19 ديسمبر، 2024 3:54 ص

الحزبية العراقية

الحزبية العراقية

مرت على عراقنا عقود، كان مجرد القول ان فلاناً حزبي او منتسباً لحزب، يعتبر سبة او مرتكباً لجريمة. وكان الذي تتهمه بانه حزبي يشعر ان واجبه شتم الاحزاب والحزبية، ويقسم باعظم المقدسات انه لا يعرف الاحزاب ولايدخلها او يقبل بها بأي شكل من الاشكال.
فالكثير منا لا يزال يعتقد ان الاحزاب والحزبية هي سبب خراب الديار وتشتت القوى، واختلاف الرأي. ولايزال هناك من يطالب بعدم السماح بقيامها عندنا متذرعين بالمحافظة على الوحدة الوطنية ووحدة قوى الشعب، وغير ذلك من المسميات.
ولا نريد القول من البداية، ان مثل هذه الطروحات والافكار غير دقيقة، وانها من رواسب عهود الاستعمار والتخلف والانظمة السياسية السابقة، عندما كان الحكام يريدون تشكيل الانظمة والاوضاع، وتكييف الاتجاهات السياسية والفكرية على هواهم وحسب امزجتهم لضمان السيطرة والاستمرار دون اية معارضة او رقيب.
هذه الرؤيات لاتزال باقية على حالها عند بعض الناس رغم حرية العمل الحزبي الحاصلة الآن، ورغم اطفاء الشرعية على تأسيس الاحزاب والانتساب لها.
ويقول بعض من يدعي المعرفة والعلم ببواطن الامور، ان كل هذا التساهل والترخيص للاحزاب عمله المحتل الامريكي في البلد، ومن يعمل معه من العراقيين في ادارة حكم العراق، من اجل الكشف عن هوية الحزبيين وتسجيل اسمائهم ثم بعد ذلك تعود الامور الى سابق عهدها، ويأتي يوم المحاسبة او الحساب، ويومها لا ينفع الندم او التنصل، لأن كل شيء مسجل ومكتوب، ولذلك ينصح ان يبقى الواحد منا بعيداً عن الاحزاب.
في مثل هذا الطرح، يجب ان يبقى تحرك الاحزاب ومجال عملها محصوراً ضمن الطبقة الواعية المثقفة من الناس بالنسبة للاحزاب العقائدية او احزاب المبادئ، وضمن طبقة الاصدقاء والاقارب المنتفعين بالنسبة للاحزاب المعلومة مع بعض الاستثاءات في الحالتين معاً، لانه من غير المعقول ان تنطبق القاعدة تماماً في مثل هذه الحالات.
 والمتتبع لمجرى الامور على الساحة الحزبية يجد ان الاقبال على الانتساب للاحزاب محدود اذا لم يكن معدوم.فالكثيرون من اصحاب الاحزاب في عراقنا اليوم يرفع عقيرته بالشكوى من انخفاض اعداد المنتظمين فيها على الرغم من ارتفاع عدد الاحزاب وكثرة الوانها واشكالها واسمائها. فاذا حاولنا الوقوف على الاسباب الكامنة وراء احجام المواطنين عن الانخراط المتزايد في تلك الاحزاب بشغف وتلهف كما كان المتوقع والمأمول من قبل مؤسسي الاحزاب الجديدة او ورثة الاحزاب القديمة على حد سواء. نرى انها تعود للأسباب: 
1- ان كثرة الاحزاب في العراق وبسبب من كثرها وتشابه مضامينها وتماثل قياداتها، قد خلقت بلبلة في صفوف المواطنين، ولم يعد من السهل ايجاد الفرصة المقنعة لاتخاذ قرار الاختيار من بينها. بالاضافة الى ان غالبية قيادات هذه الاحزاب والقيمين عليها لا تحظى بثقة المواطنين بغض النظر سواء كان هذا الموقف من قبل المواطنين صائباًاو خاطئا، عادلاً او ظالماً. والمتتبع لمجرى الامور على الساحة الحزبية، يجد ان الاقبال على الانتساب للاحزاب محدود اذا لم يكن معدوم.
والملاحظ على الساحة الحزبية العراقية الآن كثرة الاحزاب التي تدعي القومية واليسارية  والتحررية والليبرالية والعلمانية… بينما الاتجاه الاسلامي اسس احزاباً لا تتجاوز اصابع اليدين… اراح واستراح… واصبحت جماهيره باجمعها منظمة تحت لوائه مما اعطاه قوة وزخماً لم تصادمه باقي الاتجاهات واحزابها.
ورغم المحاولات المتكررة لاندماج بعض الاحزاب في تنظيم واحد او حتى في جبهة واحدة، فان ذلك لم يتحقق وبقيت الانقسامات على حالها وان حدث بعض التقدم في بعض الحالات.
ونفس الشيء ينطبق على الاحزاب اليسارية والليبرالية، مما ينذر بنتائج وخيمة ولا سيما في حالة اجراء انتخابات برلمانية قادمة ضمن فسيفساء الصورة الراهنة، وذلك ان مثل هذا الوضع يتيح المجال لبروز الزعامات القبلية والمالية والشخصية اكثر من بروز الواجهات او المرشحين العقائديين مهما كان الاتجاه الذي يمثلونه.
2- لقد ضربت الاحزاب اليسارية ضربة موجعة بسبب انهيار مرجعيتها وتشتتها في عقر دارها، فجل ما نشاهده اليوم على الساحة اليسارية لا يعد ان يكون بقايا تنظيمات سرية كانت تحيا في وهم كبير، اذ كان القائمون عليها يعتقدون بان الشعب كله يقف ورائهم. فعندما خرجت تلك التنظيمات الى النور والعلن تأكد الجميع بأن الاتباع كانوا قلة قليلة، اذ ان هؤلاء الاتباع يتعاطفون معها فقط لمجرد ان تلك التنظيمات كانت ترفع شعارات معادية للحكومات التي استأثرت بالسلطة من غير مراقبة او مساءلة من احد.
3- اما الاحزاب ذات التوجه القومي والرادكيالي بمجمل اطيافها، فقد فشلت فشلاً ذريعاً في جميع مساعيها وممارساتها لافتقارها للمشاركة الشعبية. لذلك لم تعد هذه الاحزاب تجتذب للانخراط في صفوفها.
4- اما الجماعات الاسلامية واحزابها، فانها افضل من غيرها بحكم قدمها التاريخي ولو باشكال مختلفة وتحت اسماء مختلفة ومتباينة، فضلاً عن ان خطابها السياسي موجه الى اناس محدودي الافق والمعرفة، يلاقي صدى واسعاً وترحيباً عظيماً، فهؤلاء الأميون يؤمنون بأنهم سيحققون الاهداف المنشودة من رخاء وسعادة وهناء، ان لم يكن عاجلاً فلابد ان يتحقق آجلاً. فضلاً عن ان هذه الاحزاب لم تجرب او تختبر بعد بشكل جدي في السلطة لا عندنا ولا في اي قطر عربي.
ان الاحزاب الموجودة الآن في الساحة العراقية… هي احزاب اصحاب رؤوس الاموال، اي انها احزاب تمتلكها الصفوة المقتدرة التي تحاول ترسم للشعب حاضره ومستقبله من منظور المصلحة الطبقية المهيمنة بحكم قدرتها الاقتصادية والمالية وسلطتها السياسية الفئوية. فهذه الاحزاب تناضل حقاً ولكن في سبيل منفعتها الطبقية من غير ان تتمكن من الوصول الى اوجاع الشعب الكادح والاحساس بنبضه وحاجاته الاساسية في حياة كريمة بعيدة عن الفاقة والعوز. فتخمة الاقلية هذه هي اصلاً حصيلة جوع الاغلبية الساحقة من الشعب.
ان طبائع البشر مختلفة، وكذلك ميولهم واعتقاداتهم وافكارهم، وعليه، فانه من البديهي ان تجمع ذوو الافكار والعقائد المتشابهة في حزب او جماعة واحدة لتحقيق اهدافهم ونشر افكارهم، فاذا تم ذلك باسلوب ديمقراطي عاش المجتمع في سلم وامان، اما اذا كان فرض الرأي والفكر يتم بالقوة والارهاب، فان ذلك يؤدي الى صراعات داخل المجتمع، وقد يكون العنف والرد عليه من ظواهر هذه الحالة.
فالاحزاب والحزبية هي مظهر للرأي الآخر، وعندما تتم الممارسة في حدود القانون والنظام، فان ذلك من مظاهر الديمقراطية الحقة وسيادة الحرية وقيم العدالة واحترام حق الآخرين في اجتهاداتهم وافكارهم حتى لو كانت مخالفة لاراء واجتهادات المقابل.
ان تجربة العراق في الاحزاب والحزبية- برأيي- لا تدعو للتفاؤل او الاقتداء بها، وان تحويل الاحزاب الى واجهات لحكم عشائري او عائلي ليس سببه فكر الحزب او مبادئه بل سببه عدم تعمق الفكر والمبدأ داخل نفوس الحزبيين، فغلبت قوة العائلة والعشيرة على الفكر والمبدأ وحرفت مسيرة الحزب لصالحها وسببه عدم ممارسة الديمقراطية في انتخاب القيادات والمسؤوليين وغير ذلك من الاسباب.
ومع كل ذلك، تظل الديمقراطية والتعددية السياسية هي الخيار الوحيد امام عراقنا، ذلك ان اي رجوع عن هذا الخيار معناه العودة لنظام الشلل والاشخاص، واقاربهم وانسبائهم واصدقائهم، ونظام المنع من العمل والمنع من السفر، ومنع الحرية الفكرية والتعددية، وباقي الممنوعات المعروفة، بما في ذلك نهب المال العام والتسيب الاداري والمالي والاثراء بلا سبب.
لكن ذلك لا يمنع من الاستمرار في التجربة ومن الاستمرار بالتمسك بالديمقراطية وتعميقها ومن محاولة تقييم الاخطاء وتصحيحها، وان فقدان او عدم وجود بديل للحزبية في بلد ديمقراطي هو سوى قيام حكم فردي دكتاتوري او عشائري عائلي، ولذلك، فالديمقراطية مع عيوبها البسيطة او المحتملة خير من التسلط والارهاب والحكم الفردي.
ان طريق الحرية والديمقراطية رغم صعوبتها، هي طريق الاعمار والتقدم، وهي طريق الحضارة وبناء الوطن والمواطن. وقد تصادفنا بعض العقبات وقد نتعثر في السير، ولكن بامكاننا النهوض ومواصلة التقدم، لأن ذلك هو خيارنا الاول والوحيد.
ان، من كل ما قيل او يمكن ان يقال، فلابد من العثور على افضل السبل لاجتذاب المواطنين للانخراط في العمل الخربي، لانه لا مفر من ذلك، والا فاننا لا محالة مرتدون الى العهود الغابرة، عهود السطوة الشللية، العشائرية، المناطقية… التي مرغت عراقنا في الرغام وخلفت وراءها الآلام.
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات