23 ديسمبر، 2024 5:30 ص

الحرب في قرية المؤمنين

الحرب في قرية المؤمنين

عليَّ أن اعتذر من صديقي الروائي الكبير نجم والي ، حين استعير شيئا من ظلال عنوان احدى رواياته كعنوان لحكاياتي هذه ، بالرغم أني اعيش تأثير أجواء كتابي الذي كتبته عن عالم نجم الروائي وكان عنوان الكتاب هو ( نجم والي ..حرب المعدان وحرب الألمان )

وليس لرواية نجم ( الحرب في حي الطرب ) أي تأثير على قصتي هذه ، لأني اعيش وقائع لحظات ساهمتُ بصناعة بعض من مراثيها حين أختارني رأس عرفاء الوحدة لأكون مأمورا مع نعش جندي فتل في القصف وعلي واحد من أبناء محافظته أن يكون كفيلا بإيصال النعش الى أهله في قرية المؤمنين القرية الواقعة على ضفاف سواقي الاهوار قرب ناحة كرمة بني سعيد .

أخذت النعش مودعا بدموع جبلية لتستقبلها هناك الدموع السومرية التي يختلط نحيبها بصوت القصب وتراتيل الوداع التي تطلقها حناجر الطيور يوم تغادر الأهوار وهي تعود الى مساكنها في اوربا وكندا وسيبيريا.

وصلت الى قرية المؤمنين ، لم أسمع بها من قبل ، ولكنها كانت وديعة وهي تحتفي بالمياه والهدوء واعتقدت حينها أن سبب تسميتها بالمؤمنين ربما يعود الى طقوس الصلاة والمجالس الحسينية الكثيرة التي يقيمها ابناؤها ، ولم أسأل عن سبب التسمية وقتها لأني كنت مندهشا من رباطة جأش والد الفقيد وتقبلهُ موت ولده بصمتٍ ودمعة خفية وراء عينيه فيما ابقى شيئا من ملامح ابتسامة صابرة ولم يتلوا شيئا على النعش بعد قراءة الفاتحة سوى همسته : الى هنا توقفت سفينة نوح وعليك أن تهبط منها لتستقل راحلة اخرى الى السماء.

وقتها اعجبتني ثقافة الرجل وربما ادركت لماذا سميت هذه القرية بالمؤمنين ، عانقت الرجل ، شكرني ودعاني الى بيته لتناول الغداء ، اعتذرت وقفلت راجعا الى بيتنا ،استريح من مشاهد حزن عرب الاهوار حين تسلب منهم الحرب رجلا في مقتبل العمر.

ذات يوم كنت امام التلفاز وكان هناك برنامجا ثقافياً تقدمه الروائية والاعلامية السيدة ابتسام عبد الله وكان ضيفها الشاعر العراقي الكبير المرحوم الدكتور مصطفى جمال الدين ، وتفاجأت أن المرحوم الدكتور جمال الدين من مواليد قرية المؤمنين ، وأنه سليل عائلة المرزات التي كانت مرجعية مهمة لبعض رؤى المذهب الشيعي ومدارسه ، ولحظتها كانت هناك لقطات ارشيفية للسيد وهو يتجول في قريته ، لأستعيد معه ذكرياتي يوم حملت اليها نعش صديق لي في ذات الفصيل سرقته الحرب.

دارت الايام ، والتقيت بصديقي ابراهيم مصطفى جمال الدين القنصل العراقي  دمشق ، وكنا نسهر كل ليلة في نادي الشباب في منطقة المزة ، فعدت استذكر مع صديقي ( أبو زيد ) ذكريات المكان الذي لم يره منذ سنوات عديدة.

وسوية نستعيد مخيلة المكان في دفئة وسحر طبيعته واختصار تواريخه كما رواه لي سيد إبراهيم : فقد كان جده الميرزا وأبوه الميرزا حسين حلقتين ممهدتين للمكان حيث أصبحت قرية المؤمنين بوجوده محجا لأفراد العشائر ولمعظم القرى المحيطة بها , فقد كانت تقام صلاة الجمعة فتجتمع أفراد العشائر ليؤدوا الصلاة خلف الميرزا في ذلك الجامع الذي تقام فيه الصلوات الخمس من قبل سكان القرية والمرجع الديني للقبائل المحيطة بتلك القرية … فيستمع الناس إلى وعظه ثم ليؤدوا صلاة الجمعة التي تقام من قبله في المسجد الجامع , وبعد تناول طعام الغداء على مائدته يعودون إلى قراهم مستبضعين ما يحتاجون إليه من السوق الموسمي في هذه القرية الذي كان يسمى سوق الجمعة .