26 نوفمبر، 2024 1:43 م
Search
Close this search box.

الحروب الدينية

 ثمة حقيقة اوضح من ان تُجهل او تُتجاهل ، هي ان الحروب الدينية ما هي الا حروب ايديولوجيات سياسية لاحزاب وجماعات مالية او اقتصادية من اجل تكريس النفوذ ، فابشع الحروب الدينية تلك التي دارت رحاها في اوربا وبالتحديد في فرنسا بين الكاثوليك والبروتوستانت ، في احدى وقائعها يتكلم المؤرخون عن تشرد ثلاثمائة الف بروتستانتي في شوارع فرنسا بحثا عن ملاذ آمن ، فهي حروب كانت في حقيقتها صراع نفوذ بين قوى مجتمعية ، والمؤرخون يتكلمون عن بيوتات فرنسية متصارعة ، ثم ان البروتستانتية التي تعرضت الى ابشع انواع الاضطهاد في فرنسا تحالفت مع المتمردين في روما ايام الملك الفرنسي فرانسوا الاول الذي كان يحارب ايطاليا يومها ما جعله متسامحا معها ، وهذا يعني ان لا حرب دينية مقدسة ، وانما هو صراع مصالح يصاغ كايديولوجيات دينية ينفذها شذاذ افاق من ذوي التواريخ الملوثة تدار من خلال ماكنات غارقة في محيطات اجتماعية وثقافية مغلقة ، قوام هذه الماكنات من تجار الحروب والمقامرين والمضاربين والمرابين ، تستميل بخطابها المذهبي او الطائفي او الديني فئات بسيطة لا تحتكم على اي قدر مهما كان بسيطا من العلم الديني ، وان تلك الحروب تنهك المجتمع فتجعلة عرضة للفقر والتخلف لأن معظم الهاربين من جحيمها هم ابناء الطبقة الوسطى من الكوادر الادارية والعلمية وصغار الراسماليين التي تمثل عماد الثروة الوطنية ، ومن ثم فهي حروب تجارها هم الاكثر ثراءً في العالم ، كما انها وصفة سحرية لتحويل الرذائل الى فضائل ، واسباغ الورع والتقوى على كل الموبقات ، والدليل نوعية الجرائم التي ترتكب فيها ، فنحن نعلم ان فرنسا كان يسكنها هوس الاستعمار بهدف تحقيق مصالح طبقات لا علاقة لها بالدين ، حاولت وبطريقة لا تخلو من مكر قذر ان تضفي على احتلالها المقيت للجزائر صبغة دينية عندما أمر قائد الجيش الفرنسي المحتل بتحويل أكبر مساجد الجزائر العاصمة إلى كنيسة، فاقتحم الجنود الفرنسيون المحتلون الجامع وقت صلاة الجمعة وكان به أربعة آلاف مُصَلٍّ، قتلوا جميعًا ، والعثمانيون قاموا بالفعل نفسه ، رغم ان سيرة السلف لم تكن كذلك فدخول الجيوش الاسلامية الى القدس ايام الخليفة عمر بن الخطاب لم يرافقه تحويل كنائس الى مساجد بل تضمن عهدا من الخليفة بحفظ الحقوق الدينية للمسيحين .
في الواقع ان الغرب الذي ذاق مرارة الحروب الدينية عرف كيف يوظف هذا المرض العضال في تمزيق الشعوب ، وانا عندما اتكلم عن الغرب يحضر في الاصل الدور الصهيوني القذر في زرع الفتن واشاعة اجواء الاحتقان ، حتى ان البغداديين القدماء كان يروون حكاية عن الاحتكاكات الطائفية في بغداد التي كانت لا تتجاوز العراك بالايدي ، فيتكلمون عن شخصين مجهولين يظهران في شارع الرشيد وسط بغداد ، ينال احدهما من شخصية الامام علي عليه السلام ، وينال الاخر من شخصية الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فتنشب معركة بالايدي طبعا بين الطرفين ينظم اليها مويدي كل طرف ، وعندما تتدخل قوات الامن لتفض النزاع يختفي الشخصان اللذان اندلع الشجار على اثر كلامهما ، فتعرف قوى الامن فيما بعد انهما صهوينيان لا علاقة لهما بعلي ولا بعمر ، والمؤسف ان الحاجة الى الصهيوني في زرع فتنة الشقاق الطائفي قد انتفت اليوم بوجود ابواق للصهيونية من ملوك وامراء ومشايخ وائمة جمعة وخطباء ملعونيين على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ينفخون في نار الفتنة النائمة ليوقظوها ، والحقيقة ان هؤلاء لا علاقة لهم بالاسلام ، الى اي مذهب ادعوا الانتماء . 
فالمؤكد ان الحرب الدينية مفهوم لا وجود له في الاسلام ، صحيح ان اول مقصد من مقاصد الشريعة هو حفظ الدين الذي يتحقق بوسائل منها الجهاد كاحد فروع الدين ، وهو إذا أطلق في الغالب ينصرف إلى جهاد الكفار وقتالهم، من المعاندين ، والمحاربين، والمرتدين، والبغاة، ونحوهم، ومقصوده إعلاء كلمة الله تعالى ، فحفظ الدين وان اعتمد الجهاد وسيلة فانه ينطلق من تكوين الانطباع الحقيقي الاجمل عن الاسلام لتفعيل الدعوة الى الله تعالى من خلال ذلك التصور ، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (افضل الجهاد من اصبح لا يهم بظلم احد) ، فكيف تستقيم ممارسة من اطلقوا على انفسهم المجاهدين مع هذا القول الشريف ، ومع السياق الذي ينبغي ان يحفظ فيه الدين ، وان الجهاد بمفهوم الاسلام لم يشرع الا لرفع العدوان ومدافعة الطغيان لان الاسلام رحمة بدليل قوله تعالى { وما ارسلناك الا رحمة للعالمين} ، وهو جهاد دفاع وجهاد طلب الغرض من جهاد الدفاع ضمان حرية العقيدة والعبادة، وحماية الشعائر وأماكن العبادة بما فيها معابد اليهود والنصارى والرهبان، فهو لإصلاح الحياة ومنع الإفساد، وإيقاف الظلم والطغيان وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) وأما جهاد الفتح والطلب فهدفه إزالة العقبات التي تحول بين الناس وبين دعوة الإسلام، وتقف مانعا لهم من الاهتداء بهدي الله، وتصدهم عن سبيله، وتفتنهم عنه، وتحرمهم من أعظم نعمة وأكبر خير أنعم الله تعالى بهما بواسطة أنبيائه ورسله على عباده ، فالجهاد هدفه الدفاع عن المسلمين ولم يكن لاحد ان يعقد لواء جهاد الا للدفاع ، اما جهاد الهجوم ، اي جهاد الطلب المعروف بالجهاد الابتدائي ، حسب ما يطلق عليه العلماء ، فليس لاحد ان يعقد لواءه الا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وان بدعة الحروب الدينية التي يبتلى بها العالم الاسلامي بتمويل امراء النفط المتواطئون مع الصهيونية صاحبة ابشع تواريخ الحروب الدينية ، هي بدعة يراد من ورائها ان تتصادم مكونات الامة الاسلامية مع بعضها وصولا الى لحظة قطف الثمار التي هي رؤوس المسلمين انفسهم التي ستينع مع تصاعد وتيرة هذه الحرب القذرة
وقد التفت المخلصون من علماء الامة الى خطر انحراف مفهوم الجهاد ، ففي مؤتمرات اسلامية أعاد علماء مسلمون بارزون من بلدان اسلامية عدة  ، صياغة فتوى ابن تيمية في الجهاد التي يستند إليها المتشددون لتبرير القتل ، فراوا انه لم يعد هناك مجال لتطبيق تلك الفتوى التي تعود الى القرن الرابع عشر الميلادي، والتي تقضي بالعنف المتشدد وتقسيم العالم إلى دار إسلام  ودار كفر ، فلم يروا جوازا لفرد أو جماعة مسلمة اعلان الحرب أو الانخراط في الجهاد من تلقاء النفس محاولين رفض الاعتماد على نصوص إسلامية قديمة العهد لدحض حجج دينية راهنة ، ومؤكدين على إنه لا بد من النظر إلى فتوى ابن تيمية في سياقها التاريخي كفتوى تلزم معاصريها وليس لها الزام الذين ياتون بعدهم وفي غير ظروفهم ، لانها فتوى وليست حكما ، فحتى الاحكام ينبغي ان تفعل بما لا يتنافى وظروف الواقع الذي يتطلب تفعيلها ، ولكن ما يبدو ان فقه الخلاف الذي روج له الطغاة لتنشغل الامة بعضها ببعض ولا تلفت الى سراق الحكم وناهبي الثروات من ملوك وحكام تعفنوا على كراسي الملك والحكم ، ليترصد صاحب هذا المذهب ثغرات الفقه في ذاك المذهب وبالعكس ، هذا الفقه العقيم القائم على اجترار ما هو منجز من دون اية اضافة جعل الامة ناشطة في كشف سوءتها ، رغم اننا بحاجة الى فقه الاختلاف الذي يعني اننا نختلف من اجل ان ننوع السبل التي نكتشفها بالاجتهاد ، وهي سبل ، على الرغم من تعددها واختلافها ، موصلة الى الهدف الواحد وهو عبادة الله سبحانه وتعالى من خلال خلافة تقوم على عمارة الحياة كل الحياة وليس تدميرها كما يفعل مجاهدو التطرف بفتاوى مشبوهة.

أحدث المقالات