23 ديسمبر، 2024 1:59 م

الحريات العامة في المذاهب الفكرية

الحريات العامة في المذاهب الفكرية

تعتبر مسألة الحرية وبحق من أدق واخطر المسائل التي حظيت بالبحث والدراسة قديما وحديثا. فقديما، عدت من اعقد المشكلات الفلسفية، وأشدها استعصاءا، إذ واجهت الباحثين والمفكرين من قديم الزمان، وعاصرت الفكر الإنساني وسايرته ابتداء من عهد فلاسفة الإغريق القدامى وحتى عصرنا الحاضر، الأمر الذي أدى إلى تشعب الأفكار واختلاف الآراء حولها اختلافا عظيما، لم يحدث له مثيل في أي مفهوم آخر. أما حديثا، فهي ما زالت تحتل مكان الصدارة، ومركز اهتمام الكثيرين من فلاسفة وفقهاء وكتاب وغيرهم، ومكمن السر في اكتساب الحرية هذه الأهمية الأساسية والبالغة، هو ارتباطها الوثيق بحياة الإنسان وبقيمته وكرامته وتحقيقا لهذا المقصد كانت الحرية ولا تزال من أغلى الأشياء التي ناضلت الشعوب من أجل أن تنعم بها، وسيستمر ويتواصل نضالها حاضرا ومستقبلا، طالما أن هناك حقوقا مغتصبة، وحريات منتهكة للأفراد والمجتمعات، سواء كان ذلك على المستوى الداخلي المحلي أو على المستوى الخارجي الدولي. إن من يستقرئ التاريخ يكتشف هذه الحقيقة، ويتبين له بجلاء أن الاهتمام الأول للفرد عبر العصور هو المطالبة بحقوقه وحرياته، وأن تطور المجتمعات السياسية هو في الواقع تطور لصراع مرير ومتواصل بين السلطة السياسية والتي هي ضرورة اجتماعية لإقامة حياة أفضل، وبين الحرية التي ينشدها الإنسان بطبعه. وإذا كانت الحرية تعد وبحق، من أقدس حقوق الإنسان، فلا غرابة إذن، أن تكون سببا لسقوط الكثير من الضحايا، واشتعال الكثير من الحروب على مر التاريخ، وأن نراها في عصرنا الحاضر تحتل مكان الصدارة في الصحف، وفي الخطب البرلمانية، والمحافل الدولية وتتبوأ مكانا بارزا في صلب الدساتير وإعلانات الحقوق، حتى أصبحت قاعدة جوهرية، وركيزة أساسية لكل تشريع أو نظام سياسي، كيفما كانت أسسه ومبادئه، ومهما اختلفت مقاصده وأهدافه. أن كون الحرية ضرورة طبيعية فلأن الفرد يحس حريته واستقلاله الذاتي عن غيره إحساسا طبيعيا، ينسجم مع إحساسه بتميزه الذاتي، وهذا يناسب نظرة المجتمع باعتباره فردا مستقلا حرا مكلفا. أن مفهوم الحرية والاختلاف حوله قد عاصر وساير تطور الفكر الإنساني منذ بدايته وحتى عصرنا الحديث، وبناء على ذلك فإنه يبدو- منطقيا- أن البحث عن تعريف موحد لها سيظل أمرا عسيرا طالما أن مفهومها متذبذب ومختلف بحسب اختلاف الزمان والمكان والمذهب الفكري السائد في أي مجتمع. ولهذا، فقد عبر الرئيس الأمريكي: إبراهام لنكولن ” في خطاب ألقاه عام 1864 م عن هذا المعنى بقوله: “إن العالم اليوم لم يصل أبدا إلى تعريف طيب للفظ الحرية، فنحن إذا كنا نستعمل ذات الكلمة، فإننا لا نقصد ذات المغزى أو المعنى. إذا كان الفرد كائنا اجتماعيا بطبعه ولا يحيا إلا في نطاق مجتمع يخضع لدولة، وله أهداف يسعى إلى تحقيقها، فإنه من غير المجدي البحث عن حريته خارج هذا الإطار، أي بمعزل عن علاقاته مع غيره من أفراد المجتمع الذي يعيش فيه وعن الدولة التي تحكمه. وهذا ما يؤكد لنا الطابع النسبي للحرية، فأساسها ومدارها يتوقف على تركيب الكيان الاجتماعي.
فحرية الفرد تقابلها حريات الأفراد الآخرين، وكذا حرية الدولة، الأمر الذي ينفي تصور أو وجود، حريات مطلقة دون أن يتضمن ذلك اعتداء على حقوق وحريات الآخرين. وبناء على ما تقدم يجب على الفرد، إذا أراد أن يتمتع بحريته، أن يلتزم الحدود، والأنظمة والأهداف المعينة للمجتمع الذي يعيش فيه، ومن خلالها يتسنى له تحقيق أهدافه ومصالحه، وفي مقابل ذلك يضمن عدم اعتداء الآخرين على حقوقه وحرياته – بدعوى تمتعهم أيضا، بحقوقهم وحرياتهم ذلك هو ثمن الحياة المشتركة المنظمة والتي ترفض حماية النظام العام ، وهو المبدأ الذي يفصل بين الحرية وبين الفوضى، لكن على السلطة العامة إذا كان الفرد كائنا اجتماعيا بطبعه ولا يحيا إلا في نطاق مجتمع يخضع لدولة، وله المحافظة على كيان الدولة، مع ضرورة مراعاة التوازن بين الحرية ووجود الدولة. إذ يجب أن تنتهي حرية الفرد حيث تبدأ حريات الآخرين، وهذا لكي يتمكن الجميع من اقتسام الحق والحرية اللازمين للمعيشة المشتركة في مجتمع واحد, ألا تسيء استغلاله للقضاء نهائيا على الحريات  وبغير هذا التصور للحرية المنظمة، فإن النتيجة هي تدهور السلام الاجتماعي، وانهيار المجتمع، ويصبح الكلام عن ممارسة الحرية ضربا من الوهم والخيال، لأن الحرية المطلقة لم يكن لها في أي يوم وجود واقعي .و التوازن السياسي والاقتصادي والاجتماعي هو جوهر الحرية. إذا كان المعنى النسبي للحرية، هو حجر الزاوية والطابع المميز لممارسة أية حرية داخل المجتمع المنظم، فإن هذا التصور، لن يؤتي ثماره ونتائجه المرجوة وسيبقى ناقصا، ومفرغا من محتواه الإنساني والشامل، ما لم يستند إلى مذهب فكري متوازن. وحرية الإنسان، هي تلك الحرية النسبية نتيجة رضوخه القسري لعوامل الطبيعة ونواميسها، إضافة إلى اضطراره للالتزام بالحدود المعينة للمجتمع الذي لا بد أن تحد من حريته. لان الإنسان إذا لم يراع قواعد المجتمع ستكون النتيجة انهيار هذا المجتمع الذي يعيش فيه. .. إن حرية الإنسان تفسر على أنها حقه، بقدر ما تحمل الخير النافع للإنسان ومجتمعه الذي ينتمي إليه. وبهذا التشخيص تصبح الحرية عدوة الفوضى، كما أنها عدوة الاستبداد والاستعباد، وضمن هذه الحدود “أي  الحرية المنظمة” الحضارة، وتقدم البشرية وتحقيق الخير والسعادة للإنسانية. أما القيود الخارجية بحكم القانون، والتي يفرضها ولي الأمر، فهي تكون حين يضعف المعنى النفسي في نفوس بعض الناس، والتي هي في الواقع حماية للحرية وليست قيودا، إلا للذين انطلقوا غير مراعين حقها،وحق الغير في أن يتمتع بحرية سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، في ظل نظام سياسي عادل، بحيث إذا اختل هذا التوازن، فقدت الحرية قيمتها الحقة وبعدها الإنساني الشامل. غير أن التوازن السياسي لا يتحقق في المجتمع، ولن تظهر آثاره على أرض الواقع، إلا في ظل نظام قانوني عادل، يضمن للمحكومين حرية اختيار أحسن الحاكمين بإرادتهم الحرة المعبرة، والعارية عن أي شكل من أشكال الضغط والإكراه، والخالية من أي لون من ألوان الغش، والتزوير، مهما كان نوعه، وكيفما كان مصدره ودواعيه. وبغير سلوك هذا الطريق، فإن الأمور ستؤدي حتما إلى فقد الثقة بين الحاكم والمحكوم، وبالتالي زعزعة قيمة الحرية، بمعناها الإنساني الشامل، وعودة الصراع من جديد، بمعناه السياسي، وذلك كنتيجة طبيعية ورد فعل معاكس للقهر السياسي الذي تمتهن بسببه حريات الفرد وحقوقه، وتصادر فيه إرادته، وما ينتج عن كل ذلك من استغلال واستبداد اقتصادي واجتماعي لأفراد الجماعة، وكثرة الشواهد التاريخية ماضيا وحاضرا، خير دليل على تأكيد هذا التحليل، سواء منها ما كان مطبقا، تحت ظل السلطان الكنسي والملكيات المطلقة في أوروبا قديما، أو كما هو الحال، حديثا، في ظل النظم السياسية الدكتاتورية، التي تمنع الفرد من حرية نقدها والخروج عن منهجها، وتنكر عليه التمتع بممارسة حقوقه وحرياته السياسية بصورة فعلية.
أما على الجانب الاقتصادي، فإن الاختلال وعدم التوازن في العلاقات الاقتصادية، وما يولده من نتائج سلبية، يجعل المفهوم الاقتصادي للحرية يبرز، ويطغى على ما سواه، كنتيجة طبيعية لعدم التقارب الاقتصادي، وكرد فعل حتمي للفوارق الجسيمة بين الفئات الاجتماعية، بحيث تهتز القيم الاجتماعية والسلام السياسي في الدولة، ويصبح الصراع والصدام هو المحصلة النهائية في المجتمع، نتيجة عدم المساواة الاقتصادية.
إن ثمرة الحرية ودرجتها مرتبطة إلى حد كبير بمدى تقدم المجتمع اقتصاديا، وتوافره على عوامل الثروة، وانتعاشه المالي، شريطة قيامه بتنظيم وتوزيع أكثر عدالة للثروة، وتأمين الأمن المادي والمعنوي لمختلف الطبقات الاجتماعية. ذلك أن عدم المساواة في توزيع ثمار العمليات الاقتصادية بين أفراد المجتمع، سيؤدي لا محالة، إلى إنكار الحرية كحقيقة واقعية، ويفقدها قيمتها الجوهرية الحقيقية بمفهومها الإنساني والشامل.
أما على الصعيد الاجتماعي، فإن الحرية ستكون مفرغة من معناها الحقيقي ما لم تستند إلى نظام اجتماعي عادل، ينظر إلى أفراد المجتمع، نظرة إنسانية متساوية، لا تمييز بينهم بحسب الجنس، أو اللون، أو اللغة… الخ. بل يكون ميزان التفاضل فيه هو السلوك القويم، والعمل الصالح الهادف إلى المساهمة في تحقيق مصالح الجماعة.
فلو اخذنا المذهب الليبرالي نراه يعتمد في هذه المضمار على معيار “جون استيوارت ميل” متخذا إياه معيارا ضابطا للتجريم والإباحة في الكثير من القضايا، وهذا المعيار يتمثل في “عدم الإضرار بالغير” فأنت حر ما لم تضر. ويشترط “ميل” لتجريم التصرف أن يكون الضرر عاما، ومحددا، فإن كان التصرف شخصي الأثر، أو أصاب أشخاصا لا يمكن تحديدهم فلا تجريم حينئذ، وإن دخل التصرف في دائرة التصرفات اللاأخلاقية. فالسلوك الفردي المعيب، طالما أنه لا يمس أي واجب خاص قبل المجموع ولا يلحق الأذى بأي فرد آخر، فإنه يجدر بالمجتمع تحمله من أجل مصلحة أكبر مما يحققه عدم تركه لسلوكه المعيب، وتلك المصلحة هي الحرية. فقيمة الحرية وإن تعارضت مع بعض القيم الاجتماعية، وجب تفضيلها وإن ترتب على ممارستها ضرر يسير بالمجتمع. وعلى هذا ينبغي على المشرع إلا يضيق من مكنة الفرد في الاختيار، بالإفراط في فرض القواعد الملزمة له. التصرفات اللاأخلاقية الشخصية بناء على ذلك تعتبر مباحة، حيث تخرج عن دائرة التصرفات اللاأخلاقية الشخصية بناء على ذلك تعتبر مباحة، حيث تخرج عن دائرة التصرفات الممنوعة، ولا شأن لها بالقانون.
أما المذهب الماركسي فانه يختلف في تقييمه للصراع بين السلطة والحرية عن المذهب الليبرالي، فإذا كان المذهب الأخير يؤمن بضرورة وجود السلطة، والاكتفاء بوضع قيود قانونية للحد منها لتحقيق الحرية وحمايتها، المذهب الماركسي يرى إن السلطة هي مضادة للحرية من حيث المبدأ.ففي المجتمع الرأسمالي كما يرى الشيوعيون يكون الصراع والتضاد بين السلطة والحرية شاملا وواضحا وأكثر حدة، وذلك بسبب التناقضات الداخلية التي يحتويها هذا النظام بسبب قيامه على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، والتي سوف تؤدي حتما إلى خلق طبقتين في المجتمع، طبقة مستغلة تملك الثروة بالإضافة إلى السلطة وطبقة مستغلة معدومة لا تملك شيئا من ذلك، وهنا يبرز الصراع والتضاد بين السلطة التي تملكها الأقلية، وبين الحرية التي سوف تسلب من الأغلبية. تمثل الأولى منهما مرحلة انتقال نحو الشيوعية، يتم فيها إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج لصالح الأغلبية، وتتميز بخصائص ومميزات مشتركة اجتماعية واقتصادية للمجتمعين الرأسمالي والشيوعي، هو بمثابة صراع بين الرأسمالية  والشيوعية. وعند بلوغ المجتمع الشيوعي، فإن ظاهرة السلطة ستختفي وتتحقق الحرية بأسمى معانيها، حيث يتحرر الفرد من مختلف الضغوط والقيود التي يخضع لها في المجتمعات السابقة، فيتحرر سياسيا من ضغط الدولة، واقتصاديا من ضغط الحاجة.
تختلف الأنظمة السياسية المعاصرة فيما بينها، حول إعطاء معنى موحد ومنضبط للحرية السياسية، كما تتباين نظرتها في تحديد مضمونها ومحتواها ضيقا واتساعا، ورغم هذا التباين والذي يرجع أساسا إلى اختلاف المبادئ والأسس الفكرية التي يعتنقها كل نظام، إلا إن الإجماع يكاد ينعقد على أن الحرية السياسية هي التي تؤمن من الناحية العملية، قيام أفضل النظم السياسية. وإذا كان مصطلح الحرية السياسية يتميز لدى بعض الفقه عن مصطلح الحريات العامة أو “الفردية” باعتبار أن الحريات الأخيرة هي امتيازات خاصة للأفراد يمتنع على السلطة التعرض لها أو التعدي عليها لكونها حقوق لصيقة بالانسان بينما الأولى تتضمن وضع السلطة في يد الشعب ,غير أن ذلك لا ينفي القول بأن الحرية السياسية بما تتضمنه من حقوق وحريات، كحق الانتخاب، وحرية الترشيح، وحق الاستفتاء …إلخ، تعتبر نوع من الحقوق والحريات العامة أو الفردية، وذلك بالنظر إلى صاحبها وطريقة ممارستها، وذلك بالرغم من وجود بعض الاختلافات والتباين في مفهوم كلا المصطلحين. كما قد يثور التساؤل عن التمييز بين مفهوم الحريات العامة، ومصطلح حقوق الإنسان، حيث قد تباينت آراء الفقه حول هذه المسألة، نظرا لوجود التقارب بين المفهومين، لدرجة أن البعض قد اعتبرهما شبه مترادفين، أو متطابقين، خاصة بعد أن أصبحت حقوق الإنسان ركنا أساسيا، سواء الواردة في الإعلان الفرنسي لسنة 1789 ، أو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 ، عن الجمعية العامة للأمم المتحدة وغيرهما.
نخلص مما تقدم، إلى أن الحرية بمعناها الإنساني والشامل لن تتحقق إلا في ظل نظام سياسي عادل، يستند إلى مذهب فكري متوازن سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، قادر على ضبط الحركة الاجتماعية بمفهومها الواسع، بواسطة آليات توفيقية بين مصلحة الفرد والجماعة. وضمن هذه الأطر، وتوفر تلك الشروط، تصبح الحرية ترمز إلى ذلك”الخير العام الذي يمكن الإنسان من التمتع بجميع الخيرات الأخرى وقدرته على اختيار سلوكه بنفسه ضمن قواعد المجتمع الذي يعيش فيه.