23 ديسمبر، 2024 5:03 ص

الحرية بين الانحراف الديني والانظمة اللقيطة

الحرية بين الانحراف الديني والانظمة اللقيطة

للحرية مفاهيم عدة ،تختلف بحسب تعريفها الفلسفي او المعجمي او حتى منظورها وسياقها القانوني واستخدامها السلوكي (الفردي او المجتمعي) . ولا يبتعد تعريفها الجامع عن انها تعني غياب (الإكراه )، ويرى في ذلك بعض الفلاسفة(ان تقديم حجة على وجود الحرية سيقتل الحرية).
فيما تتعدد المذاهب السياسية في نظرتها و اعتباراتها للحرية وكيفية ممارستها ، حيث يذهب المذهب الاشتراكي في وضع تاج القدسية على رأس الجماعة ليعتبرها هي غاية التنظيم السياسي ليسحق يذلك الفرد ويجعله اداة بيد السلطة ،على العكس من المذهب الفردي الذي يعتبر الفرد هو الغاية والسلطة هي الوسيلة لتحقيق آمان ورفاهية المجتمع، الى جانب وجود المذهب المعتدل الذي له تدخلاته الجزئية في هذا الشأن . 
وبعيدا عن الفلسفة وتعقيدات اللغة ،الى جانب ترك الاختصاص القانوني لأصحابه في محاولة لبلوغ الهدف بأقصر الطرق ،نوجز ان الحرية هي ( عدم مملوكية الإنسان ،وقدرته على العمل او الإمساك عنه بإرادته ،وإمكانية اتخاذه القرارات دون الخضوع للتأثيرات والضغوط ،بالإضافة الى حرية الرأي والاعتناق الفكري والعقائدي وغيرها من أبواب الحرية) ،ولمعرفة النظام السياسي لأي بلد لابد من متابعة “مقياس” الحرية المسموح بممارستها .
وهنا اجزم ان اغلب بلداننا العربية والإسلامية قبل وبعد (الربيع)!! الذي شهدته بعضها ،ان مقياس درجة الحرية فيها يؤشر دون الصفر ،كما لا توجد هوية سياسية لأنظمتها ما يصح ان يطلق عليها بـ(الأنظمة اللقيطة) ،دكتاتورية شمولية، وتصدر الحرية عبر الشعارات و الخطابات الرنانة والهتافات الحماسية الكاذبة من خلال قبضتها على مقود الإعلام الذي يقود الرأي العام باتجاه ما تؤمن به السلطة فقط،ولا يحق للمواطن ان ينطق كلمة الحرية لأنها من اختصاص السلطة ولا يجوز العبث بالأمن الوطني ومس المصالح العليا من خلال التفوه بها من قبل الناس ،ما جعل الفرد العربي يعيش بين الشعارات البراقة والمصطلحات المستوردة للمصالح السياسية دون ان يشعر بالقيمة الحقيقية للحرية، الى جانب ما يمارس ضده من اشكال التعسف والاضطهاد وسلب الحقوق بهدف كسر الإرادة وصهر الشخصية وتجفيف منابع التفكير في الانتفاض على الواقع ،في ذات الوقت الذي تمارس فيه السلطات الدينية المهيمنة، سياسة التجهيل والترهيب والترغيب باسم ( الرب ) لإخضاع الفرد المنهك الى عبوديتها وإشعاره بالحاجة اليها من اجل كسب امتيازات “الجنة” وفق مبدأ الترغيب وتجاوز عقبة “النار” بمبدأ الترهيب حتى أوصلته الى مرحلة اليأس من الحياة بعد ان ضيقت بفتاواها مساحة العيش بقيود الحرام وعدم الجواز الشرعي وما الى ذلك من أدوات رجال الدين لسوق الناس وفق رغباتهم وإراداتهم تحت سوط الشرع المقدس،! أضف الى ذلك ممارسات السلطات الحاكمة “التعسفية” من خلال تضيق مساحات الحرية وامتهان الكرامة قد أفقدت الإنسان الرغبة بالحياة وقتلت داخله الإحساس بجمالها وإمكانية استثمار لحظاتها.
وبعد ذلك الاستسلام والتخلي قد أوكل الإنسان في هذه المجتمعات وتحت عنوان (المنقذ والمخلص) مهمة العقل والتدبر والإرادة الى ما يسمى برجال الدين ليقرروا بالنيابة عنه ويسيروا به الى حيث ما تشاء رغباتهم “اللادينية “ومصالحهم المرسومة ،ولأجل ذلك صار رجال الدين يعرفون ويفصلون “الحرية” بحسب مقاسات عباءاتهم ويحددون مسارات سلوكها الى الحد الذي يضمن بقاء الناس بالدوران داخل ساحة القدسية!!!،مع ان الدين الحقيقي يحارب العبودية ويدعم حرية الإنسان ويصور له جمال الحياة ،ويؤكد على أهمية الفكر والحوار وعدم إلغاء العقل وضرورة التفكر والتدبر والتأمل، كما انه ينطلق من الحقائق العلمية لا الخرافات والأساطير المجنونة .
لذلك نحن الآن نواجه آلات بشرية تحركها يد الجهل والتطرف والدفع السياسي باتجاه قتل القيم الإنسانية من خلال أناس قد غيبت عقولهم وتمكنت منهم عجلة الثقافة الدينية الموروثة والمنحرفة (المقصودة) ،وصنعت منهم سكاكين موت تذبح بهم بقايا الإنسانية أينما وجدت ،لذا لا يمكن القضاء على هذا المد الدموي الخطير والمنحرف من خلال تجييش الجيوش وعقد التحالفات الدولية وبيانات استنكار الأمين العام للأمم المتحدة ،بل بحاجة مع ذلك الى ثورة ثقافية فكرية بمشرط التصحيح والمناهضة من اجل القضاء على الفكر الفاسد واستنقاذ ما تبقى من عقول يعمل التطرف الديني على تغييبها وإلحاقها بدائرته الإرهابية، وان هذه المسؤولية هي تضامنية لا يمكن لفرد بمفرده او دولة ديمقراطية لوحدها ان تنهض بها،وإنما يجب على كافة قوى الخير ومن يؤمن بالحياة وجمالها حول العالم ان تحث الخطى وتضع الجهود في خدمة الهدف الإنساني وان تتحرك لإدارة عجلة الحرب الثقافية من اجل استئصال هذا المرض الخطير الذي أصاب الجسد الإنساني وصار ينتشر بسرعة النار في الهشيم وهو يهدد الجميع دون استثناء ،ولتكن البداية من الوقوف بوجه الأنظمة والدول الراعية والمصدرة للتطرف الديني والعنف والإرهاب بشكل جاد ،وكذلك بعض مؤسسات ومساجد السوء التي تمكن القائمين عليها من “تخدير” الشباب وتجميد عقولهم حتى صاروا يتفاخرون بقطع رؤوس البشر ويتلذذون بشرب الدماء وينظرون الى الحرية بأنها من الآثام والكبائر التي تجيز قتل ممارسيها ،وحتى الابتسامة يعتبرونها من صفات الفاسق، فضلا عن نظرتهم الى المرأة واعتبارها(عورة) ووجوب سبيها ودفعها الى منقذيهم من رجال الانحراف الديني الذين أعادوا أسواق النخاسة وصدروا للعالم ان العنف والقتل والجهل والتخلف هي من سمات المسلم، بالإضافة الى ضرورة اعادة صياغة مناهج دراسة الأطفال وفق نظام التنشئة ،ودعم ومساعدة بعض المجتمعات على امكانية التخلص من العقد والعادات الموروثة والتي تحولت الى سلوكيات مجتمعية خطيرة ومخيفة. فلا نتائج من صواريخ التحالفات العسكرية في معركة التطرف الذي تشغل العالم بأسره من غير إسناد مشرط الثقافة والفكر.