26 ديسمبر، 2024 12:12 م

الحرب والسلام في عصر الذكاء الاِصطناعي

الحرب والسلام في عصر الذكاء الاِصطناعي

War and Peace in the Age of Artificial Intelligence
ما الذي سيعنيه للإنسانية عندما تصوغ الآلات الإستراتيجيات والسياسات الدولية
(قراءة نقدية)
تناقش المقالة “الحرب والسلام في عصر الذكاء الاصطناعي”، التي كتبها هنري كيسنجر وإريك شميدت وكريغ موندي، والتي أظهروا فيها أبعادًا جديدة لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في تشكيل مستقبل الحروب والسياسة الدولية. وتنطلق المقالة من فرضية أن هذه التكنولوجيا، التي باتت تتغلغل في شتى مجالات الحياة، إنما هي قادرة على إحداث ثورة في أنماط الصراعات والهيمنة الجيوسياسية على مستوى العالم. وقد سلطت الضوء على الإمكانات الهائلة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي في تعزيز الكفاءة والدقة، لكنها تحذر أيضًا من مخاطره على الاستقرار العالمي.
الذكاء الاصطناعي: إعادة تعريف مفاهيم الحرب والسلام
تطرح المقالة تصورًا طموحًا لدور الذكاء الاصطناعي في إعادة صياغة الحروب والسلام. وتشير إلى أن الذكاء الاصطناعي قادر على اتخاذ قرارات دقيقة وسريعة، مما قد يقلل الأخطاء البشرية ويجعل الحروب أكثر كفاءة. لكن هذه الفكرة تثير تساؤلات حول مدى قدرة الآلات على فهم التعقيدات الإنسانية. بينما تُظهر التكنولوجيا إمكانات عظيمة في تحليل البيانات واتخاذ قرارات استباقية، فإن افتقارها للجانب الأخلاقي يجعل من الصعب ضمان استخدام قراراتها بشكل عادل. على سبيل المثال، قد تُفضل الأنظمة الآلية الحلول التي تزيد الكفاءة على حساب الأرواح البشرية.
السباق التكنولوجي والاختلال الجيوسياسي
تناولت المقالة بذكاء التنافس المحموم بين القوى العظمى، ولا سيما بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، لتطوير قدرات الذكاء الاصطناعي. حيث يبرز هذا التنافس كعامل رئيسي لإعادة تشكيل النظام العالمي، فمن يمتلك التكنولوجيا المتقدمة سيكون الأقدر على فرض رؤيته السياسية والعسكرية والاقتصادية على مسرح الأحداث الدولية. ومع ذلك، فإن غياب التعاون الدولي في هذا السباق يُنذر بعالم أكثر انقسامًا، حيث قد تُستخدم التكنولوجيا لتعزيز هيمنة دول على حساب أخرى، مما يزيد من تعقيد النظام الجيوسياسي بدلًا من تحقيق التوازن.
الحروب الرقمية واستهداف البنية التحتية
أشارت المقالة إلى تحول نوعي في الحروب الحديثة، حيث أصبحت البنية التحتية الرقمية هي الهدف الرئيسي للصراعات بدلًا من الجنود. ويمكن أن يؤدي هذا التحول إلى تعطيل شامل لأنظمة الحياة اليومية، مما يعزز الفوضى الاجتماعية، ويهدد الاقتصادات الوطنية. وعلى الرغم من أن هذا النوع من الحروب قد يبدو أقل دموية، إلا أن تداعياته النفسية والاجتماعية والمالية، قد تكون أشد قسوة. ولكن كان من المهم أن تناقش المقالة إمكانية وضع بروتوكولات دولية للحد من استخدام هذه الهجمات الرقمية، مع تحديد آليات لحماية المجتمعات الهشة، والدول الصغيرة والمتوسطة والتي ستقع في دوامة الاستنزاف والصراع بين الدول الأكثر قوة وتأثيراً وفاعلية.
الشركات الكبرى كقوى سياسية جديدة
تثير المقالة تساؤلًا محوريًا حول الدور المستقبلي للشركات التقنية الكبرى مثل Google وAmazon، والتي باتت تمتلك موارد هائلة تؤهلها لتجاوز الدول القومية في السلطة والنفوذ. وإذا استمرت هذه الشركات في احتكار التكنولوجيا، فقد نشهد نظامًا عالميًا تُدار فيه القوة من قبل كيانات تجارية، وليس حكومات منتخبة. وبالتالي، فإن هذا السيناريو يُنذر بخطر تفاقم الفجوة بين الطبقات الاجتماعية إذا لم تُفرض أطر تنظيمية فعالة تُلزم هذه الشركات بالمسؤولية الأخلاقية والاِجتماعية.
الحياد الأخلاقي للذكاء الاصطناعي: واقع أم وهم؟
تروج المقالة لفكرة الحياد الذي قد يوفره الذكاء الاصطناعي، غير أنه في الواقع يتأثر ببياناته الموجهة. وعلى سبيل المثال، إذا كانت البيانات المستخدمة في تدريب الأنظمة تعكس تحيزات بشرية أو مؤسسية، فإن القرارات الناتجة ستكون مشوهة وغير عادلة. ويشير هذا إلى ضرورة مراجعة تصميم هذه الأنظمة بشكل دوري لضمان عدم استغلالها لأغراض غير أخلاقية.
قراءة نقدية ..
تُظهر المقالة وعيًا عميقًا بالتأثيرات المحتملة للذكاء الاصطناعي، خاصةً في إعادة تشكيل مفاهيم الحرب والسلام. كما تُسلط الضوء على أهمية الاستعداد لمواجهة تحديات التكنولوجيا بدلًا من الاكتفاء بالتحذير منها. فالأفكار التي طرحتها المقالة حول الحروب الرقمية، والشركات الكبرى تضيف زخمًا جديدًا للنقاش الأكاديمي حول قضايا الهيمنة والسيادة والهوية، ودور الإنسان في عملية التغيير.
علاوة على ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي يقدم فوائد متعددة في المجالات العسكرية والتعليمية والاجتماعية. ففي المجال العسكري، تُستخدم أنظمة مدعومة بالذكاء الاصطناعي مثل الطائرات المسيّرة، وأنظمة الدفاع الذكية للكشف عن التهديدات والتصدي لها دون تعريض الجنود للخطر. وتعليمياً، لتعب تقنيات الذكاء الاصطناعي دوراً مهماً في تقديم تجارب تعلم مخصصة، مثل اِستخدام منصات تعليم اللغات التي تُكيف المحتوى بناءً على احتياجات المتعلم. وفي مجال الطب، مثلاً تستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي لتحليل صور الأشعة السينية، وتحديد الأورام في مراحلها المبكرة بدقة تفوق الأطباء التقليديين، مما يعزز فرص العلاج الناجح. وهذا النوع من التطبيقات يختصر الوقت اللازم للبحث والتشخيص، ويفتح آفاقًا جديدة لتطوير حلول مبتكرة في مجالات متعددة. وهكذا، فإن الذكاء الاصطناعي هو أداة حيوية لدفع عجلة التقدم العلمي والتكنولوجي. واجتماعياً، يؤثر الذكاء الاصطناعي في تحسين جودة الحياة من خلال إدارة المدن الذكية، مثل تنظيم حركة المرور عبر إشارات ذكية، وتقديم الدعم لكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة من خلال روبوتات مساعدة. وهذه التطبيقات تُظهر الإمكانات الكبيرة للذكاء الاصطناعي في تعزيز الأمن، والتعليم، والرفاه الاجتماعي.
ومهما يكن، فإن المقالة تُظهر ميلًا للتفاؤل دون تناول شامل للمخاطر. وغياب الحديث عن الأطر القانونية والأخلاقيات يجعل الطرح ناقصًا، كما أن تجاهل الأبعاد الثقافية والاجتماعية يضعف النقاش حول التأثيرات المتباينة للتكنولوجيا على المجتمعات المختلفة. فضلاً عن ذلك، فإن المقالة لم تقدم حلولًا واضحة لتنظيم اِستخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب، مما يترك القارئ أمام تساؤلات مفتوحة حول كيفية تجنب هذه المخاطر. ومثال على ذلك تقرير مجلس العلاقات الخارجية (2023)، الذي أشار إلى أن الشركات التكنولوجية الكبرى بدأت بالفعل تؤثر على سياسات الدول من خلال احتكار تقنيات الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية للبيانات.
كما تطرح المقالة اِحتمال تشكيل تحالفات بين الشركات، ولكن هذه التحالفات قد تصبح أدوات اِحتكار عالمي تُعزز سيطرة القلة على موارد المعرفة والابتكار. وبدا غياب التصورات المستقبلية، حيث تتحدث عن إعادة تشكيل النظام الجيوسياسي، وتغفل عن ذكر كيفية تجنب الانحرافات الناجمة عن الذكاء الاصطناعي. ويطالعنا هنا كتاب “Weapons of Math Destruction” لكاثي أونيل يوضح أن الخوارزميات يمكن أن تؤدي إلى استدامة الأنظمة غير العادلة إذا لم تُراقب بعناية.
وقد ناقشت المقالة “أزمة الثقة” في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، ولكنها قللت من خطر التحول إلى اِعتماد مفرط على التكنولوجيا. وتُظهر لنا تجربة شركة “Cambridge Analytica” عام 2018 كيف يمكن للتكنولوجيا أن تُستخدم للتلاعب في العمليات الديمقراطية، مما يعزز الشكوك تجاه الرؤى والحلول التكنولوجية.
كيف نقرأ مراحل الحروب والسلام في عصر الذكاء الصناعي؟
مع استمرار تطور الذكاء الاصطناعي، يصبح من الضروري تبني رؤية استشرافية شاملة تعتمد على التوازن بين إبراز دور الذكاء، ومواجهة تحدياته في مراحل الحرب والسلام.. وتعتبر الأمور التالية خطوطًا عريضة لتحقيق هذا التوازن:
تطوير أطر قانونية دولية: يجب أن تتعاون الدول لوضع قوانين دولية واضحة تُنظم استخدام الذكاء الاصطناعي، خاصة في المجالات العسكرية. من شأن هذه القوانين أن تمنع إساءة استخدام التكنولوجيا وتحمي المدنيين والبنية التحتية من الآثار السلبية للحروب الرقمية.
تعزيز الشفافية والمساءلة: من الضروري أن تكون عمليات تطوير الذكاء الاصطناعي خاضعة لرقابة شفافة من قبل هيئات دولية مستقلة. وينبغي على هذه الهيئات ضمان عدم استغلال التكنولوجيا لأغراض الهيمنة أو تحقيق مصالح ضيقة.
التعاون الدولي لمواجهة التفاوت التكنولوجي: يجب أن تساهم الدول المتقدمة في بناء قدرات الدول النامية في مجال الذكاء الاصطناعي لتجنب تزايد الفجوة التكنولوجية، التي قد تؤدي إلى المزيد من الصراعات.
إدماج القيم الأخلاقية في تصميم الأنظمة: ينبغي أن تُصمم أنظمة الذكاء الاصطناعي بناءً على مبادئ إنسانية تراعي الأخلاقيات العالمية، مثل احترام الحياة وحقوق الإنسان. يمكن تحقيق ذلك من خلال تضمين فرق متعددة التخصصات تضم علماء أخلاقيات، مبرمجين، وعلماء اجتماع في مراحل تطوير التكنولوجيا.
تعزيز التعليم والوعي التكنولوجي: لمواجهة التحديات الناتجة عن الحروب الرقمية، يجب أن تركز الدول على تعليم الأجيال القادمة كيفية التفاعل مع التكنولوجيا بوعي ومسؤولية. كما يجب تعزيز برامج تدريبية تستهدف القادة وصناع القرار لتزويدهم بمعرفة عميقة حول الذكاء الاصطناعي وتأثيراته.
وفي نهاية المطاف نقول: تُقدم المقالة “الحرب والسلام في عصر الذكاء الاصطناعي” رؤى مثيرة حول الدور المتنامي للتكنولوجيا والرقمنة في إعادة تشكيل الحروب والسياسة الدولية. ومع ذلك، فإن تبني هذه الرؤى يتطلب تطوير إستراتيجيات متكاملة ومتوازنة، وإنه من الضروري أن تضع البشرية أطرًا تنظيمية وأخلاقية تُسخِّر الذكاء الاصطناعي لتحقيق السلام والتنمية بدلًا من إشعال حروب وصراعات جديدة. ويبقى نجاح الذكاء الاصطناعي في خدمة الإنسانية مرهونًا بإرادة دولية واعية تسعى لتحقيق العدالة والسلام والاستقرار.

توثيق المقالة الأصلية:
Kissinger, H., Schmidt, E., & Mundie, C. (2024). War and Peace in the Age of Artificial Intelligence. Foreign Affairs. War and Peace in the Age of Artificial Intelligence | Foreign Affairs

أحدث المقالات

أحدث المقالات