23 ديسمبر، 2024 10:46 ص

الحرية بين المعتقد والضمير، مقاربة فلسفية

الحرية بين المعتقد والضمير، مقاربة فلسفية

استهلال:

” لقد ولدنا في قسوة العالم والحياة، والى هذا أضفنا قسوة الكائن البشري وقسوة المجتمع الإنساني “1[1].

ربما تكون قسوة العالم الذي نعيش فيه وخطورته متأتية من تحول ارادة الحداثة في غزو الطبيعة والرغبة في السيطرة على العالم الى الرغبة في غزو الذات والتحكم فيها وتعنيفها وتبرير استعباد الشعوب وانتهاك خصوصياتها وتدنيس رموزها والإساءة الى مقدساتها من قبل عولمة متوحشة ورأسمال منفلت من عقاله وذئبية بشرية تتصيد المصلحة وتدوس على القيم وتتاجر بعذابات الانسان. لقد أضعفت الحداثة الفكرية التي شملت مجالات الفلسفة والسياسة والفن والعلوم والمجتمع معظم الروابط التي تجمع الناس بالدين وأبعدت الكثير منهم عن الاهتمام بشؤون الايمان وقد أرست العلمنة والمذهب الانسي والعقلانية والقراءة الموضوعية والتوجهات التطورية والوضعية والإلحاد المنهجي وانتصرت الى العلم والعقل ودعت الأفراد الى تنظيم حياتهم وفق قيم التقدم والتنوير. لكن ما بعد الحداثة2[2] عادت بشكل سريع وبقوة الى تناول قضايا المقدس والرمز ومنحت فرصة كبيرة للعلوم الانسانية لدراسة الظاهرة التعبدية من زوايا متعددة وركزت بالخصوص على مفاهيم المخيال والذاكرة والوضع التاريخي والوجدان واللاشعور الجماعي والديني والإلهي والأخروي.

كما حرصت على التمييز بين الفضاء الخاص والفضاء العام وبين الحياة الروحية والحياة اليومية وبين الاعتقاد واللاّإعتقاد ولذلك جعلت الٍأرواح والقلوب تراوح بين الاقرار والنفي وبين الاثبات والشك وبين الايمان واللاّإيمان تاركة العقول تتأرجح بين الانزعاج والثقة وبين الحيرة والطمأنينة.

اللافت للنظر أن الأسباب التي سوغت هذه العودة هي أزمة الأسس والإحساس بالضياع بعد فقدان جذري لليقين والرؤية الضبابية وطغيان الوسائل على الغايات وغلبة العقل الأداتي على العقل التواصلي واكتساح الهمجية واللاّتسامح المدينة ونقص التفاهم بين الأفراد والجماعات.

في هذا الاطار مابعد الحديث تبرز التوترات بين حرية المعتقد وحرية الضمير بوصفها أكثر المشاكل التي طرحت بشكل خاطئMal posé  ووقع التفكير فيها بشكل سيءMal penser. لكن هل بقي أمل لتخطي هذا المضيق؟ وكيف يمكن الاشتغال على ثيمة حرية الضمير بطريقة فكرية جيدة؟ وبماذا يتعلق أمرها الاعتقادي؟ هل بالقانون أم بالمقدس؟ وهل بالقيمة أم بالمعنى؟ وما الرهان من منح الناس حرية الضمير؟ هل يكفل الاعتراف والصفح أم حسن الحياة والفعل؟ وماهي حدود حرية الضمير؟ وكيف نمنح حرية الضمير للأفراد الذين تخلوا عن ضمائرهم؟

ماهو في الميزان هو أن القبول بحرية الضمير كدائرة أوسع من دائرة حرية المعتقد لا يتم إلا بإصلاح الفكر وإصلاح التعليم وإصلاح الحياة وإصلاح الدين والربط بين المعارف والأفعال3[3].

1- حرية الضمير بين الذات والجماعة:

” لا الحاكم المدني ولا اي انسان اخر مكلف برعاية النفوس فالله لم يكلفه بذلك لانه لا يتضح ابدا ان الله قد منح مثل هذه السلطة لأحد على آخر بحيث يرغم الآخرين على اعتناق دينه”4[4]

ليس العقل أو فقط هو ما يميز الانسان عن بقية الكائنات وإنما وبالأساس الضمير أو الاعتقاد وذلك لأن الانسان حيوان ميتافيزيقي والتعلق بالماوراء والغيب واضفاء معنى القداسة على الأفكار والأشياء والأشخاص هي عملية متواصلة في اطار جهد التمعين والتعيير الذي يقوم به باستمرار.

اذا كانت الأهواء صوت الجسد والعاطفة لغة اللاوعي  فإن الضمير هو صوت الروح وقاعدة العقل ومبدأ الذهن، وقد قال عنه فيلسوف التنوير جان جاك روسو:” أيها الضمير… أيها الصوت السماوي الخالد… أيها الحاكم المعصوم الذي يفرق بين الخير والشر… فتخلق ما في طبيعته من سمو وما في أفعاله من خيرية لولاك لما وجدت نفسي ما يرفعني على الحيوان، إلا شعوري المؤلم بالانتقال من ضلال الى ضلال بمعونة ذهن لا قاعدة له وعقل لا مبدأ له…”5[5]

هكذا يكون الضمير الحسن والمطمئن هو القدرة على اصدار أحكام أخلاقية على قيمة أفعال البشر واستعداد نفسي للتمييز بين الحسن والقبيح منها . ويكون الضمير مصحوبا باللذة والألم اذا كان يتعلق بالماضي وبنداء الواجب والاستجابة الى أمر باطني اذا كان متوجها الى المستقبل.

وحرية الضمير liberté de conscience هي العمل بما يوحي اليه الضمير في المجال الديني أو الشعور بالحرية في اعتناق بعض الآراء والمعتقدات وامكانية التخلي عنها والانتقال الى تبني آراء وأفكار جديدة. لكن يمكن التفريق في اللّسان الفرنسي بين croyance وconviction. اذ يعني فعل اعتقد حصول الثقة في أمر معين بعد الوصول الى تصديق قضية هذا الأمر واعتبارها واقعية أو حقيقية. ويمكن التمييز بين عدة درجات من  الاعتقاد ونبدأ بالأضعف وننتهي بالأقوى ونذكر هنا القناعة والاقتناع والتطابق مع الايمان والإقرار والتصديق والتسليم المطلق. ولكن اعتقد أن…Croire que يختلف عن اعتقد في…croire en ، اذ يدل الفعل الأول على غياب اليقين والجهل بالأمر بينما يشير الثاني الى التصديق التام للذات بقيمة عليا والثقة المطلقة بكائن أول.

بناء على ذلك يكون الاعتقاد التصريح بأن شيء معين صحيحا وفي معناه القوي الأول يتطابق مع الاقتناع ويحمل حركة الفكر الى الاتحاد والتطابق مع الموضوع الذي تتعلق به. أما المعنى الثاني فإنه يشير الى العقيدة الدينية التي تتحول  بالعادة والتقليد الى دوغما وإيمان ورأي صلب6[6].

في حين ان الضمير conscience في المجال التيولوجي هو شغل تقوم به الذات المؤمنة تبحث من خلاله عن الأخطاء المرتكبة وتعترف بمسؤوليتها عنها وتجري امتحانا تقييميا تتطهر به من هذه الذنوب وتدرج يقظة الضمير الفردي ضمن ممارسة عمومية للاعتراف والغفران.

ويمكن أن نميز بين مراقبة الضمير أو تحكيم الضميرexamen de conscience  وحرية الضمير liberté de conscience . أما حرية الضمير فهي حق أو ملكة تعطى لكل واحد ويضمنها القانون وترتكز على احترام المذاهب والآراء والقناعات الدينية والفلسفية للمواطنين والسماح لهم بممارستها ونشرها عن طريق الاقناع. والحق أن المفهوم تشكل مع لوثر في السجل الديني ولكنه انتشر في المجال السياسي العلماني واستقل بعد ذلك عن القوانين والآثار الانسانية وتطور في السجل الحقوقي في الفترة المعاصرة لكي يعبر عن تحررية الحقيقة والروح الفردانية7[7]. وبين اذن ان المعتقد ينتمي الى مجال الظن والرأي والايمان الديني والحقيقة الراسخة بينما ينتمي الضمير الى مجال الوجدان والوعي واللاوعي والأخلاق والتربية والثقافة الاجتماعية.

بناء على ذلك يضمن المرء حريته حينما يحقق استقلالية الضمير ولا عندما يتمتع بحق اختيار المعتقد ويعبر الضمير عن الانية بوصفها الطبيعة المخصوصة للوجود الواعي الذي يسبق كل تكوين للأنا من حيث هو ذات ويتعارض مع الهوية الثابتة ويتأقلم مع الانساني في حد ذاته.

لعل الرهان الأساسي من التأكيد على حرية الضمير هو العمل على بناء تيولوجيا التحرر والعتق عن طريق القص وإعادة الحكي للنص المؤسس وتخليص الناس من أغلال العبودية والوثنية.

علاوة على ذلك يجب التمييز بين حرية الضميرliberté de conscience وحرية ممارسة الطوائف للشعائر الدينيةliberté du culte  في كنف التسامح والسلم والأمن الذي توفره الدولة8[8].

من هذا المنطلق تدرج حرية الضمير ضمن الحريات العمومية وهي جملة الحقوق التي يتمتع بها الأفراد والمجموعات ويتم الاعتراف بها بشكل منفصل وفي مواجهة الدولة في بعض الأحيان9[9].

في نفس الاتجاه ألا يترتب عن حرية الضمير حق المواطنين في التعبير والتجريب خارج اطار ضوابط الرقابة وحدودها والزامات المؤسسة والقواعد الصارمة للمجتمع الانضباطي التأديبي؟

2-  حرية الضمير والحقوق الدستورية:

” ليس أفضل دفاع عن الحرية هو ذلك الذي يكون مباشرا وإنما ذلك الذي يتوافق على نحو أحسن مع القيمة التي يمنحها الأفراد لوجودهم بعد تفكير مترو”10[10]

لقد تمت المصادقة على الصيغة النهائية للفصل السادس 6 معدلا بمقتضى الفصل 93 من النظام الداخلي وفيما يلي نصه: “الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدّسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها”. ومن المعلوم أنه تم النقاش العمومي والتجادل حول صيغ “حرية الضمير وممارسة الشعائر الدينية” وتم اقتراح  المنع المطلق “لكل أشكال التكفير والتحريض على الكراهية والعنف” وكذلك وقع اقتراح صيغة ” من المبادئ العامة الدولة راعية للإسلام ولسائر الديانات حامية لمقدساتها كافلة للجميع حرية المعتقد والضمير وممارسة شعائرهم الدينية ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي والصراعات السياسة”. ولكن  بعد ذلك تم استبدالها بصيغة أخرى هي “”الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. وقد أضيف اليها عبارة ” يحجر التكفير والتحريض على العنف” .

اللافت للنظر أن هذا الفصل يتفق مع القيم الكونية وخاصة ما ورد  في الفصل 18 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان والمواطن ومن جهة ثانية أكد العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في المادة 18 في الفقرة الثانية على نبذ الاكراه والعنف وحق الفرد على الاختيار الشخصي في الشأن الديني دون تدخل الدولة أو المجموعة التي ينتمي اليها مواطنيا وقانونيا.

في الواقع ان النقاش حول حرية الضمير ، على الرغم من أهميته الكبيرة في الزمن الانتقالي، لم يكن جديدا على الساحة السياسية في تونس ولم يشكل هدية قدمتها الثورة الى النخب الحقوقية بل هو مطلب حقوقي مستقر تبنته المعارضة زمن الجمر وعاد بقوة لحظة التأسيس وتم طرحه للنقاش العمومي عند كتابة الدستور.  من المعلوم أن حرية المعتقد والضمير ورد في “إعلان هيئة 18 أكتوبر 2005 للحقوق والحريات” الذي وقعت عليه عدة أحزاب تونسية مناضلة وبعض الشخصيات الوطنية ما يلي:
“أولا: حرية المعتقد والضمير يجب أن تكون مكفولة لكل مواطنة ومواطن، وهي اختيار شخصي، لا إكراه فيه، وتشمل الحق في اعتناق دين أو معتقد أو عدم اعتناقه والحق في إظهار ذلك الدين أو المعتقد وإقامة شعائره ونشره بالتعليم أو بالدعوة إليه. ولا تخضع حريّة الضمير والمعتقد إلاّ للقيود التي يفرضها القانون وتكون ضرورية لحماية النظام العام أو حقوق الآخرين أو حرياتهم الأساسية أو الآداب العامّة، دون أن يكون ذلك سببا للإخلال بتلك الحريّة. وتلتزم الدّولة بضمان واحترام حريّة الضمير والمعتقد التي يكفلها القانون وتحميها الهيئات القضائية من كل انتهاك.
ثانيا: نبذ كل تمييز بين المواطنين في الحقوق والواجبات على أساس الدين أو المعتقد باعتبار أن المواطنة عقد يقوم على المساواة الكاملة بين أفراد المجتمع.
ثالثا: الالتزام بالبنود الواردة في المواثيق الدولية والمتصلة بحرية الضمير والمعتقد وفي مقدّمتها “الإعلان العالمي لحقوق الانسان” لسنة 1948- 11[11]  و”العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية” لسنة1966 -12[12] و”إعلان الأمم المتحدة” الصادر في 25 نوفمبر 1981 واعتبار أن حرّية الضمير والمعتقد وطنها العالم بأسره وأن عالمية حقوق الانسان المعبّرة عن رصيد الإنسانية من الخبرة والتجارب الثرية، لا تعني التنميط وإنما هي تستوعب التنوع وتحترمه.
رابعا: إن صيانة حرّية الاعتقاد في بلادنا والذود عنها لا يتعارضان مع ما يحتلّه الإسلام من منزلة خاصّة في تكوين الشخصية الحضارية المميزة للشعب التونسي، لذلك فإن تنزيل المبادئ الكونية لحقوق الانسان وأحكام الاتفاقيات الدولية المتعلّقة بحرية الضمير والمعتقد، يتمّ في تفاعل خلاّق مع الرّصيد الثقافي العربي الإسلامي للشعب التونسي ويعدّ هذا التفاعل عاملا من عوامل إصلاح المجتمع والانتقال به إلى مجتمع حديث يقوم على الحريّة ونبذ كل أنواع الوصاية أو الضّغط أو الإكراه. لكن أليس ثمة تضييق على حرية المعتقد وبالتالي الحد من حرية الضمير حينما يوكل الى الدولة مهمة حماية المقدسات كما نص على ذلك الدستور التونسي الجديد؟ وماهي الذات القانونية المتمتعة بهذا الحق؟ هل هي الفرد أم الجماعة ؟ وما العمل لكي يتم تشريع الاختلاف والتعددية مع الوفاء للخصوصية الحضارية وتماسك الأمة ووحدة مصيرها؟

3-استتباعات القول بحرية الضمير:

” تبدو السيادة الحاكمة ظالمة لرعاياها ومغتصبة لحقوقهم عندما تحاول… أن تفرض عليهم المعتقدات التي تحثهم على تقوى الله. ذلك لأن هذه الأمور تعد حقا خالصا بكل فرد، لا يمكن لأحد – ان شاء- أن يسلبه اياه”13[13]

لعل المكاسب من هذا الفصل عديدة : أهمها هو الانتقال من الاعتراف بالجانب الجمعي للمعتقد الى الاقرار بالبعد الفردي وحرية الاختيار الشخصي في المجال الديني. ثانيا تمتع الفرد بحق السيادة على نفسه وعلى معتقداته باعتباره ذات قانونية مستقلة تتمتع بحرية الوجدان ويحق لها مراجعة اختياره وهو ما يطرح مسألة التمتع بحق التراجع والتغيير والانتقال من معتقد الى آخر.

المكسب الثالث هو التفطن الى ضرورة حسن ضيافة بين العقائد وتعايش سلمي وسيرة حسنة بين الطوائف والملل وتجنب التحارب والتنابذ والاتفاق على مدونة أخلاقية وقواسم مواطنية مشتركة.

المكسب الرابع هو تبديد المخاوف بخصوص انتهاك حرية المعتقد والتضييق على الاجتهاد والتأويل والتفكير في الحقل الديني والتراجع عن المكاسب المدنية والفهم العقلاني الموضوعي.

غير أن الدولة يمكن أن تعترض على الاستبدال والانتقال من معتقد الى آخر وتدرج ذلك ضمن باب الردة وتحرك مبدأ حماية المقدسات وواجب الدفاع عن عقيدة المجتمع وصيانة رموزه وملته.

كما يبرز على السطح تناقضا حادا بين حرية الفرد في اختيار المعتقد الديني على الصعيد الشخصي وحقه في ابداء الرأي في قناعات الجماعة التي ينتمي اليها وحرية الجماعة في ممارسة قناعاتها الدينية في كنف الأمن والتسامح وحقها في صيانة مقدساتها من كل تهكم. زد على ذلك يمكن أن يحدث تصادم بين ديانة الأغلبية والقناعات الفردية ويعمق السماح بحرية الضمير هذا الشرخ بين السياسة الدينية للدولة وخاصة مؤسسة الافتاء ورعاية تصريف شؤون المقدس وبين حق المواطنين في التفكير والاجتهاد والتأويل والتعامل العلمي مع المعتقدات.

بيد أن الحرص على حماية الدين الرسمي بالإكراه والقوة من قبل الدولة قد يضعف مشاعر الانتماء الديني ويجعل الناس تعزف عن التقيد بالطقوس ويكثر التظاهر بالتدين الشكلي والرياء بينما في الأنظمة الديمقراطية التي تعطي حرية الضمير يرتفع عدد المرتادين للمعابد والمجاسد وتزيد نسب التدين واحترام  المقدسات وتزدهر المعتقدات المهمشة وتتعايش الأديان في تسامح.

غاية المراد هو الاقرار بأن حرية الضمير أوسع من حرية المعتقد  والقول بتعددية الأنظمة الاعتقادية وذلك لأن حرية الضمير مستقلة عن الضمير الجمعي وتشرع الاختلاف والتنوع والكثرة وترسم حدودا بين الخاص والمشترك وبين الفرد والجماعة وتنقل المجتمع من التراث الى الحداثة.

تبعا لذلك يسمح مبدأ حرية الضمير بالتعايش بين الدينيين واللاّدينيين وبين اللاّدينيين واللاّأدريين وبالاحترام المتبادل بين المذاهب والطوائف والملل والنحل داخل نفس الدين ونفس النسق الايماني. لقد حق التمتع بحرية الضمير وفتح الباب على مصراعيه للتعامل مع المعتقد كوسيط رمزي وسردي بين الفرد وهويته وتحويل الديني الى فضاء للتضامن ومشاركة المجموعة وساعد ذلك على تذكر العذابات الماضية وبذلت محاولات للتخلص منها وتم تحويل مجال الاعتقاد الحر الى اطار مؤسساتي للدفاع على محددات انسانية الانسان ورقي مدنيته. هكذا تتفق حرية الضمير المنصوص عليها في الدستور التونسي مع الاعلان العالمي لحقوق الانسان والمواطن ومع العهد الدولي للحريات والحقوق وتتوافق مع المقاصد الكلية للإسلام في مذاهبه التسعة. كما تساعد حرية الضمير على ضمان الحريات الأخرى وتعد شرطا أسياسيا من شروط المواطنة. لكن ألا يوجد تضارب بين الفصل الأول من الدستور الذي يعتبر الاسلام مرجع ديني أساسي للدولة والشعب التونسييين وبين الفصل السادس المثير للجدل الذي يعطي للأفراد حرية الضمير ويكفل لهم حقهم في اختيار المعتقدات الخاصة بهم دون اكراه سلطوي أو اتهام بالردة؟

خاتمة:

” ان الحق في الوجود وفي الفعل بحرية يحددهما اقتدار الكائن الفاعل وفق خيره الخصوصي أملا بخير أعم وتجنبا لشر أشر”14[14]

في المجمل انقسم الفكر الفلسفي الى داعم لحرية الضمير وخاصة مع التيار الليبرالي المعاصر المناصر للقيم الكونية والتحررية (جان رولز) ورافض له مع التيار الجماعياتي المحافظ على خصوصية الهويات ووحدة الذات الجماعية على حساب الذات الفردية ( مايكل صاندال)15[15].

ما يتم استخلاصه من الناحية الاتيقية من حرية الضمير هو تخطي العناصر التكوينية للفضاء الطقسي وخاصة الأرواحية والأنثربومورفية والاحيائية animisme ومعالجة مشاكل الشر والعنف والكذب والشمولية غير المستساغة والتي لا تطيقها العقول وتضيق على النفوس والأجساد والقيام بصيانة رمزية القداسة والروحانية والوحدانية والهوية من خطاب التبئير والاختزالية والتعطيل16[16].

من تبعات الاقرار بحرية الضمير الاعتراف أيضا بحرية البحث وحماية مبدأ الحرية في العمل العلمي واعتباره الحق الأساسي الأول الذي يحمي خصوصية الباحث ويصون براءة اختراعه.ويرتبط حرية البحث العلمي بالحق في الاجتهاد العقلي والتدبير العملي من أجل الحصول على المعلومة والاستفادة من المعارف المتجددة طالما أنه لا تسبب الضرر للغير وتجلب المنفعة 17[17].

في نهاية المطاف يمكن التأليف بين الفصل الأول الذي ينص على الاسلام باعتباره دين الشعب والفصل السادس من الدستور الذي يقر بحرية الضمير بالاعتماد على منهج تأويلي لفقه القانون.

لكن كيف تساعد حرية الضمير الهوية على الانتقال من مجال انتماء الى التزام بمشروع كوني؟ وهل يعطي الاقرار بهذا المبدأ في الدستور الحرية للأفكار والمعتقدات والايديولوجيات المستبعدة ويشرع للتعددية الثقافية ويضمن الحقوق والحريات لبعض الأقليات الدينية واللاّدينية؟ وألا تحمل الأديان رسالة تثقيف وجهد تحضر وإرادة ترقي؟ لماذا تحولت الى علامة انحطاط وسبب للتصادم بين الثقافات؟ ماهي أسباب ذلك؟ هل العلة في اطلاق الحريات في المجال الديني والرخص لحرية الضمير أم في العنف التأويلي الذي تتعرض له النصوص المؤسسة ؟

الهوامش والإحالات:

[1] Morin (Edgar), mes démons, éditions Stock, Paris, 1994, 2008.p.328.

[2] Derrida Jacques et  Vattimo Gianni ,  La religion, édition le Seuil, Paris,  1996.

[3] Morin (Edgar),  Ethique, la méthode 6, édition du seuil, Paris, 2004.p.p.193-194.

[4]  لوك (جون) ، رسالة في التسامح، ترجمة عبد الرحمان بدوي، دار الغرب الاسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1988.ص.70.

[5] Rousseau (Jean Jacques), Emile  ou de l’éducation (1762), Partie 4, édition Garnier, Paris, 1961. p.348.

[6] Godin ( Christian) , Dictionnaire de philosophie, Fayard, édition du temps, Paris, 2004.p.289.

[7] Godin ( Christian) , Dictionnaire de philosophie, op.cit, p246.

[8] Godin ( Christian) , Dictionnaire de philosophie, op.cit, p728.

[9] Godin ( Christian) , Dictionnaire de philosophie, op.cit, p729.

[10]   كيملشكا ( ويل) ، مدخل الى الفلسفة السياسية المعاصرة، ترجمة منير الكشو، المركز الوطني للترجمة ، دار سيناترا، تونس،طبعة أولى، 2010. ص.286.

[11]  “لكلّ شخص حقّ في حريّة الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحقّ حريّته في تغيير دينه أو معتقده”

[12]  “لا يجوز تعريض أحد لإكراه من شأنه أن يخل بحريته في أن يدين بدين معين، أو بحريته في اعتناق أي دين أو يختار أي معتقد”

[13]  سبينوزا ( باروخ ) ، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، دار الطليعة ، بيروت، الطبعة الرابعة، 1997. ص.444.

[14]  العيادي ( عبد العزيز) ، فلسفة الفعل، مكتبة علاء الدين، صفاقس، تونس، الطبعة الأولى، 2007. ص.165.

[15]  الكشو ( منير ) ، حرية الضمير بين الاطلاق والتقييد، جريدة الحياة، السبت 2 نوفمبر 2013. الرابط

http://alhayat.com/Details/567599

[16] Alain B.L ; Gérard, Athéisme et religion, éthique et modernité 4, réponses philosophiques, édition érès , 1999.p.25 : « pour beaucoup d’arabes établis en Europe, l’islam est bien plus un moyen de conserver leur identité culturelle et leurs habitudes de vie qu’une option religieuse profonde ».

[17] Mathieu ( Bertrand), la bioéthique, éditions Dalloz, Paris, 2009.pp.42-43.

المراجع والمصادر:

  العيادي ( عبد العزيز) ، فلسفة الفعل، مكتبة علاء الدين، صفاقس، تونس، الطبعة الأولى، 2007. ص.165.

 

كيملشكا ( ويل) ، مدخل الى الفلسفة السياسية المعاصرة ، ترجمة منير الكشو، المركز الوطني للترجمة ، دار سيناترا، تونس،طبعة أولى، 2010.

سبينوزا ( باروخ ) ، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، دار الطليعة ، بيروت، الطبعة الرابعة، 1997.

لوك (جون) ، رسالة في التسامح، ترجمة عبد الرحمان بدوي، دار الغرب الاسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1988.

Alain B.L ; Gérard, Athéisme et religion, éthique et modernité 4, réponses philosophiques, édition érès , 1999.

Derrida Jacques et  Vattimo Gianni ,  La religion, édition le Seuil, Paris,  1996.

Godin ( Christian) , Dictionnaire de philosophie, Fayard, édition du temps, Paris, 2004.

Mathieu ( Bertrand), la bioéthique, éditions Dalloz, Paris, 2009.

Morin (Edgar), mes démons, éditions Stock, Paris, 1994, 2008.

Morin (Edgar),  Ethique, la méthode 6, édition du seuil, Paris, 2004.

Rousseau (Jean Jacques), Emile  ou de l’éducation (1762), Partie 4, édition Garnier, Paris, 1961.

كاتب فلسفي

 

[1] Morin (Edgar), mes démons, éditions Stock, Paris, 1994, 2008.p.328.

[2] Derrida Jacques et  Vattimo Gianni ,  La religion, édition le Seuil, Paris,  1996.

[3] Morin (Edgar),  Ethique, la méthode 6, édition du seuil, Paris, 2004.p.p.193-194.

[4]  لوك (جون) ، رسالة في التسامح، ترجمة عبد الرحمان بدوي، دار الغرب الاسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1988.ص.70.

[5] Rousseau (Jean Jacques), Emile  ou de l’éducation (1762), Partie 4, édition Garnier, Paris, 1961. p.348.

[6] Godin ( Christian) , Dictionnaire de philosophie, Fayard, édition du temps, Paris, 2004.p.289.

[7] Godin ( Christian) , Dictionnaire de philosophie, op.cit, p246.

[8] Godin ( Christian) , Dictionnaire de philosophie, op.cit, p728.

[9] Godin ( Christian) , Dictionnaire de philosophie, op.cit, p729.

[10]   كيملشكا ( ويل) ، مدخل الى الفلسفة السياسية المعاصرة، ترجمة منير الكشو، المركز الوطني للترجمة ، دار سيناترا، تونس،طبعة أولى، 2010. ص.286.

[11]  “لكلّ شخص حقّ في حريّة الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحقّ حريّته في تغيير دينه أو معتقده”

[12]  “لا يجوز تعريض أحد لإكراه من شأنه أن يخل بحريته في أن يدين بدين معين، أو بحريته في اعتناق أي دين أو يختار أي معتقد”

[13]  سبينوزا ( باروخ ) ، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، دار الطليعة ، بيروت، الطبعة الرابعة، 1997. ص.444.

[14]  العيادي ( عبد العزيز) ، فلسفة الفعل، مكتبة علاء الدين، صفاقس، تونس، الطبعة الأولى، 2007. ص.165.

[15]  الكشو ( منير ) ، حرية الضمير بين الاطلاق والتقييد، جريدة الحياة، السبت 2 نوفمبر 2013. الرابط

http://alhayat.com/Details/567599

[16] Alain B.L ; Gérard, Athéisme et religion, éthique et modernité 4, réponses philosophiques, édition érès , 1999.p.25 : « pour beaucoup d’arabes établis en Europe, l’islam est bien plus un moyen de conserver leur identité culturelle et leurs habitudes de vie qu’une option religieuse profonde ».

[17] Mathieu ( Bertrand), la bioéthique, éditions Dalloz, Paris, 2009.pp.42-43.