الحرية غريزة فطرية ومفهوم رائع تلتقي عنده المشاعر وتتجاوب معه العواطف وتتطلع اليه النفوس . وهي ليست شيئا ثانويا في حياة الانسان ,بل حاجة ملحة وضرورة ماسة من ضروراته ’باعتبارها تعبيرا حقيقيا عن ارادته وترجمة صادقة لافكاره .فبدون الحرية لاتتحقق الارادة’ وعدم تحقيق الارادة يعني تكبيل الانسان ووأد كافة طموحاته وتطلعاته .
وهو مالاينسجم والغاية من وجود هذا الكائن الالهي والدور المكلف به والمسؤولية التي تقع على عاتقه .وبدون الحرية لاتتحقق ذاتية الانسان وكرامته وقدرته على تقرير مصيره ’وبدونها ايضا لاتحقق سعادته (فالانسان يساق الى غير مايريد ويكره على غير ما يحب ويجرع من الافكار والانظمة ما لا يقبله ويستسيغه بحال لايمكن ان يكون سعيدا ’ثم ان السعادة لاتتم الا بالامن ’ ومن لاحرية له لا امن له ).
فالحرية اذن منحة الهية للانسان الذي حباه الله تعالى بكل المقومات الاخرى اللازمة خلال مسيرته الحياتية والتي تضمن له اداء دوره الريادي على الارض في احسن صورة .
والحرية تتسع في مدلولاتها لتشمل كل القضايا المتعلقة بحياة الانسان فيما يفعل وفيما لايفعل في حركته الاجتماعية والفردية ,في الممارسات الذاتية المتعلقة بطعامه وشرابه ولهوه ’ونتيجة لحيوية عنصر الحرية ودوره الفاعل في حياة البشرية فقد حظي باهتمام الباحثين والاجتماعيين على وجه اخص واخذ كل منهم يبحث ويحقق من وجهة نظره الخاصة وانطلاقا من الاسس الفكرية التي يستند اليها ..كما حاول هؤلاء اعطاء هذا العنصر التعريف الذي يعبر عنه بشكل افضل .فقيل ان الحرية هي قدرة فردية واجتماعية على الفعل النفسي والاجتماعي وانها التحرر من الذات ومن الضغوط الاجتماعية والاقتصادية ,وهي حرية الروح في اتجاهها الشاق نحو الكشف .اوحرية كل فرد في ان يحقق ذاته تحقيقا كاملا .بينما يرى اخرون ان مجرد تحقيق الذات لايستوعب مفهوم الحرية وانما هي القيمة الرمزية لمجموع الحقوق القانونية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي حفل بها النضال البشري .
وقد عبر الامام علي بن ابي طالب (ع)اروع تعبير عن حرية الانسان وحقه الطبيعي فيها حينما قال مخاطبا الانسان (لاتكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا ) والحرية بهذا المفهوم الذي يطرحه الامام (هي التي تخلق الثورات وتنشيء الحضارات وتقيم علاقات الناس على اسس التعاون الخير ,وتربط الافراد والجماعات بما يشدهم للخير .
ويرى الشهيد محمد باقر الصدر ان الحرية في المفهوم الاسلامي ثورة ليست على الاغلال والقيود بشكلها الظاهري فحسب بل على جذورها النفسية والفكرية ,وبهذا كفل الاسلام للانسان ارقى واسمى اشكال الحرية التي ذاقها على مر التاريخ .
اذن ان الناس لهم الحق وحدهم في ان يقرروا مصيرهم ستنادا الى انهم احرار حقا ولاراي فيذلك لمن يريد ان سيسلبهم ذه الحري او يمنحهم اياها ..ان الامام علي (ع)انما يقرر بقوله هذا ان الحرية عمل وجداني خالص ملازم للحياة الداخلية التي ترسم بذاتها الخطوط والحدود والمعاني فلا قسر عليها لانها نابعة من الذات لاتلقائية ولاخارجية وهي ذا كانت كذلك فليس لاح دان يكره او يجبر الاخر في هذا النطاق ,لان عمله هذا ياتي فارغا من اي معنى , خالصا من اي اثر .
لقد خلق الانسان حرا مختارا واعطي فكرا وارادة ,فهو في اعماله ليس كالحجر تدحرجه فيتدحرج ويسقط متاثرا بجاذبية الارض دون ان تكون له ابدية ارادة ,ان الانسان يجد نفسه على مفترق طرق ليختار منها ايها يشاء بملء حريته ووفق مشيئته ونوعبة تتفكيره وليس مجبرا على سلوك احدهما لا غير وانما الذي يعين الطرق هو اسلوب فكره واختياره .
يتاثر الانسان بالمؤثرات الخارجية والداخلية كما هو الحال بالنسبة للحيوان والنبات ا لان رد فعله لايكون عين رد الفعل الذي يبديانه بل يمتلك الحرية في اتخاذ الموقف الناسب الذي يمليه عليه عقله ويجسد ارادته ومن هنا (فالانسان مؤثر في مصيره كعامل مختار ,بمعنى انه بعد ان تتوفر الشروط الطبيعية المؤثرة يبقى له اختياره وحريته في الفعل او الترك .
تجدر الاشارة هنا ان الحكومات التي سيطرت على مقاليد الحكم في العالم الاسلامي بعد صدر الاسلام ,قد عملت على ترويج ودعم بعض الافكار والصيغ ذات المفهوم المنحرف البعيد كل البعد عن النظرة القرآنية ,وذلك لالهاء المسلمين عن قضايا مهمة على صعيد الحكم والقيادة وحرف ابصارهم عن مشاهدة الانتهاكات وغمط الحقوق والنحراف بالمسيرة الاسلامية كذلك لايجاد المبررات الكافية لاية عمليات سياسية خاطئة او غير عادلة او لاتتناسب مع روح التراث او النصوص الدينية .وثبت تاريخيا ان الجهاز الاموي قد حول مسالة القضاء والقدر الى مستمسك قوي قارع به كل من يقول بالحرية الانسانية بعد ان اتهم اصحاب هذا الراي بمخالفته العقائد الاسلامية ,كما سعى المستعمرون في العصر الحديث الى دعم نظرية القضاء والقدر لاهداف سياسية ونفسية واجتماعية عبر الادوات الفكرية والدعائية التي كانت بحوزتهم ..
لقد حظي الانسان في الاسلام بمكانة عظيمة لاترقى اليها مكانة الانسان في اي نظام آخر .وهذه المكانة ناشئة من الدور الذي اناطه الله تعالى به والمتمثل بكونه خليفة الله في هذه الارض وهل هناك اشرف واعظم من ان يمثل الانسان الله سبحانه وتعالى في الارض ؟ وهل هناك مبدأ آخر غير الاسلام قد اعطى الانسان مثل هذا الدور العظيم ؟ ,فالانسان اذن من المنظار الاسلامي مخلوق كريم (ولقد كرمنا بني آدم ) وخليفة لله ينوب عنه في ادارة الارض واعمارها وتطويرها على شتى الاصعدة ويصدر عنه في تحركه الايجابي الهادف ويرجع اليه في كل صغيرة وكبيرة ضمانا لسلامة مسيرته اللاحقة ……..
وانسجاما مع دور الخلافة الذي يمارسه الانسان المسلم خلال وجوده على الارض ’وانطلاقا من حريته في العمل والحركة ضمن اطار ذلك الدور ,فقد اصبح صانعا لمجريات الاحداث وماسكا بدفة العملية التاريخية لا خاضعا لها ولا مسيرا من قبلها . على العكس من الماركسية التي تعطي للتاريخ الهيمنة والسيادة على الانسان وتجعله خاضعا خضوعا اعمى للعملية التاريخية وتسلب من كل ارادة امام مشيئتها وكلمتها الفصل . ويبقى تحت رحمة ماتصنع له من قدر ومصير .وعلى العكس ايضا من مسيحية الكنيسة التي ترفض التاريخ ,وتفصل الانسان عن واقعه الحي وتقتل استجاباته لهذا الواقع ..
اذن الحرية في الاسلام ليست حرية متارجحة هشة او عشوائية غائمة ,وانما تنطلق من اسس وقواعد ثابتة ورئيسية لاترتكز عليها الحرية فحسب ,بل النظام الاسلامي باسره ,وعلى هذا الاساس يمكن القول ان المرتكزات التي تقوم عليها الحرية في الاسلام هي من اقوى الاسس والقواعد التي تقوم عليها فكرة او مفهوم ما في اي نظام اخر .فالاسلام لاينظر الى الحرية كشيء كمالي ولايعتبرها امرا مزاجيا خاضعا للذوق والرغبة ,بل اقامها على اصوله واعتبرها جزءا لايتجزأ من مبادئه .بل ان المتتبع يشم رائحة الحرية من كل التشريعات الاسلامية والمناهج التي وضعها في شتى مجالات الحياة .
اذن الحرية التي يؤمن بها الاسلام ليست حرية عشوائية غير محددة فالاسلام لايعتقد ابدا بالعشوائية في اي مفهوم من مفاهيمه وفي اي قيمة من قيمه ,فالحرية التي يقدمها الاسلام للانسانية حرية محددة وواضحة وحرية منضبطة موزونة ,فالاسلام ضد الحرية المطلقة ر المؤطرة هذه الحرية التي تتحول في آخر المطاف الى تعدي على مصالح الاخرين وحقوقهم وتطلعاتهم الى حياة هادئة وديعة .
اذن تعد الحرية التي يرفع الاسلام لواءها الصيغة الامثل للحرية باعتبارها تحافظ على حرية المجتمع وحقوقه المشروعة وعلى حرية الفرد نفسه من خلال ضبطها لحرية الاخرين وعدم السماح له بتهديد حريته .
ان في مثل هذا الجو الهادىء سيتاح للافكار السليمة الهادفة ان تنمو ,وللقابليات ان تتطور وللابداعات ان تشق طريقها باتجاه خدمة الانسان والانسانية عنوان الوجود .