أين نحن اليوم من المجتمعات الاخرى؟ هم عالم ونحن عالم اخر. هم غادروا ما نحن عليه اليوم قبل نحو ٣٠٠ سنة. من يومها وهم يرسخون حضاراتهم المتقدمة. قضوا على التخلف وحلوا مكانه التقدم في كل شيء. حولوا التباين الثقافي وصراعاته الى تنوع ثقافي ، فضلا عن انهم ابعدوا التعصب العرقي عن النزاع. وأصبح من حينه التعايش السلمي والتسامح الفكري والتعاون الإنساني وقدسية العيش المشترك هي العلامات البارزة التي اختص بها الانسان الحديث واصبحت هذه المنجزات بمجموعها الإطار العام لمجتمعاتهم الحضرية والرابط لها وصِمَام الأمان الضامن لوجودها. اما نحن فمازلنا عند المربع الاول لحياة البداوة حيث التخلف وحيث التباين الثقافي وحيث النزاع العرقي ويبدو من مجموع هذه التناقضات ، اننا قد اخذنا على أنفسنا عهدا ان لا نغادر هذا المربع أبدا. بل نحيا ونموت فيه.
استفادت المجتمعات الأوربية بدون شك من المكاسب التي جنتها من الثورة الصناعية في أوربا ، استفادت منها في بناء مجتمعات رصينة لها ثوابت قومية ووطنية لا ينبغي ان تتزحزح عن مكانها ، وليس بأستطاعة اي احد بالتعريف الفردي او الجماعي ان يتجاوزها. بينما نحن وظفنا الأموال الهائلة التي جنيناها في ما لا ينفع مجتمعنا. فبدلا من توظيفها لبناء إنسان متعلم فكريا وسليم بدنيا ومتحضر اجتماعيا ، وبدلا من توظيفها في القضاء على التخلف الذي ينخر جسد المجتمع وتحويله الى تقدم ، استثمرنا العوائد التي تحلم كل الشعوب الآخري ان يكون عندها مثلها ، وظفناها لتمويل الحروب وقتل شبابنا بأيدينا ووظفناها في الإفساد علينا وعلى الآخرين الأحلام التي كنّا وكانوا يتمنون تحقيقها. وياريت كنا وقفنا عند هذا الحد ، بل عمدنا من بعد ذلك ، وبنفس الأموال ، وتحت مسميات مريضة اخرى ، الى مقاتلة انفسنا بانفسنا ، بعد ان خلقنا مرتكزات من التباين الثقافي والنزاع العرقي والانتماء السياسي المتعصب لتعرض هذه الأمور بتراكماتها معضلة اقرب ما يمكن ان توصف به انها عصية على الحل.
قبل ايام قليلة جرى تصويت في بريطانيا حول البقاء في الاتحاد الأوربي او الخروج منه وكانت النتيجة ان صوت الشعب للخروج وخلافا لرأي رئيس الحكومة ديفيد كاميرون الذي كان يقود الحملة للبقاء. فأستقال على الفور من منصبه ودعا حزبه لان يختار غيره لقيادة البلاد في وضعها الجديد. لم يخلق لنفسه الاعذار كي يستمر في السلطة ، كأن يقول هذه إرادة شعب ولابد ان تحترم والى ما شاكل ذلك. المخاتلة والمراوغة انتهى عصرها عندهم. فلا المجتمع يقبل بها ولا الحكام يرضوها لأنفسهم. وعندما ننتقل الى مجتمعنا فقد قال عضو قيادة في النظام السابق ووزير لثلاث وزارات خلال سنين قليلة انه علم من وسائل الاعلام بغزو العراق للكويت.
الخطوة المطلوبة منا جميعا ، ان كنّا نريد ، ان نرسي سفينة العراق على شاطيء السلام ، ان نبحث وبموضوعية عن المناخ الذي يمكن ان يوصلنا لذلك. نبحث عن نفس المناخ الذي تهيأ من قبل للمجتمعات الاخرى لان تنجوا بنفسها من المخاطر التي كانت تحيط بها لتبحر بعيدا عنها. وربما تكمن الخطوة الاولى في ان نوجد تفاهمات عامة ومقبولة من الجميع ، تفاهمات تجمع ولا تفرق ، تبني ولا تهدم ، تتسامح ولا تتشدد. ان الدعوة لهذا او ذاك او تفضيل هذا على ذاك لا بأس به وغير مضر على الإطلاق إن تركنا مسافة بين ما نحب نحن وما يحب الآخرون. ديني لنفسي ودين الناس للناس.
ان الأخذ بهذا الاتجاه يمكن ان يوفر الفرصة للجميع. كل الأمور المثيرة للجدل والنزاع الان لو نظرنا اليها من زاوية اخرى غير الزاوية الحالية التي تخيم علينا لاكتشفنا وبسرعة ان اختلاف الاّراء لا تفسد للود قضية.
هل ما كان عند المجتمعات الاخرى أمور بسيطة او غير معقدة استطاعوا ان يتجاوزوها بسهولة وانسيابية ليتفرغوا بعد ذلك لوضع الأسس المتينة لمجتمعات مستقرة ومتحضرة؟ بينما ما عندنا نحن أمور في غاية الصعوبة والتعقيد تدعو دوما الى التناحر والانشقاق ولا حل لها غير التباعد والافتراق؟
لا اعتقد ذلك. مثلما عندنا اليوم ، كان عندهم في الامس وربما اصعب مما عندنا. ولكن حققت تلك المجتمعات بتصميمها على النهوض ثورة صناعية كانت جديدة على الانسان في كل مكان. أشبعت الجياع الذين كانوا يملئون الارض ، وأمنت الناس نحو مستقبلهم المعاشي. ووفرت الفرص الواعدة لقطاع واسع جدا من الناس ، وكان لهم رجال عقلاء وعظماء قادوا لهم الأفكار التنويرية التي عمت المجتمعات الأوربية في حينه ليقوم بعد ذلك كل مجتمع من تلك المجتمعات بأكمال الرسالة التنويرية التي بدأها المجتمع الاخر حتى اصبح الفكر التنويري شائع ولا يقاوم.نحن ايضا لنا المقومات الاقتصادية التي لا تعد ولا تحصى ، التي يمكن عند استخدامها بالطريقة الصحيحة والرشيدة ، ان تؤمن لأبناء المجتمع العراقي مستقبلهم المعيشي وتقضي على التخلف الكابس على انفاس موطنينا ، ولدينا كذلك كثر من الرجال الذين يمكن ان يقودوا الفكر التنويري لمجتمعنا والذي طال انتظار بزوغه.