قد يكون الشلل الذي أصاب العالم على كافة الصعد، وفي مقدمتها الإقتصادية والإجتماعية، والناتجة عن تفشي وباء “كوفيد-19” المستجد، فتح باب التكهنات أمام المؤمنين بنظرية المؤامرة، مستنتجين بأن فيروس هو كورونا صنيعة بشرية اُعدت في مختبرات خاصة يُراد منها النيل من دولة أو مجتمع ما.
وذهبت بعض الآراء إلى أكثر من ذلك، والتي تشير إلى أن الهدف من هذا الفيروس هو لتغيير النظام العالمي برمته. وما متفق عليه اليوم بأن العالم بعد جائحة كورونا لن يكون كسابقه.
ولو أخذنا هذه التكهنات على محمل الجد، فأنها ستكون جزء من الحروب الهجينة المنتظرة في المستقبل، أو حتى يمكن القول أنها سارية اليوم، والتي يُشكل التطور التكنولوجي فيها عاملاً أساسياً، إذ يتم إستخدام التكنولوجيا ليس فقط في تطوير التقنيات العسكرية الحديثة كالصواريخ النووية والمقاتلات وغيرها، بل أيضاً في الطب الوراثي الذي سيأتي الحديث عنه لاحقاً، وحرب المعلومات والسيبرانية التي باتت تُعد الأخطر.
وفي هذا السياق، توجه الولايات المتحدة الأمريكية الإتهام لروسيا بشنها هجمات ألكترونية أدت إلى فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على منافسته هيلاري كلنتون، بما في ذلك عن طريق إنشاء آلاف الصفحات الوهمية على مواقع التواصل الإجتماعي، ومن ثم قرصنة البريد الألكتروني الشخصي لكلنتون ونشر المعلومات على تلك الصفحات، الأمر الذي أدى إلى تراجع شعبيتها عشية الإنتخابات التي جرت عام 2016م.
كما يعود الدور الأهم في الحرب الهجينة إلى الدبلوماسية الأجتماعية القادرة على إظهار التأثير الضروري على أطراف النزاع بهدف إضفاء التوجه المطلوب على الأحداث. وفي الوقت نفسه تنظيم مواجهات الهجمات الإعلامية للعدو.
وقبل الغوص في تفاصيل الحروب الهجينة يجب علينا معرفة ما هي:
يتفق الباحثون على تعريف الحرب الهجينة بأنها نوع من الأعمال العدائية، حيث لا يلجأ الطرف المهاجم إلى الغزو العسكري الكلاسيكي والقمع، بل باستخدام مجموعة من العمليات السرية كالتخريب والحرب السيبرانية، بالإضافة إلى تقديم الدعم للمتمردين الموجودين في أراضي العدو. علاوة على ذلك، قد لا تتم العمليات العسكرية على الإطلاق. ومن وجهة نظر رسمية، يمكن أن تحدث حرب هجينة في وقت السلم، كما هو الحال في عمليات التجسس التي قد تقوم بها دولة ضد دولة صديقة أخرى.
ويمكن تعريفها أيضاً بأنها الهجمات التي تستخدم وسائل نووية وبيولوجية وكيميائية والعبوات الناسفة وحرب المعلومات. ويمكن إطلاق وصف الحرب الهجينة على الديناميكيات المعقدة في ساحة المعركة التي تتطلب ردود فعل مرنة ومتكيفة.
ووصفها أمين عام حلف شمال الأطلسي ينس ستولتينبرغ بأنها حرب استراتيجية بإستخدام تزاوج أنواع مختلفة من التهديدات، تتضمن استخدام الوسائل التقليدية والتخريبية وغير النظامية والسيبرانية.
ويُعد الجيش الأمريكي من أكثر جيوش العالم الذي يصب إهتمامه بموضوع الحرب الهجينة، وقد كُرست له قضايا ومجريات في مجموعة كبيرة من الوثائق الرسمية ذات الصلة، بما في ذلك “الكتاب الأبيض” لقيادة العمليات الخاصة للقوات البرية الأمريكية أو ما يُسمى بـ”مقاومة الحرب غير التقليدية”، وكذلك المفهوم الفعال للجيش الأمريكي “الإنتصار في عالم معقد”.
ومثالاً على إستخدام مثل هذه الحروب -من الناحية الدفاعية وليست الهجومية- نشرت صحيفة “كومسومولسكايا برافدا” الروسية في عددها الصادر بتاريخ 18 مارس/ آذار 2020م، مقالاً حمل عنوان “لماذا يبتعد جواسيس حلف الناتو عن شبه جزيرة القرم؟” جاء فيه: تُعد أنشطة نظم الحرب الألكترونية الأرضية المضادة العقبة الرئيسية أمام إستطلاع سفن حلف الناتو التي تقترب من الحدود البحرية لروسيا في منطقة القرم، والتي تمتلك روسيا مجموعة منها مثيرة للإعجاب. وتشوش هذه الأنظمة معدات إستطلاع السفن الأجنبية، وتضرب العقول الألكترونية لأنظمة الملاحة الخاصة بهم، وتعطي إحداثيات كاذبة. ولهذا السبب تشعر سفن حلف شمال الأطلسي بالضياع عند حدود شبه الجزيرة.
وخلف مصطلح “الحرب الهجينة” يفهم العسكريون الأمريكيون تلك العمليات العسكرية غير المعلنة والسرية التي يهاجم خلال الطرف المحارب المباني الحكومية أو الجيش النظامي للعدو بمساعدة المتمردين أو الإنفاصليين المحليين المدعومين بالسلاح والأموال من الخارج، وكذلك من قبل المكونات الداخلية (كالأثرياء والجريمة المنظمة والمنظمات القومية والهيأت المتسترة وراء الدين).
وهذا الأسلوب هو الشائع اليوم في منطقة الشرق الأوسط، إذ ينظر الكثيرون على أن عمليات التغيير التي حصلت في الدول العربية تحت مسمى “الربيع العربي” ما كانت إلا جزء من تدخلات خارجية لزعزعة أمن تلك الدول.
وعلى صعيد متصل، إعترف العديد من السياسيين الأمريكيين في مناسبات شتى بأن تغيير النظام الإيراني ليس بالضرورة أن يكون من خلال حرب تشعل الأخضر واليابس في هذه المنطقة المهمة جيوسيايساً وإقتصادياً، بل يجب أن ينطلق من الداخل، وذلك عن طريق تأجيج سخط الشعب ضد حكومته ودعم التظاهرات والإحتجاجات على سبيل المثال.
وأما الشكل الآخر من الحرب الهجينة، فهو إستخدام الهندسة الوراثية في الطب –كما أشرنا آنفاً- من أجل الحصول على أشكال جديدة من البشر. والمستوحاة من مشروع كريسبر (CRISPR) للتعديل الوراثي، والذي يستند إلى عملية قص الحمض النووي في خلية وإقترانه بجين وراثي معدل، عن طريق تعديل شريط الـDNA للحصول على إعادة هيكلة نسخة جديدة من الحمض النووي، ويمكن القيام بذلك من خلال خلايا مزروعة، بما في ذلك الخلايا الجذعية، التي يمكن أن تصبح عدة أنواع من الخلايا، كذلك الأمر في البويضة الملقحة، فاسحة المجال أمام إنتاج تعديلات وراثية مع طفرات محددة وليست عشوائية، مع إمكانية إستخدام عدة جينات في آن واحد.
يتم تطوير هذه الأساليب البحثية بسرعة كبيرة والتي ستكون لها تطبيقات عدة في المستقبل. وقد يتبادر إلى ذهن القارئ أن الحديث يدور عن فلم خيال علمي، لكن يمكن تصور جديّة الأمر بعد أن خرج رئيس دولة عظمى بوزن فلاديمير بوتين عن صمته وأعلن في خطابه خلال المهرجان العالمي للشباب والطلبة، والمنعقد في مدينة سوتشي الروسية شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2017م، بأن العلم بدأ يكتسب قدرة على التدخل في الرمز الوراثي (الشيفرة الجينية) للإنسان، والذي يعطي إمكانية خلق إنسان جديد بخصائص محددة، محذراً من مغبة إستخدام ذلك لخلق عسكريين يحاربون دون خوف أو رحمة أو شفقة أو حتى دون ألم، مما سيؤدي إلى أن تدخل البشرية في زمن صعب للغاية، واصفاً ذلك بأنه أخطر من القنابل النووية. وختم بوتين كلامه بالقول: “يجب أن لا ننسى أبداً الأخلاقيات الأساسية لأفعالنا”.
وبالعودة لموضوع نشر الفيروسات كجزء من الحرب الهجينة، أعربت روسيا عن قلقها العميق إزاء الأنشطة العسكرية البيولوجية المشبوهة التي يقوم بها خبراء أمريكيون في مخبر “لوغار” بجوروجيا، المخصص لبحوث مسببات الأمراض الوبائية الخطيرة.
وفي هذا الصدد، أصدرت وزارة الخارجية الروسية على موقعها الألكتروني (www.mid.ru) بتاريخ 26 مايو/ آيار 2020م بياناً أكدت فيه أن مختبر “لوغار” الذي أنشأته وزارة الدفاع الأمريكية في جورجيا ولا تزال تموله، يحظى بمستوى عال من الحماية البويولوجية، وتجرى فيه أبحاث مسببات الأمراض الوبائية الخطيرة خدمة لمصالح الولايات المتحدة، وينشط فيه خبراء من مديرية الأبحاث الطبية في القوات البرية الأمريكية، وتتم فيه دراسات علمية عسكرية حول استخدام الحشرات لنقل العوامل البيولوجية الخطيرة ومسببات الأمراض المعدية، وتستخدم طائرة مسيرة مصممة لنشر البعوض المصاب في الهواء. وأشارت الخارجية الروسية إلى أن الأبحاث الجارية في المختبر الذي يقع بالقرب من الحدود الروسية قد تكون منتهكة لمعاهدة حظر الأسلحة البيولوجية والسمية.
وصفوة القول، أن الجيوش الحديثة في الدول العظمى والمتقدمة تتابع وتعمل على قدم وساق من أجل مواكبة العصر وخاصة في موضوع الحرب الهجينة، وتنقسم الخطط إلى محورين أساسيين، الأول هجومي وهو تطوير أساليب الحرب الهجينة، والآخر دفاعي لتفادي أية هجومات هجينة معادية.