب ما في زمن التعددية.
وصحيح أن آلية الديمقراطية في العالم، لا تنجح بدون العمل الحزبي انتماءً وتنظيماً ونضالاً.. إلا أن أحزاب الديمقراطية الوليدة في العراق لم تستطع اجتذاب قواعد تعتمد عليها في العمل السياسي، رغم كل ما تفعله لأجل هذا الهدف الذي يتنافس من أجله المتنافسون، ورغم أن العراقي متعاطف مع حزب ما واتجاه ما بأصل طبعه، فهو يفضل الانتماء روحيا وذهنيا ونفسياً عن الإنتماء التنظيمي. لذا لجأت هذه الأحزاب لآليات اجتذاب جديدة.. لنقل ابتدعتها من أجل الصراع الانتخابي ومعارك صناديق الاقتراع، منها استغلال طبع الانتماء العراقي للعشيرة وللطائفة وللقومية. وبهذه النزعات الطبيعية في الإنسان العراقي، تشكلت آليات الاجتذاب الجديدة للتحزب: الآلية العشائرية، والآلية الطائفية والدينية، والآلية القومية. فأغلب المنتخبين يذهبون إلى صناديق الاقتراع تخفي أقلامهم أحد ما من المرشحين، إلا اننا حين نسألهم ما معيار ترشيحك فلاناً! سيكون الجواب واضحاً: ( هذا أخونا ) أو ( هذا منا )!! ما يؤدي بالنتيجة إلى افتقاد المعيار الوطني في اختيار المرشح!!!
ولكي لا يكون تحليلنا ضالّا بالتعميم، فإن نسبة لا شك أنها ضئيلة، تضع المعيار الوطني أساساً مهماً في الاختيار.. إلا أن هذه النسبة لا تشكل قيمة مهمة تذكر في النتيجة النهائية.
إن الأحزاب التي تمثل المشهد السياسي العراقي اليوم، يمكن تقسيمها وفق إثنيات دينية وعرقية.. وتكاد تخلو الساحة تماماً من أحزاب تضع المعيار الوطني أسساً لوجودها.. ولكي ننصف مرة أخرى، علينا أن لا ننفي الأساس الوطني لكل الأحزاب العاملة في الساحة العراقية، وإن كانت هذه الأحزاب تجعل من المعيار الوطني أولوية ثانية في الولاء وليست أولوية أولى. والضرورة الوطنية العراقية التي أعتقد ويعتقد كثيرون غيري، أنها تحلّ الأزمات السياسية المزمنة التي ابتلي بها العراق والعراقيون، هي ولادة أحزاب وطنية علمانية، تقنع الشعب نظرياً وعملياً أنها الشراع الذي ينبغي ان يوجه سير السفينة.
وتحاول الأحزاب الشيعية، وهي نظرياً على الأقل، دينية طائفية بامتياز واضح، أن تجتاح الساحة السياسية، معتمدة على الأغلبية الشيعية، فضلاً عن ممارساتها الوطنية في احترام الآخر، بل تقريبه إليها بغض النظر عن طائفته، وهو ما ألمسه في الساحة. فالدعوة مثلاً لا قواعد شعبية حزبية لها، إلا أن ممارسات قادتها وخطاباتهم، تقنع كثيراً أبناء شعبنا. واعرف كثيراً ممن يتوجهون في حياتهم توجهاً علمانياً، أو ممن لا علاقة لهم بالدين، يختارون الأحزاب الدينية الشيعية إيماناً منهم، بأن هؤلاء ليسوا الأفضل مطلقاً، ولكنهم أفضل الموجودين، أو بتعبير دبلوماسي، أفضل السيئين.
أما الأحزاب السنية، وهي علمانية نظرياً بامتياز واضح، إلا أنها طائفية الممارسة والتطبيق، تعتمد على أهل السنة متدينين وغير متدينين، لأنها تحرك فيهم النزعة الطائفية، وتهيج فيهم روح الخوف من غول المد الشيعي، ومن هيمنة الأحزاب الشيعية. وكلا الأمرين يثيران الغرابة والعجب. فالطائفية الشيعية تستثمر الوطنية والعلمانية، لتصب في مصلحتها، والعلمانية والوطنية السنية تستثمر الطائفية لتصب في مصلحتها…. ولا بد من استمرار الجميع.. كما لابد من تشذيب طروحات وتنظيرات النموذجين.
لابد أن يستمر الجميع.. ولابد للعراق أن يجرّب الجميع.. لأن الأحزاب الوطنية التي نعقد عليها الاهتمام لإخراج العراق من مستنقع الاحتراب والأزمات، أحزاب كانت وما زالت خاسرة مسحوقة في ظل الشحن الديني والقومي الذي يعم العالم والمنطقة كلها. فقد كشفت هذه الأحزاب أوراقها مقدماً… وفوق سقوطها من نفس المواطن العراقي بسبب عقدته من التحزب والحزبية، ما يعني عدم امتلاكها الأرضية الخصبة للتأييد الشعبي المنشود، فوق ذلك مارست هذه الأحزاب خلال فترات الأزمات العراقية المزمنة أدواراً أبعدتها تماماً عن تنظيراتها، وأشعرت الناس بتناقضاتها، ما بين وقوعها في الطائفية حيناً، أو وقوفها مواقف لا وطنية حيناً آخر. وفي كل ذلك رافقت عقدة التخوف من الحزب والحزبية العراقيين وانتماءاتهم وانتخاباتهم كجرثومة عريقة في التاريخ، زرعها في داخله نظام مستبد سابق، لترافقه طوال حياته تقض مضجعه، وتحرمه من أحلامه، تصيبه بالحمى، وتشرف به على الموت نائماً على فراش وثير من الطائفية، والخراب المنتظر.
[email protected]