18 أبريل، 2024 4:28 ص
Search
Close this search box.

الحرب وصباغ ثياب الحزن

Facebook
Twitter
LinkedIn

صورة الحزن في وجوه المعدان لم أجدها حتى في آخر صورة لعائلة القيصر رومانوف يوم صفوهم البلاشفة لإعدامهم، ويوم وقف ابناء محلة السيف في مدينة الناصرية خلف  نعش المناضل الشيوعي (سيد وليد) الذي اغتاله الحرس القومي في 1963.
وفي صورة للممثلة النمساوية (رومي شنايدر) يوم رأيت ولدها يسقط من النافذة على نبال سياج الحديقة الحديدي ويموت، وبعده بأيام تصاب بكآبة وحزن مضطرب ثم تنتحر بعد ذلك.
وأخيرا الحزن السريالي الذي انتشر بغيوم معتمة ولامعة والتي رأيتها تحت اجفان ريكان يوم أتوا بولده شهيدا من جبهة خرم شهر (المحمرة).
هذا الحزن في تعريفه الروحي يمثل بوصلة الاستقرار في حياتهم، فمنذ أن تشتت الشعب السومري في مجاهل الاهوار وصعد شمالا هاربا الى قرى بابل بسبب الاحتراق الاخير لأور ومسح ممالكها من الوجود، ومرورا بكل مآثر الحزن العلوي في مصلى مسجد الكوفة وطف كربلاء وانتهاء بنحيب امهات ضحايا حرب برزان ومخافر زرباطية والشيب والطيب وانتهاء بموتى العطش عندما صنع القدر السياسي قرار تجفيف الاهوار ، وانتهاء بمن يموتوا اليوم من الامراض الحضارية الجديدة التي لم يألفوها من قبل مثل الضغط والسكر والربو يسجل التأريخ وقائع حياة شعب له مع الحزن ودمعته غراما عجيبا.
هذا الغرام تجسد في موسم راقبته جيدا عندما يأتي صباغ الملابس (الحاج كاظم) من الناصرية حاملا قدوره الكبيرة واكياس اصباغه النيلي والسوداء ويحط رحاله في قريتنا (أم شعثه) ليومين حيث يخلع المعدان دشاديشهم بالدور ويسلمونها اليه ويرتدون اخرى قديمة لديهم في انتظار ثيابهم المصبوغة الجديدة بلونها المعتم،  ولهذا تعودوا على ارتداء هكذا نيلي غامق بالسواد ويصيبهم قلق انتظار صباغ الملابس مع اقتراب اول يوم شهر محرم.
قبل ثلاثة ايام من بداية الشهر القمري، يفاجئنا في الصباح منظر الحبال الممتدة على ثايات قصب وقد تطايرت عليها الدشاديش الملونة فيما يتطلع اليها التلاميذ من خلال نوافذ الصفوف في حلم أنها ستتجفف تحت الشمس وسيرتدونها وقد استعان بنا الصباغ بتثبيت ورقة بأسم صاحب كل ثوب بورقة صغيرة.
لا أدري إن كان الصباغون يعاودون اليوم زيارة القرى مع قدورهم الكبيرة ليغيروا في اناقة اهل القرى هاجس الفرح ويحولوه الى اعلان تضامن مع صاحب مصيبة عاشوراء، وتبقى الملابس السوداء على اجسادهم ولن تغيرها النساء الى اثواب ملونة إلا في يوم (فرحة الزهراء).
تغادر الثياب مساحة حزن مؤجل الى عالم آخر، ويضاف صباغ ثياب الحزن الى جوقة من الجوالين الذين يأتون الى القرية بأوقات متفرقة، العطارون، العرافون، الغجر مركبي الاسنان، المندائيون الذين يصلحون المناجل ويمارسون الطي والتنجيم، بائع الخشالة، وآخر ايام في ذكريات مهنة التعليم وصلهم ذات يوم زورق فيه رجل ومعه صندوق فلين كبير يبيع صاحبه فيه (المثلجات ــ الموطا).
أولئك كل لهم خصوصيتهم في التعامل مع هؤلاء البسطاء الذين يحفظون عن ظهر قلب مواقيت وصول كل جوال ، غير أن لموعد وصول صباغ ثياب الحزن طعمه وقلقه لأنهم يعتقدون ان في هذا الشهر بدون ارتداء الثياب السوداء بنيلي غامق سوف لن يرزقوا بشيء وسوف يصابون هم ودوابهم بلعنة خفية..!

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب